حدجامي يقدم قراءة مفتاحية لفلسفة جيل دولوز عن الاختلاف والوجود
على رغم من أن الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 ـ 1995) كان قد بدأ بنشر مؤلفاته منذ عام 1953، ألا أن ما كتبه لم يجد طريقه إلى القارئ العربي مُترجماً إلا نهاية القرن العشرين، وعلى نحو مكثف؛ فقد ترجم حسن عودة كتاب “فلسفة الصورة”، عام 1997، وترجم مطاع صفدي، في العام ذاته، كتاب “ما هي الفلسفة؟”، وفي العام نفسه ترجم أسامة الحاج كتاب “البرغسونية”، وبعد عام تُرجم أيضاً كتاب دولوز عن (نيتشه)، وفي عام 1999 ترجم عبد الحي أزرقان وزميله أحمد العلمي حوارات مع دولوز وكلير بارني بعنوان “حوارات”، ومن ثم توالى ظهور ترجمات نصوص فلسفية أخرى إلى العربية، وأغلبها جاء بعد وفاته.
ومع هذا الكم اللائق لمعرفة الخطاب العام لفلسفة جيل دولوز، في أقل تقدير، لا نجد كتاباً عربيا تناول فلسفة الرجل مثلما فعل الدكتور عادل حدجامي من المغرب في كتابه “فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف”، الذي صدر عن دار توبقال للنشر في الدار البيضاء عام 2012، والذي حاز على جائزة مغربية محلية، وأخرى عربية ـ دولية هي جائزة الشيخ زايد للمؤلِّف الشاب في دورتها السابعة 2013.
وسبقه، في هذا السياق، كتاب الباحث الدكتور جمال نعيم “جيل دولوز وتجديد الفلسفة”، الصادر عن المركز الثقافي العربي في بيروت عام 2010 مع الفارق في القراءة والمعالجة.
منذ نهاية القرن الماضي، أخذتُ أقرأ نصوص دولوز الفلسفية وهي تُترجم بوتيرة متلاحقة الأثر في تلك الفترة، وكانت قراءتي استطلاعية أولية، لكنني دخلتُ إلى عالم فلسفته، وعلى نحو مركَّز، عندما طلبت مني مجلة “الكوفة”، وهي مجلة أكاديمية فصلية محكَّمة تصدر عن (جامعة الكوفة) في العراق، المشاركة ببحث يتناول فلسفة دولوز في العلامة.
كان ذلك في عام 2012، ويومها كان كتاب الدكتورعادل حدجامي “فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف” قدر صدر في الدار البيضاء، وتحصّلت على نسخة منه، ووجدتها فرصة لقراءة الكتاب حتى وجدتُ فيه ما يشفي غليل الباحث من حيث التعرُّف، وعلى نحو شامل، إلى فلسفة دولوز في أغلب مفاصلها الحيوية، فأنجزتُ البحث الذي جاء بعنوان “ملاقاة العلامة.. قراءة في سيميائيات جيل دولوز”، وتم نشره في المجلة المذكورة بعددها (الأول)، من (السنة الثانية)، شتاء 2013، (ص 129 ـ 144).
لقد جاء كتاب حدجامي كضرورة ملحة للقارئ العربي كونه فرش مفاصل فلسفة دولوز درساً وتحليلاً وإعادة بناء، ولذلك تعد قراءة حدجامي ذات طابع مفتاحي لفلسفة الرجل، والتي أتت تمهيد وثلاثة أقسام تابعت بجهد تحليلي حضورية انهمام دولوز في المشهد الفلسفي المعروض له عبر تاريخ الفلسفة الطويل، الذي ولجه حدجامي من أبواب قلبه أو من نوافذ وسطه المحض ذاك الذي بناه ـ دولوز ـ ليس بعيداً عن إشكاليات الفلسفة العتيدة، سواء فيما هو أنطولوجي أو أكسيولوجي أو إبستمولوجي، وهي الأقسام التي ضمَّت فصول الكتاب التسعة عشر.
يمكن اعتبار جيل دولوز ابناً شرعياً باراً لفلسفة القرن العشرين. ولذلك لم يغفل حدجامي بحث العلاقة بين دولوز وبعض الفلاسفة الذين تداخل معهم في قراءاته وفي أبحاثه الفلسفية؛ فدولوز كتب عن فلاسفة بعينهم مثل: نيتشه، وكانط، والبرغسونية، ومن ثم سبينوزا، كتباً قائمة برأسها يعتقد حدجامي أنها ذات طبيعة مدرسية ملأت الفترة الأولى من مسار دولوز الفلسفي، ومثلت أحداثاً فكرية في حينها، سواء من جهة موضوعها أو منهجها الذي أراده دولوز أن يكون حراً أو إبداعياً يقدِّم توليفه الخاص وتشكيله الشخصي لصورة الأسماء التي اشتغل عليها. ولذلك، حرص حدجامي على قراءة برغسونية دولوز في الفصل الأول، وتجريبيته الجذرية في الفصل الثاني بالإشارة إلى ديفيد هيوم، وخطاب الرغبة وما يلحق به من فلسفات جزئية تتعلَّق بالتحليل النفسي في إشارة إلى كل من سيجموند فرويد وميشيل فوكو في الفصل الثالث، والقيم التراجيدية في الفصل الرابع إشارة إلى العلاقة بين نيتشه والفلسفة، وفي الفصل الخامس قرأ العالم بوصفه “إيتولوجيا” من جهة الكيف في التركيب، والكم في الحركة إشارة إلى قراءة دولوز لفلسفة باروخ سبينوزا في كتابه العميق (سبينوزا ومشكلة التعبير).
لقد توجَّهت قراءة حدجامي المفتاحية لفلسفة دولوز صوب برنامجها الزمني الذي ظهرت فيه، بما لا يخلو من تصويبات للقراءات المبتسرة التي نظرت في فلسفة دولوز من دون الإحاطة الشاملة لها في مرحلتها الأولى.
وفي القسم الثاني من الكتاب درس حدجامي موانع الفكر وإبدالاتها أو محاولة دولوز بناء مفاصل فلسفة تتحدَّد فيها الحقيقة كإنتاج، والذات كتوليف وصيرورة، والعالم كشدَّة، والتفكير كصدام وتلاق عنيف بين الملكات البشرية، وذلك من خلال أربعة فصول درس فيها على التوالي: الصورة الوثوقية ومسلّمات التأسيس، والصورة الوثوقية ومسلّمات النتائج، والشدّة والوعي، والشدّة والإدراك، وماهية الفكر من حيث المفهوم والبَساط، والحقيقة كإنتاج.
وفي كل ذلك، وبحسب قراءة حدجامي، أثبت دولوز أسبقية العرضية على الضرورة، والحركة على السكون، والجغرافيا على التاريخ، والجذمور (Rhizome) على الجذور، والمحايثة على التعالي، وخطوط الانفلات على نقط التمركز والثبات، وهو ما صبَّ في إثبات أولوية قوة الغمر والكاوس كطاقة خلق وتحويل لا متناهية على نظام الكون الساكن والقار.
مع القسم الثالث، وبفصوله السبعة، راح حدجامي يتأمَّل إشكالية الوجود لدى دولوز من خلال معاينة العلاقة بين أنطولوجيا التواطؤ ومنطق الحدث بمسائلهما الرئيسة كالعلاقة بين الوجود والتواطؤ، والزمان، والاختلاف، والحدث، والجذمور بوصفه جسماً بلا أطراف، وتلاقياً من دون تركيب أو توليف، والتفرُّد، وأخيراً اللغة، وهي مفاهيم دولوزية كشفت عن فلسفة الرجل في الوجود والمحايثة.
وفي هذا السياق، نلاحظ أن حدجامي لا يتوافق مع جملة التأويلات الفلسفية التي تقرأ دولوز بوصفه فيلسوف وجود أو فيلسوف أنطولوجيا وفق النَّمط الكلاسيكي؛ فكان مقصد حدجامي من قرائته الكشف عن محرِّك فلسفة دولوز الأول ودافعها؛ إذ أن طموح دولوز لم يكن أنطولوجياً، بل قيميٌ شأنه شأن فردريك نيتشه، فهو ليس فيلسوف أنطولوجيا، ولا فيلسوف نظرية معرفة، وما حديثه في الوجود أو في المعرفة سوى تحصيل حاصل كان الهدف منه الركون إلى ما هو قيمي، فقد كانت غاية دولوز - بحسب حدجامي - إثبات فكرة المحايثة بالانتصار للعالم كما هو، وبالإيمان بالحياة كما هي؛ في اختلافها وتنافرها وتعدّدها؛ إثبات العالم ضد العدم، والحياة ضد الموت، وترسيخ قوى الطبيعة والأرض ضد التعالي، وما عدا ذلك ليس سوى طرائق سلكها دولوز لتقرير غايته من الوصول إلى بناء رؤية قيمية للوجود والإنسان والطبيعة والكون.
ومثلما دخل جيل دولوز إلى مسرح الفلسفة متسلِّحاً برؤية تجديدية تعتمد على منظومة من المفاهيم الفلسفية الإجرائية والنظرية فأصاب مجتهداً في بناء رؤيته، كذلك فعل الدكتور عادل حدجامي الذي خاض غمار الدخول إلى روح فلسفة دولوز، فوطئ منبع عطرها، وسافر مع شذاها إلى روحها، وعاد إلى القارئ العربي بقراءة منهجية محايثة فتحت طيّات الخطاب الدولوزي عبر تلاق مباشر بعيداً عن أي تواصل لا يؤدِّي بنا إلى روح وقلب ذلك الخطاب.
http://www.alittihad.ae/details.php?id=98610&y=2013&article=full