ما زلت أذكر أوّل بطاقة مكتبة اقتنيتها. لا بدّ أنّ ذلك كان قرابة عام
1957. أخذتني والدتي إلى المكتبة العامّة عند باترسي بارك رود Battersea
Park Road وقامت بتسجيلي. كنت منتشياً. كلّ تلك الكتب ! وكان مسموحاً لي أن
أستعير منها ما أريد. وأتذكّر بعضاً من أوّل الكتب التي استعرتها ووقعت في
حبّها : كتب Moomin ل توف جانسون، رواية فرنسية للأطفال تدعى مائة مليون
فرنك، لماذا أحببتها؟ لماذا قرأتها مراراً ومراراً، وقمت باستعارتها عدّة
مرّات؟ لا أدري. لكن يا لها من هديّة تقدّمها لطفل، هذه الفرصة لاكتشاف أنّ
باستطاعتك أن تحبّ كتاباً والشخصيّات التي فيه، يمكنك أن تصير صديقاً لهم
وتشاركهم المغامرات في خيالك أنت.
وسرّيّتها. الخصوصيّة المباركة! إذ لا أحد آخر يمكنه التدخّل، لا أحد آخر
يغزوها، لا أحد آخر يعرف حتّى ما الذي يجري في ذاك الفضاء الديمقراطيّ
المفتوح المليء بالإثارة، مليء بالمتعة والخوف، مليء بالدهشة، حيث تُرَدّ
مشاعرك وأفكارك إليك موضّحةً، مضخّمة، منقّاة ومقيّمة. أنت مواطن في ذلك
الفضاء الديمقراطيّ الكبير الذي ينفتح بينك وبين الكتاب. والذي أعطاك إيّاه
هي المكتبة العامّة. هل أستطيع إيصال أهميّة تلك الهديّة؟
في مكان ما في Blackbird Leys، في مكان ما في برينسفيلد Berinsfield، في
مكان ما في بوتلي Botley، في مكان ما في بنسنBenson أو بامبتون Bampton،
إذا ذكرت فقط الأمكنة في أوكسفورد شاير Oxfordshire التي تبدأ بحرف B والتي
سيتمّ إلغاؤها، في مكان ما في أيّ منها يوجد الآن طفل، هناك أطفال، مثلي
في ذاك الزمن في Battersea، أطفال يحتاجون فقط القيام بالاكتشاف ليعرفوا
أنّهم أيضاً مواطنون في جمهوريّة القراءة. المكتبة العامّة فقط تستطيع
إعطاءهم تلك الهبة.
ثمّ جئت إلى أوكسفورد طالبًا قبل التخرّج، وكانت جميع كنوز مكتبة
Bodleian، إحدى أعظم المكتبات في العالم، مفتوحة لي – نظريّاً. أمّا
عمليّاً فلم أتجرّأ على الدخول. كنت مرتعداً أمام كلّ تلك العظمة. لم
أتعلّم أساليب التصرّف في Bodleian إلى ما بعد ذلك بكثير، عندما كبرت.
المكتبة التي استخدمتها طالبا كانت المكتبة العامّة القديمة.
ذكرى أخيرة، هذه المرّة منذ قرابة السّنتين، كنت أحاول معرفة أين تسير
جميع الأنهار والينابيع في أوكسفورد، من أجل كتاب كنت أكتبه بعنوان كتاب
الغبار The Book of Dust. ذهبت إلى المكتبة المركزيّة، وهناك بمساعدة من
أحد أفراد الكادر الأذكياء، استطعت إيجاد بعض الخرائط القديمة التي أظهرت
لي بالتحديد ما أردت معرفته، صوّرتها، وهي الآن معلّقة على جداري حيث
أستطيع أن أرى بدقّة ما أريد معرفته.
أحبّ المكتبة العامّة لما قدّمته لي طفلاً وطالباً ثمّ رجلاً ناضجاً.
أحبّها لأنّ وجودها في بلدة أو مدينة يذكّرني أنّ هناك أشياء تتفوّق على
الربح، أشياء لا علاقة لها بالربح، أشياء لها القوّة لتهزم الشبح الجشع
لأصوليّة السّوق، أشياء تعني اللباقة المدنيّة والاحترام العام للخيال
والمعرفة، وقيمة البهجة البسيطة.
اتركوا المكتبات لحالها. إنها أثمن بكثير من أن تدمّر.