نقاش
بين حميد زناز (معدّ الحوار ومترجمه ومؤلّف "المأزق الإسلامي، الدين ضدّ
الحياة" بالفرنسية، و"فصل المقال في مواجهة أهل الظلام" بالعربية) وناديا
غيرتس (فيلسوفة ومناضلة علمانية مناهضة للمدّ الدينيّ الأصوليّ في بلجيكا
وصاحبة كتاب "ذلك الحجاب اللعين"(1) الصادر أخيرا وكذلك كتاب "اللائكية
على محكّ القرن الواحد والعشرين".
حميد زناز :
في
كتابك الأخير (ذلك الحجاب اللعين)* تناولت بكثير من التفصيل مسألة المدّ
الأصوليّ في المجتمع البلجيكي. هل يمكن أن ترسمي لنا صورة إجمالية عن
الوضع في المملكة؟ وهل هناك خصوصية بلجيكية فيما يتعلق بالإسلاموية؟ ناديا غيرتس: لا أعتقد أنّ هناك خصوصية بلجيكية إذ
ليس للإسلاموية حدود، فطرق عملها هي نفسها في كلّ مكان. ولكن ربما هناك
خصوصية بلجيكية قد تشكّل أرضية خصبة لانتشار الأصولية الإسلامية أكثر ممّا
هو الحال في فرنسا. فبلجيكا ليست دولة علمانية. هي بلد معلمن نسبيا ولكنّ
مبدأ العلمانية نفسه غير منصوص عليه في الدستور. وغالبا ما ينظر إلى
العلمانية في هذا البلد على أنها معتقد أكثر ممّا هي مبدأ سياسيّ. فلا
يفرّق معظم الناس بين العلمانية والإلحاد، إذ من تقاليد المجتمع البلجيكي
تفضيل مفهوم التعددية على العلمانية. ومن هنا فنحن غير مسلّحين جيّدا
للوقوف أمام مطالب الأصوليين عندما تفصح عن نفسها، كالمطالبة بحقّ ارتداء
الحجاب في كلّ مكان، سواء في المدرسة أو في الإدارات العمومية أو في
البرلمان. ويعتبر بعض البلجيكيين أنها مطالب شرعية، لأنهم يدافعون عن
نموذج أكثر مجتمعانية، بمعنى أكثر انعزالية ثقافية، على الطريقة
الأنغلوسكسونية. وهو ما يفتح الأبواب واسعة أمام الأصوليين في تحقيق
مآربهم.
أثبت النموذج
الأنغلوسكسوني فشله الذريع في إدماج المهاجرين المسلمين بل أصبح مشتلة
لتفريخ الأصوليين في أوروبا.. وقد بات مثار إعادة نظر حتى لدى جيرانكم
الهولنديين الذين كانوا من أنصاره المغالين. فهل استفاقت الطبقة السياسية
في بلجيكا من وهم مفهوم التعددية الإثنية؟لا أقول إنّ التعدد الإثني وهم في حدّ ذاته، وإنما أقصد بالتعددية
الإشارة إلى تعايش أناس ذوي ثقافات مختلفة في إقليم واحد. إلا أنّ المسألة
تتعلّق بكيفية تسيير هذا التعدد وعلى الخصوص من الناحية الدينية. وفعلا
يخلّف النموذج المجتمعاني الأنغلوسكسوني أضرارا جسيمة في أوروبا، عن طريق
تشجيعه للتعبيرات التي تفرّق، أكثر ممّا يبحث عمّا يجمع ويوّحد. تبيّن
الأرقام بشكل جليّ أنّ البلدان التي تنتهج هذا المنهج لا تحقّق نتائج أحسن
في إدماج السكان ذوي الأصول الأجنبية من تلك البلدان التي تعتمد توجّها
"كونيا"، إذ العكس هو الحاصل، فنسبة الزواج المختلط فيها أضعف والغيتوهات
أكثر عددا. من الصعوبة الفصل في ما إذا كانت الطبقة السياسية في بلجيكا
تشجّع الانعزالية الثقافية لأهداف انتخباوية أم عن سذاجة! وعلى كلّ حال،
تشذّ شخصيات سياسية عن هذا الموقف العامّ من اليمين الليبرالي (الأكثر
انتقادا للتساهل مع الإسلاموية ومجاملتها) وكذلك من اليسار الاشتراكي. لا
تستطيع الطبقة السياسية البلجيكية أن تتبنّى نموذج العلمانية على الطريقة
الفرنسية: هذا شيء مخيف لأنه بعيد عن العرف البلجيكي الذي يرتكز على البحث
عن التسوية والتوافق أكثر من الدفاع عن المبادئ.
حقيقة لا يشكل
التعدّد مشكلة في حدّ ذاته، إلا أنّه من الضروريّ توفّر تنازل متبادل
أدنى، من أجل ضمان عيش سلميّ في مجتمع متعدّد الإثنيات. ولكنّ من يقرأ
كتابك "ذلك الحجاب اللعين" ومن يتجوّل في منطقة مولينباك في بروكسل أو
"المغرب الصغير" كما تسمّيه مواطنتك الفلامندية، من أصل مغربيّ، هند فريحي
في كتابها "نزهة داخل غواصة في المغرب الصغير" لا يمكنه أن يؤمن بسهولة
بتسوية محتملة ما. فما العمل إذن في رأيك قبل أن تتحوّل بلجيكا كلها إلى
مولينباك؟ مولينباك حالة خاصة جدا في بروكسل ويتحمّل عمدتها السيد فيليب مورو
مسؤولية كبرى في جعل هذه البلدية غيتو، إذ انتهج مع السكان المسلمين سياسة
زبانية إلى أقصى حدّ. ولو أنّني لا أعتقد أن بلجيكا معرضة لتصبح كذلك،
فلحسن الحظ، بلجيكا ليست كلها مولينباك. ومع ذلك فالخطر قائم في أن تتشكّل
مناطق (وهي موجودة على كل حال) تتحوّل فيها الانعزالية المتفاقمة إلى خطر
يهدّد "العيش معا". فتحت ذريعة التكيّف مع حقيقة الواقع على الأرض، تقدّم
بعض بلديات بروكسل وجبات لحم حلال في المدارس وتخصص ساعات للنساء في
المسابح العمومية. في أونفرس، بدأت بعض التلميذات ارتداء البوركا ولهذا
السبب بالذات قرّرت مديرة مدرسة منع ارتداء الحجاب كلّيا. يكمن الحلّ في
رأيي في ضرورة التفكير بعمق في مكانة الأديان في الفضاء المؤسساتي،
المدرسة، الوظيف العمومي، البرلمان.. فلا ضرر أن يشعر الفرد بأنه "مؤمن
أولا" في حياته الخاصة، ولكن لا يمكن أن يسير مجتمع على ما يرام إذا لم
نشعر بأننا "مواطنون أوّلا وقبل كلّ شيء" في بعض المواقف. من كثرة ترديد
أنه ينبغي احترام، بلا قيد أو شرط، كلّ المطالب المقدمة على أنها دينية،
وصلنا إلى تفتيت الرابطة الاجتماعية: لقد أسرفنا في تثمين اختلافاتنا فضاع
الذي يجمعنا أو الذي كان يمكن أن يجمعنا (البحث عن الصالح العامّ). وهذا
هو في نظري خطر الانعزالية المجتمعانية الجوهري.
تقولين في كتابك
إنّ السؤال الذي يجب طرحه اليوم لا يتعلّق بمكانة الإسلام في بلجيكا
وإنّما يتعلق بنمط المجتمع الذي نريد أن نعيش فيه بشكل عامّ : " هل نريد
العيش في مجتمع مشتّت، وضعت فيه جنبا إلى جنب جماعات مختلفة لا تختلط
أبدا، أم نريد العيش في مجتمع متعدد الثقافة حقيقة ولكنه يقف على أرضية من
القيم المشتركة التي يعترف بها الجميع، والتي تسمو على كل خصوصياتنا حتى
الدينية منها"؟(صفحة28).
ألا يكون سؤالك هذا معاينة موضوعية للمجتمع البلجيكي اليوم؟ هل
تظنين أن المسلمين قادرون على التنازل عن بعض ما يأمرهم به دينهم، إذا
وضعنا في الحسبان أن الدين الإسلامي هو طريقة عيش أكثر مما هو نزعة
روحانية؟ أليس محتوما تصادم الإسلام بمجتمع الحداثة؟ أليس الإسلام هو
المشكلة في حدّ ذاته وليس الأصولية؟ حقيقة، ينحو المجتمع البلجيكي اليوم، على الأقلّ في مدن معيّنة، نحو
تجميع مصطنع للخصوصيات وهذا أمر مقلق. على كلّ، هناك أصوات كثيرة بدأت
تطالب بإطار لائكيّ قد يخرج مجتمعنا من المأزق الطائفي، ذاك الطريق
المسدود الذي يلغم العيش المشترك. أما في ما يخص التفريق بين الإسلام
والإسلاموية، فأعتقد أنّ ذلك أمرٌ مهمٌّ. يطرح الإسلام اليوم مشكلة لا
لشيء سوى أنّ القراءة الأصولية هي السائدة في أغلب الأحيان، بينما غالبا
ما تكمّم الأصوات الإسلامية العلمانية والديمقراطية والتقدمية. وهو ما
يعطي انطباعا مضلّلا عن القضية يقول بوجود إسلام سياسي فقط، متزمّت، محافظ
ومعاد للعلمانية. لا ينبغي أن يخفى علينا أبدا أنه إلى جانب الناشطين
الإسلاميين الذين نسمعهم كثيرا، هناك أغلبية مسلمة صامتة لا تطالب بشيء
سوى العيش في سلام، ولا يطالب أغلب المسلمين بما يسمّى "تسويات معقولة"
لاعتبارات دينية بل يؤيّدون المبادئ العلمانية ذاتها. وإذا عدنا إلى مثال
الحجاب في المدرسة، فأغلبية الشابات اللواتي ترتدينه تتقبّلن نزعه بسهولة
على أبواب المدارس،إلا أنه يبدو وكأنّ وجهة النظر الإسلامية الوحيدة هي
تلك الرافضة لكلّ منع لارتداء الحجاب في المدرسة. و هنا يكمن الخطر.
مسلمون علمانيون،
ديمقراطيون وتقدميون! مع كل احترامي، هذا شبيه بنكتة بلجيكية. شخصيا لا
أرى كيف يمكن أن يكون المرء مسلما وعلمانيا في نفس الوقت؟ أن يكون علمانيا
يعني أن يرفض الشريعة، القانون الإلهي، وهذا يعني إعادة النظر في الإسلام
ككلّ! مثال : حينما يرفض مغترب مغربيّ أو جزائري اقتران ابنته بغير مسلم،
هل يفعل ذلك كمسلم أم كأصولي؟ وهل الحجاب اختلاق إسلاموي أم هو أمر فقهي
إسلامي؟أن تكون علمانيا، هو أن تكون في نظري نصيرا للفصل بين القانون
والإيمان. وحتى وإن كان الإسلام يمرّ اليوم بفترة صعبة، أعتقد أنه من
الممكن أن يكون الإنسان مسلما ويؤمن في نفس الوقت بمبدأ اللائكية
السياسية. لا أنكر أنّ الإسلام مؤسّس، على عكس ديانات الكتاب الأخرى، على
رسالة جاء بها رسول كان في نفس الوقت قائدا روحيا وسياسيا. ومع ذلك عرفت
الحضارة الإسلامية تيّارات عقلانية مثل المعتزلة الذين أكّدوا وجوب قراءة
النص القرآني على ضوء العقل. ونعرف اليوم مثقّفين مسلمين، يشدّدون على
ضرورة قراءته من منظور تاريخي، بمعنى ردّه إلى سياقه التاريخي.أما بخصوص
ارتداء الحجاب فيبدو لي واضحا أنّ ذلك ليس من الإسلام في شيء إذ لا وجود
لآية واحدة تأمر المرأة بتغطية رأسها صراحة. وللتذكير فقد عرف أنه فرض على
النساء الفاضلات لأوّل مرة خلال القرن الـثاني عشر قبل الميلاد، أي قبل
ظهور الإسلام ذاته. من البديهي أنه استعمال للدين لأغراض سياسية اعتبار
عرف تقليديّ كالحجاب بمثابة ركن أساسيّ في الإسلام وذلك بهدف السيطرة على
أجساد النساء ومراقبتها. وتلك هي الأصولية عينها.
لئن وجدت في تحليلك
لطافة وتفاؤلا ومسؤولية غير أنني لا أوافق الرأي، فصحيح أن العلمانية هي
فصل القانون عن الإيمان، إلا أنه لا أحد يستطيع نكران أن القانون والإيمان
هما وجهان لعملة واحدة في الإسلام. فكيف يمكن في حالة الإسلام فصل شيئين
لا يمكن فصلهما؟ تنفين وجود آية واحدة في القرآن تأمر صراحة بغطاء رأس
المرأة أو تأمر بارتداء الحجاب صراحة. دون السقوط في سجال حول الــتـأويل،
ألا يعتبر الحجاب نتيجة منطقية لمكانة المرأة في الإسلام؟ أليست تحت حماية
الرجل؟ ألا يعتبرها الشرع كائنا قاصرا؟ لست عالمة لاهوت إلا أنني أعتقد بأنّ قراءة النص "المقدس" دون إغفال
سياقه التاريخي هو الذي يحدّد ما هو كونيّ فيه وما الذي يندرج في إطار
تاريخي أو سياسي أو ثقافي خاص. وهكذا يوجد في الإسلام ذاته تيارات تبرّر
تاريخيا الآيات التي لا تعطي للمرأة حقوقا مثلما تعطي للرجل، وتردّها إلى
منطق عصرها ولذلك سيكون من الإجحاف فهمها حرفيا واعتبارها قاعدة تحدّد
الطريقة التي تكون عليها علاقة الرجل والمرأة اليوم. وهو سياق يختلف جذريا
عن سياق تلك الآيات. وعلى العموم أرى أنه من الخطورة بمكان أن يوضع
المسلمون أمام خيارين لا ثالث لهما : إما أن يكونوا أصوليين يقرؤون القرآن
حرفيا وإما أن يصبحوا ملحدين؟ أعتقد بأنّ هذا الخطاب لا ينجح كثيرا في
تطوير الأمور بل بالعكس يقوّي المتمسكين بالأصولية. ينبغي مساعدة المسلمين
التقدميين والديمقراطيين. يكمن الخطر في اعتقادي في تثبيث الدين وأسمنته
ورفض إمكانية كلّ تطوّر. فكل الديانات تمّ تطويرها من طرف عقول نيّرة
استطاعت أن تميّز بين روح النص وحرفه. ذاك هو الاتجاه الذي يجب في رأيي
تشجيعه بالنسبة للإسلام. فهدفي ليس تحويل الناس إلى ملاحدة وإنما إيجاد
طريقة للعيش معا انطلاقا من احترام مبادئ أساسية معيّنة من بينها مبدأ
العلمانية.
لا أحد يحاول أن يملي
على المسلمين ما ينبغي فعله تجاه دينهم. لكل أن يتعامل مع دينه كما يرغب
شرط أن يبقى ذلك في مجال الحياة الخاصة حصرا. لا أحد يهدف إلى تلحيد
المؤمنين. العكس هو الواقع تماما، فالجماعة المؤمنة هي التي تجبر أفرادها
على أن يكونوا مؤمنين. ما أردت القول من خلال سؤالي السابق هو أن الإسلام
ليس دينا ككل الأديان الأخرى باعتبار أن القرآن ليس كتابا ملهمَا في
اعتقاد المسلمين بل هو كلام الله المنزل ذاته، وهذا يصّعب كثيرا محاولات
التأويل. من ينكر هذا الأمر المهم لا يقدم خدمة للمسلمين ولا
للديمقراطيين. وعلى كل حال لا ينتهي النقاش والأخذ والرد في المسألة. ولكن
بما أن اليوم هو الثامن من مارس، اليوم العالمي للمرأة، فمن حقّك عليّ أن
أترك لك الكلمة الأخيرة. أتفق معك على صعوبة الفصل بين الإسلام الروحيّ وجوانبه السياسية
باعتبار أنّ القرآن هو هذا وذاك في آن. غير أنني أعتقد أنّ طريق الفصل
ممكن، وعلينا أن نشجّع ذلك بدل سجن الإسلام في تأويلات حرفية رجعية. لا
ينبغي المجازفة بإيصال رسالة غير مباشرة إلى المسلمين الديمقراطيين
والعلمانيين مفادها أنّ فهمهم للإسلام خاطئ. فالبشر هم الذين يصنعون
أديانهم على كل حال.
الأربعاء يوليو 06, 2011 4:32 pm من طرف بن عبد الله