نعم. نحن نحبّ أكثر من أيّ وقت مضى. إنّه الجانب المأساويّ لوضع الإنسان
المعاصر. كان موضوع الفلسفة اليونانية العامّ هو القول بأنّ الحياة
الطيّبة هي التي تقبل الموت وتلك التي انتصرت على الخوف والقادرة على
العيش في الحاضر. والحكيم هو الذي لم يعد يخاف من الموت والقادر على
التآلف مع الكينونة. وهو الأمر الذي تم استعادته من قبل سبينوزا ونيتشه.
إلى مثل هذه النتيجة انتهى الفيلسوف الفرنسيّ لوك فيري في حواره المنشور
بجريدة (لومند) الفرنسيّة. وهذا الحوار الذي أعقب صدور كتابه الأخير (ثورة
الحبّ):
يحمل
كتابك الأخير عنوانا غير متوقّع: 'ثورة الحب'* أو بالأحرى هو ليس كذلك
تماما بالنسبة للذين يتابعون إصداراتك إذ نشرت سنة 2007"أحبّك أيّتها
العائلات". فالحبّ، حسبك، لا ينعش اليوم حياتنا الحميميّة فحسب، بل
يحرّك حتّى حياتنا الفكرية والسياسية. هل حلّت إنسيّة الحبّ محلّ إنسيّة
الأنوار؟ كان الحبّ موجودا على الدوام بيد
أنّ ابتداع زواج الحبّ هو أعظم حادث على المستوى المجتمعي بالنسبة للقرنين
الماضيين في أوروبا. ما هو زواج الحبّ؟ هو ذلك الزواج الذي اختاره الأبناء
وليس ذاك الذي تفرضه القرية أو الوالدان. هو نتيجة تحرّر الفرد من نفوذ
وتسلط القرية والذي كان نتيجة منطقية لأسلوب العمل المأجور. ويا للغرابة..
فهذا الابتعاد عن القرية هو الأمر الذي سمح بظهور العلمانية في أوروبّا،
إذ هو، أيضا، ابتعاد عن عبء الأديان الاجتماعي. لم تولد العلمانية في
فرنسا من تاريخ الأفكار وإنّما من تاريخ العائلة الحديثة والعمل المأجور.
فبانفكاكه من قريته وضع الفرد مسافة بينه وبين الكاهن.
ونتيجة
لهذا كلّه تقول أنّه لا أحد، اليوم، مستعدّ للموت من أجل الله أو الوطن أو
الأفكار بينما لا يتردّد الفرد في تقديم كلّ التضحيات من أجل أقربائه و
أبنائه؟ وكان من نتائج الزواج المذكور حبّ
للأبناء لم يكن له مثيل في تاريخ الإنسانية كلّه. في القرون الوسطى كان
موت طفل أقلّ أهمّية من موت خنزير أو فرس. أذكر جملة كتبها المفكر
مونتانيي في رسالة إلى أحد أصدقائه :"صديقي العزيز، لقد فقدت ولدين أو
ثلاثة وهم في مرحلة الرضاعة". ولكن لم يدفع هذا الحبّ للأقارب أبدا إلى
الفردية أو الانكفاء على الذات بل بالعكس كان من نتائجه الانفتاح على
المشترك وعلى السياسي. ما يحدث اليوم هو شيء مثير للاهتمام: نحن نعيش
تصفية لكلّ وجوه المقدّس بالمعنى الاشتقاقي للكلمة. فالمقدّس ليس الديني
في مواجهة الدنيوي. تكون مقدّسة القيم التي يمكن أن أضحي من أجلها، تقديم
حياتي فداء لها. يوجد في تاريخ أوروبّا ثلاثة ضروب من المقدّس الجماعيّ :
الموت من أجل الله وذاك يعني الحروب الدينية كسانت بارتيليمي وغيرها،
والموت من أجل الوطن ( 35 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية)، وأخيرا
من أجل الثورة (خلفت الشيوعية حوالي 120 مليون ضحية عبر العالم). أعتقد
أنّه قد تمّ تصفية تلك الوجوه الثلاثة تحت تأثير تاريخ الهدم في القرن
العشرين.
لا وجود لله في نظرك ولكنّك تدافع عن فكرة التعالي. فما هو هذا التعالي الذي لا يحتاج إلى إله؟ حينما تحبّ شخصا ما حقّا، وسواء كان ذلك حبّا عشقيّا أو حبّ أبوة فأنت
تعيش في هذا الحبّ تجربة تقديس الآخر إذ سيصبح بهذا مقدّسا بالمعنى الذي
يمكن فيه أن تقدّم حياتك فداء له إن كان مهدّدا. فأنت، هنا، تعيش تجربة
متعالية، ولكن لا تشعر بها من خلال سماء الفكر أو الدين و لا في أي مكان
آخر غير داخلك أنت. وهو ما تعبّر عنه استعارة القلب في كلّ مكان، وفي كلّ
اللّغات. هذا هو ما أطلق عليه وأنا أستعين بالفيلسوف هوسرل: 'التعالي في
المحايث'. وذاك تعالِ علمانيّ بمعنى من المعاني.
إن
كانت حياتنا قائمة على الحبّ أكثر من أي وقت مضى، وإن كان الله غائبا كما
لم يكن أبدا.. إذن سيصبح من الصعب تحمّل فقدان من نحبّ.. نعم. نحن نحبّ أكثر من أيّ وقت مضى. إنّه الجانب المأساويّ لوضع الإنسان
المعاصر. كان موضوع الفلسفة اليونانية العامّ هو القول بأنّ الحياة
الطيّبة هي التي تقبل الموت وتلك التي انتصرت على الخوف والقادرة على
العيش في الحاضر. والحكيم هو الذي لم يعد يخاف من الموت والقادر على
التآلف مع الكينونة. وهو الأمر الذي تم استعادته من قبل سبينوزا ونيتشه.
ستجد، هنا، أوّل تعريف للروحانية العلمانية وأوّل تعريف كبير للحياة
الطيبة الذي لا يعتمد لا على الإيمان ولا على الله. بعد حرب طروادة أمضى
يوليسيس عشر سنوات قبل أن يعود إلى بلده لأنّه فقأ عين أحد العمالقة
الوحيدة، وكان ابن الرب المفزع بوزيدون الذي حاول أن ينسي يوليسيس معنى
حياته ومعنى رحلته، من الشقاق إلى الحرب إلى الانسجام و إلى السلم، إلى
إيثاكا. تطأ قدماه جزيرة حيث توجد إلهة رائعة الجمال، كاليبسو والتي سرعان
ما تهيم في حبّه و تقول له سأهبك الشباب والخلود إن مكثت معي. ذلك وعد
مسيحيّ قبل الأوان. رفض يوليسيس الوعد هو الذي رأى الموت عن قرب وزار
الجحيم. لقد غادر النوستالجيا وتخلّى عن الرجاء المزيف ليختار الحاضر.
حياة كائن هالك ناجحة أفضل من حياة فاشلة لكائن خالد. هذه هي بداية
الفلسفة.