احتلّ
الشأن الإيرانيّ في السنوات الأخيرة جانبا من صدارة المشهد الإعلامي مبرزا
بذلك المكانة التي يسعى هذا البلد إلى احتلالها في مستوى المشهد السياسيّ
الدّوليّ.
ويمكن للقراءة التي تسندها خلفية تاريخية أن تمنحنا عناصر فهم هامّة
للظاهرة الإيرانية، وهو ما توفّره جهود جان فرانسوا كولوزيمو، وقد أصدر
مؤخرا كتابا حول "المفارقة الفارسية"، ونتولّى بالمناسبة ترجمة الحوار
الذي أجرته معه مجلة "لوبوان" بالمناسبة..
تبدو مقتنعا أنّ الإسلام سيصادف في إيران موعده مع الحداثة، ألا يبدو هذا الرأي مفارقا كالمفارقة الفارسية ذاتها؟يجب أن نسائل الزمن الممتدّ والهوية العميقة، لأنّ فارس هي
الإمبراطورية المسلمة الوحيدة التي أشار لها الإنجيل ولم تتعرّب، وما
نسمّيه الثقافة العربية هو في جزء كبير ثقافة فارسية –عربية. ولقد اختارت
إيران التشيّع كدين دولة في القرن السادس عشر من أجل الحفاظ على هويتها،
لأنّ التشيّع بوصفه دين أقلّية قد أنقذ البعد الفارسيّ من أن يبتلعه
العالم العربيّ- السنّيّ. ولقد خاض الإيرانيون في القرن العشرين ـ تحت
راية هذه الهويةـ سباقهم من أجل الحداثة، وتبدو لي عبارة " البلد المختبر"
لافتة للغاية ومعبّرة: فقد عرفت إيران أوّل ثورة دستورية سنة 1906، وأوّل
ثورة مناهضة للاستعمار سنة 1953، وأوّل ثورة إسلامية سنة 1979. إنّ مختلف
هذه المقاطع التي تبدو لنا متناقضة ومتعارضة كانت محاولة لأقلمة الهوية مع
ضرورات التاريخ وإكراهاته، ومن هذه الزاوية فإنّ الشاه والخميني لا
يمثّلان وجهين على طرفي نقيض لأنّ غايتهما كانت دائما ضمان القوّة
والتقرّد الفارسيين.
بالنسبة لنا فإنّ
النزعة التدخّلية الغربية، تحت مختلف أشكالها، كانت مسؤولة إلى حدّ كبير
عن تطوّر إيران. بقي أن نعرف هل إنّ الثورة الإسلامية تمثّل أمرا مستوردا
أم تعبيرا عن الاستمرارية في الكائن الفارسيّ؟ إنّ إيران تشكو من توجّس مرضيّ من الاضطهاد. ونعرف أنّ من يشكو من
عقدة الإضطهاد له أعداء، ويبدو عبثيا إنكار الأخطاء الغربيّة ووزنها على
الضمير الإيرانيّ، ولا تنسوا أنّ تجربة قومية قد وقعت في إيران مع مصدق
وتواصلت سنة ونصف السنة وانتهت بشكل عنيف من خلال انقلا ب، وإنّ انفجار
1979 الذي سبقه ربع قرن من الوقوع تحت السيطرة الأمريكية السافرة ووضع
اليد على الثورة البترولية ونهبها، والجمود السياسي، تُعتبر النتيجة
المباشرة لما وقع سنة 1953، وهي مآل مسار طويل من نفي الهوية. إنّ التطلّع
إلى الاستقلال هو الذي أوجد هذا الالتقاء بين القوميين والمتديّنين. لقد
اصطدم الخميني منذ 1963 مع عنف الشاه الذي أعفى الجنود الأمريكان من
المثول أمام المحاكم الإيرانية، ومن الخضوع للقانون الإيراني، وأدّى الأمر
إلى نفي الخميني، وعند عودته منح الخميني المعطى الدينيّ بعدا قوميا،
وهكذا استطاع أن يجمع حوله اشتراكيين ووطنيين وليبراليين، ولم تكن الثورة
منذ بداياتها دينية فقط.
هل إنّ المواجهة الحالية بين النظام والشعب أو جزء من الشعب الإيراني هي بالتالي مواجهة بين تصوّرين للهوية. هناك أمرٌ متأكّد هو أنّه لا يوجد في إيران إلا القوميّون، حتى وإن
كان البعض ثوريا أو مناهضا للدين. لقد حاول أحمدي نجاد والمرشد الأعلى
القيام بآخر محاولة لإنقاذ المدّ الثوريّ من خلال تحريك الأساطير
المؤسّسة: تسليح الأمة، النداء للمستضعفين والوعد الخلافيّ والخطر القادم
من الخارج.. لكن دون جدوى.
ويتعلّق الأمر حاليا بمعرفة إلى أيّ حدّ سيكون الشباب الذي يخرج في
المظاهرات قادرا على تحمّل أسطورة المقاومة والشهادة الشيعية، لأنّه إذا
لم يكن قادرا على ذلك، فإنّ هناك خشية بأن تقع ترجمة تفاوت القوى بإرساء
دكتاتورية دائمة.
نريد أن نفهم أكثر هل تعتقد أنه يجب على الإيرانيين دفع ثمن حريتهم من دمائهم؟إني أعتقد للأسف أنه دون مواجهة فإنّ مآل المواجهة على المدى القصير
متوقّع. إنّ ملامح النظام الآخذ في التشكّل هي ملامح نظام أقلّيّ إلى أبعد
الحدود، وبوليسيّ قوامه حضور لافت وطاغ لأجهزة الاستعلامات وميليشيات
تراقب الجيش. إنّ الجمهورية الإسلامية لم تكن ديكتاتورية تماما لكنها بصدد
التحوّل في هذا الاتّجاه. لقد كان لدى الخميني اعتبارٌ لمفردتي الجمهورية
الإسلامية، لأنّه كان يعتبر أنّ إرادة الله وإرادة الشعب متساويتان لأنّه
لا يمكن للوعد الإلهي الثوريّ أن يشتغل وأن يكون فاعلا دون الانخراط
الضروريّ للشعب. ومن هنا جاءت آليات منح الشرعية كالاستفتاء، لكنّ آليات
منح الشرعية كفّت عن الاشتغال ولم تعد هناك جمهورية، وما بقي هو دولة
إسلامية بوليسية.
هل هناك إمكانية لتصور " ديمقراطية إسلامية؟لا يمكن أن تبنى الديمقراطية على أرضية الشريعة، ولقد وصل من تحادثت
معهم في إيران ـ من إسلاميين ماركسين قدامى عاشوا مرحلة المبالغة الثورية
وأصبحوا إصلاحيين ـ إلى نفس الإستنتاج؛ وهو أنّ التوازن مستحيل بين
الشريعة والدميقراطية. إنّ التوتّر بين مبرّرات التنزيل والوحي ومعطيات
الواقع تبدو عصيّة عن الحلّ ولا يمكن تحمّلها إلا عبر انعزال جذريّ، وهو
ما يمكن أن يحاول النظام القيام به. وعلى المدى القصير فإنّ العولمة تهدّد
النزعة الإسلامية، وفي بلد يتحكّم فيه التوجّه الإسلاميّ فإنّ نصف السكّان
هم دون الخامسة والعشرين وغالبا دون العشرين، لقد أثبتت مظاهرات طهران أنّ
لهؤلاء الرغبة والوسائل لإقتحام العولمة.
لكنّ ثوريّي 1979 كانت أعمارهم وقتئذ دون 25 عاما. فعلا لقد تقدّموا في السنّ، وهناك حاليا إيران أخرى غير إيران صور
الانتحاريين والنساء المحجّبات. وهناك في البلد ما لا يقلّ عن مليون
وستمائة ألف صاحب مدوّنة إلكترونية. إنّ المساجد فارغة نسبيا ومن أجل جلب
الشباب للمساجد أقاموا فيها دور ثقافة.
كيف تستطيعون في نفس الوقت التأكيد على أن الإسلام هو القلب النووي للهوية الإيرانية وإن إيران ستكون الرائدة في العولمة المسلمة.
من الممكن أن تكون الجمهورية الإسلامية قد استنفدت واستهلكت المكوّن
الدّينيّ، وإضافة إلى ذلك ولعديد الاعتبارات فإنّ أصولية الخميني تعبتر
اختراعا نظريا يتعارض مع التقليد الشيعيّ، إنّ الكثير من رجال الدين
يعتقدون أنّ خلط أنواع السلطة تمثّل إبعادا للتشيّع عن طبيعته، ويرفض علي
السيستاني، زعيم الشيعة العراقيين حتى وإن كان هو أيضا إيرانيا) هذا الخلط
وباختصار فإنّ الخميني، مخترع الإسلامية الشيعية، كان زعيما إسلاميا أكثر
ممّا كان زعيما شيعيّا.
لكنك مقتنع مع ذلك أن خلاص الإسلام وخلاصنا معه يمر عبر التشيع؟يقوم التشيّع على بعض المصادرات الهامّة ويقدّم قراءة مفتوحة وغير
حرفية للنص المقدس، وإدراكا منفتحا للتاريخ وتصوّرا للخلاص واستعادة
الدورالإنساني عبر المعاناة، وهو ما يولّد قيما اجتماعية مختلفة، وتثمينا
للمرأة والفنّ والفلسفة، وهي توجّهات نجد صعوبة في العثور عليها في العالم
السنّيّ. إنّ علاقة التشيّع بالآخرين هي أكثر تعقّدا وخصوبة ممّا نلاحظه
اليوم في العالم العربي؛ هناك عقلانية شيعيّة ونحن نعرف ثراء السينما
الإيرانية ويترجم الأدب العالمي إلى الفارسية، ولم يستشهد أيّ واحد من
الذين خاطبتهم بما في ذلك رجال الدين بالقرآن بل يحيلون إلى مراجع فلسفية
وأدبية أوروبية، ولم يكن لديهم ما يجمعهم كثيرا مع الإخوان المسلمين
المصريين أو فلسطينيي حماس.
لكنهم جميعهم
يتقاسمون نفس الطموح القومي، وتبدو أنّك على النقيض ممّن يرى أنّ إيران
قويّة تمثّل، سواء كانت إسلامية أم لا، تهديدا استراتيجيا تعتبر أنّ
إرتقاء إيران إلى مرتبة القوة الإقليمية يعدّ أمرا مفروغا منه ولا سبيل
لتلافيه، إن لم نقل أيضا مرغوبا فيه.ماهو متأكّد هو أنّ إيران لا تخضع للتضييق والاحتواء، وقد لا تكون لها
رغبة أقلّ في القوّة، ومن هنا انزعاج وقلق "الأشدّاء والمتصلّبين" في
الغرب.
هل تعتقد أن إيران ستتمكّن من امتلاك السلاح النووي؟ ألا يوجد في ذلك ما يبعث على القلق؟ لم يكفّ أحمدي نجاد عن القول إنّه سيدمّر إسرائيل، ولا أرى حقيقة
لماذا لا تأخذ إسرائيل هذا التهديد مأخذ الجدّ، لكن حتى إذا امتلك القنبلة
النووية فإنّي أتصوّر أنّه لن يستعملها ضدّ إسرائيل لأنّ الواقعية
السياسية لأصحاب القرار الإيرانيين ليست موضع شكّ.
إن المشكل يتمثل في أنّ الجميع في المنطقة: العربية السعودية، تركيا،
سوريا، يريد امتلاك القنبلة النووية، وبالنسبة للمجموعة الدولية فإنّ قبول
الاستثناء الإيراني يمثّل رفعا في احتمال السيناريو الكارثة، لكنّ إيران
لا تتصوّر السيادة دون مكوّنات السيادة ومتمّماتها، ويبدو هذا الصراع
الرمزيّ مستحيل التجاوز.
كيف تعبر المفارقة الفارسية عن نفسها؟ إن هذه المفارقة تتمثّل في أنّ إيران التي كانت قادرة على أن تكون في
طليعة حركة انعتاق العالم الإسلامي، وأن تلعب دور الجسر بين الشرق والغرب،
قد أصبحت تجرّ قاطرة الأصولية. لكنّ الثورة الإسلامية انتهت. وأنا مقتنع
بالفعل أنّ إيران ستكون المختبر الذي ستنجز فيه التوليفة بين الإسلام
والديمقراطية، وستستطيع بهذه الكيفية إشباع تطلّعها المشروع للعظمة