لا يكون "ياسمينة خضرة" دائما في المكان الّذي نتوقّع أن يكون فيه. كما
يدلّ على ذلك هذا الاسم الأدبيّ المؤنّث الّذي حمله لسنوات طويلة من 1984
حتّى 2001، ليتجنّب رقابة السّلطات في بلده. يقول هذا الضّابط السّابق في
الجيش الجزائريّ إنّه لم يكن لديه خيار آخر. وأنّ ذلك كان الحلّ الوحيد
لينذر نفسه للكتابة.
سنة 2001 قام بالكشف عن هويّته الحقيقيّة (اسمه الحقيقيّ هو محمّد مولى
السّهول) ، ومنذ ذلك الوقت، ورغم تحفّظات البعض وأحكامهم المسبقة، لفّت
كتبه حقّا حول العالم. ينبغي القول إنّ ثلاثيته السّياسيّة الّتي تدور حول
الصّراعات في الشّرق الأوسط ("سنونوات كابول"، "الاعتداء"، "صفّارات إنذار
بغداد") هي بكلّ بساطة رائعة. ورغم ذلك، يغيّر الرّجل اليوم جذريّا في
أسلوبه مع كتابه "أوليمب المآسي L'Olympe des infortunes"(1)، وهي قصّة
فلسفيّة، شاعريّة بقدر ما هي مربكة، عن حالة الهامشيين في مجتمعاتنا الّتي
تغشّي الإنجازات بصرَها. وقد وفّق في هذا التّغيير بشكل مدهش.
بعد مسألة الانقسام بين الشّرق والغرب، تتصدّى في هذا الكتاب لمسألة
الانقسام داخل المجتمع الواحد بين من ينخرطون في لعبة النّظام ومن
يرفضونها : فهل هما عالمان لدودان؟ كلاّ، هما عالمان يدير كلّ واحد منهما ظهره للآخر. هناك عالم قد اختار
الصّراع والعصيان والمقاومة الدّائمة، وعالم آخر، هو عالم المتشرّدين،
قرّر ألاّ يخضع مستقبلا لإيقاع الحياة الرّهيب وأن يحاول النّجاة من ضغوط
اليوميّ. يرى هؤلاء ألاّ طموح يستحقّ هذه الآلام. أنا لم أكتب هذا الكتاب
لأتحدّث عن وضعيّة اجتماعيّة، بل لأركّز فلسفيّا على موضوع الوضع
الإنسانيّ وبالخصوص على ما آلت إليه علاماتنا في حداثة اليوم المسعورة
والتوسّعيّة.
أنت هنا تقلب قناعاتنا عن السّعادة رأسا على عقب. فهي حسب رأيك موجودة بالأحرى لدى الهامشيين والمعدَمين. السّعادة هي مسألةُ ذهنيّة. قد تكون ميليارديرا، وتعيش في رفاهة باذخة إلى
أقصى حدّ، وتملك سلطة على محيطك ونفوذا على طول البلاد، ولكنّك حينما تكون
في بيتك وحيدا في مواجهة نفسك تتأكّد من أنّه ينقصك ما هو جوهريّ ونعني به
السّعادة. يمكننا أن نجد السّعادة في كلّ مكان، في الفقر كما في الغنى.
وكذلك الأمر بالنّسبة إلى التّعاسة.
نشعر بأنّ لديك نوعا من الانجذاب إلى هذه الشّخصيات… قطعا. فهم يمتلكون قوّة لا أتوصّل إلى تعيينها. ربّما هذا هو سرّهم. أحاول
أن أتخيّل نفسي في مكانهم. ولكنّي حتّى في الخيال لا أتوصّل إلى تحمّل ما
يتحمّلونه هم كلّ يوم. لديهم شجاعة لن أمتلكها أبدا. أنا أجد أنّ هذه
الشّخصيات جذّابة، لها نوع من النّزاهة لأنّها لم تعد معنيّة بالكسب
السّريع ولا بتجارة النّفوذ ولا بالطّموح اللاّمتناهي. إنّها تقنع
بالقليل، وتقشّفها هذا أقرب ما يكون إلى الزّهد. هناك تدبير في تنازلها.
ولديها الكثير من الأشياء الرّائعة الّتي تجعل من قبح وضعها تقريبا مضيئا.
هذا الضّوء هو ما جذبني نحوها. أنا مثل فراشة اللّيل، أرى مصدرا للضّوء
فأقتحمه حتّى لو احترقت أجنحتي.
من المدهش جدّا اليوم تقديرُ مفهوم التّنازل هذا. ولكنّه مع الأسف موجود. هذا ما كنت أردّده في بداية المأساة الأصوليّة
الجزائريّة : "إنّ التّهديد الوحيد الّذي يرعبني حقّا هو التّنازل. إذا
وقع شعب ما في هذا الفخّ فلن تقوم له قائمة". التّنازل اليوم يجسّده هؤلاء
الّذين بلا مسكن قارّ SDF، ولكن بسموّ غريب وتجاوز فلسفيّ كثيرا ما أثارني
واستنطقني.
لدينا شعور بأنّ الإصرار على ملاحقة الأحلام أو المال هو كذلك أكثر إضرارا من التّنازل. كلاّ. أنا لا أتّفق معك. ينبغي دائما التّعلّق بالآفاق الواعدة حتّى لو
كنّا في قرار العاصفة السّحيق. ينبغي دائما التّمسّك بحطام السّفينة الّذي
نسمّيه الحلم أو الخلاص حتّى لو كانت هاوية الوجدان والغموض على وشك أن
تفتّتنا. ولكنّ شخصياتي تمثّل أناسا قد استسلموا وما عادوا يؤمنون بأيّ
شيء، ما عدا ربّما باستيهام الفقير فيهم إذ يظنّون أنّهم يعيدون اختراع
الأمل حيث لم يعد له مسوّغ للوجود.
بما أنّك عسكريّ سابق، فصورتك الجانبيّة هي صورة كاتب غير عاديّ. بأيّ شكل ترافقك هذه التّجربة المخصوصة في كتابتك؟ كلّ كاتب ترافقه تجربته الخاصّة. وهذا الماضي قد جعل الكثير من النّاس
متحفّظين. أمّا أنا فقد وُلدت لأكون شاعرا قبل أن أكون جنديّا صغيرا، وقد
برهنت على ذلك.
كيف تصف دور الكاتب في مجتمعاتنا؟ دور الكاتب كبير كدور الإنسان. إنّ الأدب فضاء للتّعبير أرحب من الفضاء
الّذي يوفّره لنا الوجود. أظنّ أنّ الإنسان قد خلق الأدب في اليوم الّذي
أدرك فيه أنّ عالمه كان ضيّقا جدّا عليه. ففتح بابا خفيّا ليذهب نحو
المتخيّل. والمتخيّل، مثل الفضاء الخارجيّ، لا نهاية له. ولكنّ الكاتب ليس
له دور محدّد بالضّبط. قد يكتب للتّسلية أو للطّمأنة أو لتحريض البعض على
البعض… ليس الأدب رفيقا موثوقا به. إنّه مفتوح على الرّياح الأربع، على
جميع النّوايا والاعتبارات