من الجدل العنيف حول قانون حظر الحجاب في فرنسا، إلى التأثير الديني غير المسبوق في الانتخابات الأمريكية، كان الحضور الديني في الفضاء العام وتداعياته السياسية لافتا، بل أبرز التغيرات التي طرأت على عالمٍ كان قد قطع رحلته نحو الحداثة، معتقدا أنه نجح في حصر الدين في مجالاته الخاصة والشخصية. ثم جاء التصاعد المستمر للدين في الفضاء العام ليطرح إشكالات عدة: فماذا تعني عودة الدين بقوة إلى الفضاء العام؟ وهل يدفعنا ذلك إلى إعادة النظر في مقولة سيادة العلمنة؟ وهل كان الحضور الديني على حساب العلمانية؟ أم وفق منطقها بحيث صار يؤدي إلى علمنة الدين؟ وهل لهذا الحضور الديني علاقة بانهيار الأيدلوجيات ونهاية الروايات الكبرى للعالم؟ وكيف يعيد ذلك تشكل الشأن الديني وقضية الإيمان؟ طرحنا هذه الإشكالات على الباحث الفرنسي باتريك ميشيل patrrick michel الأستاذ بمعهد الدراسات السياسية ومعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، والذي عرف باشتغاله على قضايا الدين والحداثة والسياسة. وإضافة لكتابه الأشهر: الدين والسياسة – التحول العظيم ( 1994) صدر لباتريك ميشيل أكثر من عشرة كتب تعالج هذه القضايا من أهمها: الكنيسة في بولندا ومستقبل الوطن (1981)، السياسة والدين في أوربا الشرقية (1985)، الأديان في أوربا الشرقية (1992)، كل الطرق لا تؤدي إلى روما: التحولات المعاصرة للكاثوليكية (1995)، الدين والديمقراطية: قضايا ورؤى وإشكالات جديدة (1997)، الدين في المتحف (1997)، إضافة إلى عدة كتب أخرى عن الدين والسياسة في أوربا الشرقية قبل وبعد انهيار الشيوعية. التقيناه في القاهرة، فكان هذا الحوار الذي إذا كان لنا أن نلخصه في جملة فهي: أنه استطاع أن يضع الظاهرة الدينية في قلب حركة الحداثة، وليس باعتبارها رد فعل عليها على عكس ما شاع من قبل.
استمرارية العلمانية * مع التغيرات التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، وأبرزها تعاظم دور الدين في السياسة العالمية –كما في النموذج الأمريكي- عاد إلى المشهد من جديد الجدل حول الدين والعلمانية ومستقبل العلاقة بينهما، ولاحظنا ظهور مدرستين متناقضتين، الأولى تتحدث عما يسمى بنهاية العلمانية فتذهب إلى عكس ما كانت تبشر به الكتابات والنظريات التي كانت تؤكد على أن العلم وتقدمه سيكون على حساب الدين، ويذهب أصحاب هذه المدرسة -ومعظمهم أمريكيون وأبرزهم عالم الاجتماع جون فول- إلى أن الواقع يقول إن الدين يزداد حضوره باطراد في الفضاء العام؛ بما يحتم إعادة النظر في دعوى غلبة العلمانية. بينما يذهب أصحاب المدرسة المعاكسة -ومعظمهم فرنسيون- إلى تأكيد انتصار العلمانية، وأنه وإن كان حضور الدين في تعاظم فإن هذا الحضور لن يخل بالعلمانية، بل إنه يؤكدها يوما بعد يوم؛ لأنه يتم في إطار علماني وعلى أرضية علمانية ستنتهي إلى علمنة الدين نفسه على نحو ما يرى أوليفييه روا ومارسيل جوشيه.. فكيف ترى هذا الجدل وإلى أي اتجاه تميل؟ - نحن نعتمد بشكل كبير على التنظير الأمريكي، وبالذات ما كتبه "بيتر بيرجر" و"هارفي كوكس" الأبوان الروحيان لمقولة سيادة العلمانية، وكانا قد كتبا عن "المدينة العلمانية" ثم عادا واعترفا بعد ذلك بأنهما أخطئا فكتب "بيرجر" يقول: "إن العالم ما يزال متدينا"، بل صارت الصيحة الجديدة هي "الخروج من العلمانية"، ونما تيار مضاد لمقولة سيادة العلمنة، ونلاحظ أننا فيما مضى كنا نتحدث عن الاستثناء الأمريكي، بمعنى أن هناك بلدا- الولايات المتحدة- سيظل متدينا في عالم تغلب عليه العلمانية، بينما العكس يحدث الآن؛ فصار الاستثناء الأوربي العلماني هو الذي يعيش في وسط الأغلبية المتدينة. بعد أن اكتسح التيار المضاد للعلمنة العالم حتى صارت أوربا آخر بؤر العلمانية فيه. وما أتصوره هو أن هناك استمرارا للعلمانية، وأنه لا يوجد ارتداد عن العلمانية للدين ولا يوجد "ثأر الله" (بتعبير جيل كيبيل)؛ وإنما هناك ظهور جديد للدين، وتصبح القضية هنا كيف نفسر هذا الوجود الديني المتعاظم والمؤثر بشكل كبير في فضاء السياسة والاجتماع الإنساني، وهنا لا يصلح الدين بمفرده للتفسير، وإنما لكي نفهم عودة الدين لا بد أن نعتبره مدخلا لفهم الظواهر الأخرى المحيطة به والمتراكبة معه. وأنا أعتقد –كما سبق- في استمرارية العلمانية باعتبارها تقليص سلطةِ أو تأثير المؤسسات الدينية على الفرد وعلى رؤية المجتمع الكبرى وعالمه الرمزي، وأنا لا أتحدث هنا عن الدين كمفهوم، وإنما عن الدين كإمكانات للدرس والتوصيف. ماذا تعني استمرارية العلمنة؟ وإذا ما طرحنا السؤال عن ماذا يعني استمرارية العلمنة سنلاحظ وجود ثلاث ديناميكيات رئيسية: الأولى هي: (الفردنة) بمعنى تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والمعاني الدينية، والجديد في هذه العلاقة هو شرعية الفردنة وقبولها اجتماعيا، وهذه هي الصفة السائدة الآن للتدين في أوربا. والديناميكية الثانية تنتج عن الأولى وهي: الابتعاد عن المؤسسات الدينية، حيث تفتقد هذه المؤسسات احتكارها لتعريف ما هو الدين الصحيح، وهو ما حدث في أوربا؛ إذ لم تعد المؤسسة الدينية هي الجهة التي تقول ما هي الكاثوليكية الصحيحة أو البروتستانتية الصحيحة. أما الديناميكية الثالثة فهي استهلاكية العلاقة بالدين؛ أي إدخال بعد استهلاكي للدين، بمعنى أن الفرد يتعامل مع الدين بشكل استهلاكي فيختار من العرض الديني ما هو مناسب له من خلال مقاييسه الخاصة؛ وإذا كان العرض الديني غير مقبول بالنسبة له فسيقوم بتغييره؛ فهو لن يخجل من رفض هذا العرض والبحث عن تدين مناسب له ولمتطلباته. ومن البعد الاستهلاكي للإيمان المعاصر نستطيع أن نفسر التحولات التي تتم من ديانة إلى أخرى، وظهور تجميعات أو خلطات من بين الديانات، ويحدث هذا للناس بوعي تام ودون الشعور بأي ذنب، وهو ما يؤدي إلى شرعية الدمج والنقلات والتحولات بين الانتماءات الدينية المختلفة، وأبرز مثال على ذلك تجارب التصوف في الغرب التي يخوضها مسلمون ومسيحيون ويهود وأبناء ديانات مختلفة بل وملاحدة!. * لكن دائما ما تجاورت العلاقة الفردية بالدين مع المؤسسات الدينية وظلت العلاقة بينهما مستقرة.. فما الجديد الذي يمكن أن تتشكل وفقه هذه العلاقة؟ - تقليديا كانت هناك علاقة مباشرة بين الطلب على المعنى (بمعنى طلب الإجابة على الأسئلة المهمة مثل: ماذا سيحدث بعد الموت...) وبين عرض مؤسسي (إجابات تقدمها المؤسسات الدينية: المسجد، الكنيسة، المعبد..)، ودائما ما كانت إجابات هذه المؤسسات إجبارية (يجب علينا أن نؤمن بكذا...)، وهذا ما يخالف نظرية الفردنة؛ فالمؤسسات دائما تفرض والفرد دائما يرفض الفرض والإجبار.. وأنا أرى أن هذا النموذج التقليدي لم يمت بعد وما يزال موجودا، لكن الجديد هو أن هناك تغيرا فعليا يحدث بالانفصال عن إجابات هذه المؤسسات، فإجاباتها لم تعد محل قبول من الفرد، ولم يعد الدين في عالمنا الجديد يستطيع أن يؤسس بالإجبار، أي لم تعد لديه القدرة الإجبارية على الناس، لذلك فإن الآفاق الدينية الجديدة آفاق مريحة بعيدة عن الإجبار والعنف الرمزي والقلق، فكل فرد صار يبحث عما يريحه. وما أقصده هو أن مساحة الدين أو فضاءه وحيزه سنسكنها فقط حين تكون مريحة، أي سيكون اللجوء للدين حين يكون مريحا للفرد، أي سيكون اللجوء للتدين المريح بعيدا عن الإجبار، وفي أوربا فإن اللجوء للدين الآن يتم بعيدا عن أي فرض أو عنف رمزي حتى لو كان هذا الفرض في صورة نظام قيمي إجباري. * ألا يبدو هذا التحليل وهذه الصيغ أقرب إلى المسيحية، وتبتعد كثيرا عن الإسلام في مسألة المؤسسة وشرعية الفردنة؛ خاصة أن المؤسسة ليست بنفس الحضور في الإسلام وكذلك ما يخص الفردنة؟ - ربما ينصب كلامي بشكل خاص على الكاثوليكية، ولكنه ينطبق كذلك بشكل عام عن الشأن الديني في أوربا. عودة الدين.. وبأي معنى؟ * نعود لسؤالنا السابق ثانية؛ فأنت لم تجب بعد عن السؤال: لماذا تذهب إلى رفض القول بعودة الدين على حساب العلمانية في الفضاء العام، رغم أن الشواهد كلها تدعم هذا الرأي؟ -في السبعينيات وقعت الكثير من الأحداث أدت إلى الاعتراف بأن التنظير للعلمانية لم يكن منضبطا، من ضمنها الثورة الإسلامية الإيرانية، وحركة (تضامن) في بولندا التي كان للكنيسة فيها دور مركزي، والحركات الكاريزمية في أمريكا الجنوبية وإفريقيا، وحركات الإنجيليين الجدد (البانتكوتيزم Pentecotisme) في أمريكا الشمالية واللاتينية والجنوبية، وتكون وانتشار المجموعات الأصولية المختلفة سواء المسيحية أو اليهودية أو الإسلامية.. وقد دفعت كل هذه الأحداث والتغيرات إلى الحديث عن عودة الدين فكتب هارفي كوكس كتابه "عودة الله"، وكتب جيل كيبيل "يوم الله"، وكتب بيتر بيرجر كتابه "العودة إلى سحر العالم"، ويقصد بالسحر: الدين، فيما يشبه معارضة لكتاب ميشيل جوشيه "بعيدا عن سحر العالم"..، وكلهم يذهبون إلى فكرة العودة.. وهناك مدرسة أخرى قريبة من هذه المدرسة تمثلها "دانيال لوجيه" وهي باحثة في علم الاجتماع مختصة في تحليل الظاهرة الكاثوليكية، وهي تذهب هي الأخرى إلى ضرورة إعادة النظر إلى العلمانية، ولكن طرحها لا يتطابق مع دعاة نظرية عودة الله؛ فهي تتحدث عن أن المجتمعات التي تمت علمنتها تستطيع أن تنتج منتجات دينية، ولكن هذه المنتجات الدينية الجديدة تتوافق مباشرة مع الحداثة العلمانية نفسها، ومن ثم فالعودة هنا ليست لأشكال دينية تقليدية، ولكن لفكرة التدين. وأنا لا أتفق مع كلا الاتجاهين، وأرى أن الحديث عن عودة الدين يجب أن يتصل بنهاية الاستقطاب بين الشيوعية والرأسمالية كنظم قيم وليس كدول فقط؛ فهو ما أدى إلى إعادة طرح فكرة الدين من جديد. فلم تعد مسألة الانتماء يسيرة بعد انهيار الأيدلوجيات ونهاية الروايات الكبرى للعالم، وهو ما أعاد الاعتبار لفكرة المعنى: من نحن؟ ومن أين؟ وما العالم؟.. ومن ثم فإنه مع أي إعادة تشكيل للعالم فإن هناك مشكلة وأزمة في الهوية التي لم تعد بنفس الوضوح الذي كانت عليه.. وقد أدخلنا سقوط الاتحاد السوفيتي إلى ما أسميه باستنزاف للسياسة، وأعني عدم وجود عقائد سياسية كبرى تستوعب الناس، وهو ما أدى إلى التوظيف السياسي للدين، فاستنزاف السياسة جعلنا نلجأ للموارد المتاحة حاليا، وهي الأديان.. إذ أدت خلخلة الهوية لنوع من الحماس الديني؛ لأن الأحاسيس والمشاعر اتجهت لأهم الموارد الرمزية التي ما تزال باقية والتي تعطي معنى للعالم: وهي الأديان. * وكيف ترى هذا الظهور الجديد للدين؟ وما معناه؟ -فرضيتي الأساسية لهذا الظهور الجديد للدين أنه مؤشر ووسيلة لإدارة ديناميكيات اجتماعية وسياسية شمولية أوسع، وهناك ثلاثة مستويات تفسر الظهور الجديد للدين في الفضاء العام باعتباره: – مؤشرا ووسيلة لإعادة تشكيل العلاقة بين الزمان والمكان. - مؤشرا ووسيلة لإدارة أزمة الهوية. – مؤشرا ووسيلة لإدارة استنزاف السياسة، بعد أن صارت لدينا أزمة سياسية تتمثل في أننا الآن لدينا سياسة وليس لدينا دافع لها، فهي سياسة بلا يوتوبيا سياسة بلا حلم. فنحن الآن في العصر أو الزمن العالمي، وهو عصر سمته الأولى تقليص الزمن، فأنت في أي مكان وبلمسة واحدة تستطيع الحصول مباشرة على ما تشاء من معلومات عبر الإنترنت من دون فاصل زمني، لقد صرنا في فضاء زمني مفتوح، وأصبح من المستحيل على أي مجتمع أن يرى نفسه منفصلا أو كجزيرة منعزلة، ونفس الشيء مع المكان، فقبل انهيار الاتحاد السوفيتي كنا ندير علاقتنا بالمكان بالانغلاق، وكان رمز هذا الانغلاق هو سور برلين الذي يفصل بين الشرق والغرب، تغير ذلك كله الآن.. فلم يكن انهيار سور برلين مجرد انهيار سور أو حتى نظام، ولكنه كان انهيارا لفكرة الانغلاق وفكرة أن المكان مغلق وأن هناك شرقا وغربا؛ المكان الآن مفتوح ولم يعد هناك شرق وغرب... وقضية الأديان هي إدارة هذا التفكك أو هذا الانفتاح.. والسؤال الآن هو كيف تتحرك في مكان وفضاء مفتوح؟. ولكي نوضح ذلك أضرب مثالين: الأول خاص بإستراتيجية الكنيسة الكاثوليكية تحت قيادة جون بول الثاني (البابا يوحنا بولس الثاني) والتي تعرف بروعة الحق، فطوال الوقت يعمل جون بول الثاني على تأكيد مركزية روما والفاتيكان في الكنيسة الكاثوليكية، ولكن سعيه لذلك يتم من خلال السفر والانفتاح والحضور الكثيف في الخارج كوسيلة أساسية لاستعادة هذه المركزية وتأكيدها، أي أن الفاتيكان يعمل طوال الوقت على دعم مركزيته بينما -وفي نفس الوقت- يؤكد البابا دائما على هذه المركزية من خلال حضوره بالخارج. المثال الثاني هو أنه في خلال ألفي عام تقريبا من تاريخ الكاثوليكية لم يكن من الممكن توحيد منهجية التعليم الديني الكاثوليكي على مستوى العالم إلا مرتين فقط؛ الأولى عند الخروج من القرون الوسطى وبدء عصر النهضة وعصر اكتشاف أمريكا في عصر يتسم بالتوسع المكاني بعيدا عن الإقطاعيات المنغلقة، في حين جاءت المرة الثانية في عصر جون بول الثاني أيضا: حين انفتح العالم مرة ثانية. الدين ومسألة الهوية * وكيف انعكس ذلك على الهوية، وما شكل علاقتها بالدين في هذا السياق؟ -نحن في عصر أعيد فيه تشكيل العلاقة بين الزمان والمكان تماما.. وهو ما أحدث خلخلة وذبذبة أعادت حضور الدين مجددا كفاعل رئيسي.. فتمت تعبئة الدين بهدف إعادة بناء الهوية. وفي مسألة الهوية، فإن كل المقاييس التي كانت تنظم مسألة الهوية فيما مضى تغيرت، ومن ثم فقد صارت معايير تحديد الهويات غير واضحة، فنتيجة هذه الخلخلة أو الذبذبة لم تعد الهويات ثابتة كما كانت سابقا، لقد صارت الهويات متحركة ومتغيرة وهو ما يعني أنها أضحت ضعيفة، وللتوضيح نضرب أمثلة مختلفة: فالنوع الجنسي الذي كان يحدد الهوية (ذكر أو أنثى) تغير فأعيد تعريف الذكورة والأنوثة حتى بيولوجيا، وظهر الجندر أو النوع الاجتماعي بديلا عن النوع البيولوجي، ولم يعد مقبولا فكرة التفرقة الجنسية في تنظيم الحياة (مثل العمل). كما شهدنا حالة انفجار في النماذج الأسرية بعد أن تكسرت الأسرة النووية التقليدية، وقد رصدت دراسة في فرنسا 27 نموذجا أسريا مختلفا بينت عدم الوضوح، أو التغيير السريع في الهوية الأسرية؛ فمثلا نجد أن الفرد يمكن أن يكون لديه ابن ويتزوج من امرأة لديها ابن والأربعة يعيشون مع بعضهم في نفس المنزل، ونجد الابنين يتعاملان مع بعضهما معاملة الإخوان، ولهما نفس الأقارب من طرف الأب والأم بينما في الأوراق الرسمية ليس لها أي صلة. كما حدث التغير نفسه في الهوية المهنية: ففيما مضى كان العمل أكثر ثباتا، وكان الواحد يمتهن مهنة معينة طول حياته الوظيفية، بينما الآن يمكن أن يتنقل من شركة إلى أخرى أو من مجال عمل إلى آخر، ويتم ذلك بسهولة ومرونة. وكذلك الحال في الهويات الاجتماعية إذ لم تعد فكرة التفرقة البرجوازية أو ظهور الطبقة العمالية والأرستقراطية ثابتة، وصار ممكنا الانتقال بين الطبقات. وفي الهويات السياسية: تغير محور اليمين واليسار الذي كان سائدا قبل سنوات، وكان يعطي إمكانيات لتفسير السياسة ورسم خريطتها، ولم يعد له الآن نفس المركزية التي كان عليها. والشيء نفسه فيما يخص الهويات الوطنية، حدثت تغيرات عميقة أهمها التغير في مفهوم ونظام الدولة القطرية، فلم يعد من الممكن في فرنسا -مثلا- أن نتحدث عن وحدة التاريخ المشترك بيننا كفرنسيين فقط، وصار من المفترض إعادة النظر في فكرة المواطنة نفسها بعد أن انفتحت الدولة الفرنسية لموجات الهجرة، كما تكسر وهم "المثل" الذي كانت تعتمد عليه الدولة الوطنية، كما تكسر نظام الدولة القطرية بسبب مطالب الاستقلال المحلية (دعاوى الاستقلال في أسكتلندا عن بريطانيا وكورسيكا عن فرنسا والشمال في إيطاليا والأندلس في أسبانيا..) وضعفت الدولة القطرية من مستوى أعلى تمثل في ظهور كيانات أكبر منها مثل الاتحاد الأوربي، كما جاء الضعف نتيجة الاعتراف باستحالة علاج بعض المشكلات على مستوى الدولة القطرية مثل قضية التقنية العلمية (فليس هناك دولة الآن تستطيع أن تصنع طيارات بمفردها؛ لأن هذا مشروع أوربي ليس فرنسيا أو إيطاليا أو ألمانيا..) وحقوق الإنسان وحماية البيئة.. فكلها قضايا صارت فوق قطرية وعابرة لحدود كل دولة. وهذا ينطبق أكثر ما يكون على حركات المقاومة والحركات المناهضة للعولمة فهي لا تتم في إطار الدولة وإنما تتسع على مستوى العالم. ومن أكثر الهويات التي صارت تفتقد للوضوح الهويات الدينية؛ وإعادة تشكيل الهويات الدينية يتم في نفس السياق لكل الهويات الأخرى، بمعنى أن الشأن الديني ليس منفصلا عن المجتمع، وبالتالي فإن الهوية الدينية تفقد الاستقلال والاستقرار نتيجة الفردنة، بمعنى أنها يمكن أن تتغير ولا توجد أي مؤسسة دينية يمكن أن تمنع ذلك، فقد صار من الصعب أن تقنع المؤسسة الفرد بوجود شيء مستقر ومطلق ومركزي ينظم كل شيء (القدر والنصيب..) يمكنه أن يؤمن به، والهويات الدينية مثل الهويات الأخرى تتقدم وتتغير وتنمو نموا سريعا، ولا يمكن النظر إلى أن التحركات بين الهويات لا يمثل ضعفا في الهوية، فالهويات متنقلة وتعكس مناخا عاما يؤثر في الهوية ويشكلها بمختلف أشكالها، سواء اجتماعية أو أسرية أو جنسية أو دينية، فأبناء الجيل الثاني من العرب في فرنسا يحملون الهويتين العربية والفرنسية في نفس الوقت، ورغم أنه بإمكان الواحد منهم أن يختار أن يكون فرنسيا فقط، لكنه دائما ما يرجع إلى أصوله العربية ردا على التهميش وعدم الاعتراف بخصوصيته؛ ولأن الهوية العربية تصطدم مع بعض مبادئ الهوية الفرنسية التقليدية، فالحل في هذه الحالة المصير لمستوى آخر في الهوية وهو الإسلام؛ بمعنى التخلص من الهوية العربية إلى هوية أكبر وأوسع يمكن أن تضم الهوية الفرنسية أيضا، لكن تتجاوزها وتحقق الخصوصية والتميز (شعار مسلمي فرنسا: فرنسي نعم ولكن مسلم أيضا)، وهو ما يمكن أن يفسر صعود الدين بين أبناء الجاليات المسلمة. وأود التأكيد على أنه وإن كانت هناك حركات تفكيك دينية، ولكن هناك رد فعل عليها بمحاولات إعادة البناء، والتحدي أمام حركات إعادة البناء هو تكوين هويات قابلة للحركة، والهوية المتحركة لا تعني أن الهوية نفسها تتحرك، ولكن تعني أن الناس أنفسهم يعترفون بأنهم يتحركون من هوية لأخرى. الدين في ظل السيولة والتنقلات * لكن في ظل هذه السيولة الدينية على ما يتضح من سردك ماذا سيتبقى من الدين في إطار التنقل والتغيير والنسبية، ما هو تأثير ذلك على الدين والتواصل بين دين ودين؟ -نحن في سياق إعادة تشكيل عام للعلاقة بين الإيمان ومضمون الإيمان، فالمناخ العام يشير إلى قبول حركة التنقلات بين المرجعيات الدينية، ومن نتيجة البحوث الاجتماعية في أوربا نلاحظ أن الناس لا يتأثرون بالمضمون، فمن الممكن أن يكون الفرد مسيحيا لفترة ثم يخرج منها إلى الإسلام ويعرج منه للبوذية، وربما انتهى إلى مزيج إيماني من عدة ديانات مختلفة، وهو ما نراه بوضوح لدى المتصوفة في أوربا فالتصوف حالة إيمانية لا تتعلق بدين محدد، بل ربما يدخلها ملحدون كما أسلفنا، وهو ما نسميه بعصر new age (أو الإيمان دون انتماء ديني محدد)، لكن هذه ليست قاعدة ثابتة؛ إذ يمكن لهذا المشوار أو الطريق الإيمانية أن تتوقف ويستقر الفرد في مرجعية دينية معينة، وهو ما نراه في المنتمين للحركات الإسلامية الأصولية في أوربا، فهم بمجرد دخولهم في هذه المرجعية الدينية استقروا غالبا فيها ولم يدخلوا - كأبناء جيلهم- في new age، ولكن في أغلبية الوقت يمكن أن نفسر الإيمان في أوربا على أنه كمشوار أو كطريق، فالإيمان حاليا ليس معناه أن ينتمي الفرد لديانة معينة، وإنما يعني التنقل بين مرجع إلى آخر والحركة بدلا من الاستقرار. * ولكن أليس من المفروض أن يخلق هذا نوعا من التسامح -بصرف النظر عن موقفنا بالرفض أو القبول- فلا حروب أو صراعات دينية، ولكن ما يحدث أن العالم لا يسير بالضرورة إلى ذلك؟ - تتوقف زيادة التسامح على عدة عوامل، فإذا كان الفرد في موضع قبول للحركة والتنقلات والتغيير، فهو مبدئيا بضع نفسه في مبدأ النسبية بقبوله فكرة التغير، وفي هذه الحال ينفصل التدين عن العنف. ولكن إذا رفض مبدأ الحركة فإن التدين يميل إلى العنف؛ لأنه يركز فقط على فكرة الانتماء والرغبة الدائمة في التمييز بين الأنا والآخر. وغالبا فليس هناك قبول تام للحركة، وليس هناك أيضا رفض تام لها، ولكن الذي يحدث هو استعمال الدين لجعل فكرة الحركة والتنقل والتغيير أكثر ألفة، خذ مثلا ظهور العذراء في مدينة "لورد lourdes" الفرنسية، وهو ما ترتب عليه بدء فكرة الحج لهذه المدينة، فقد حدث هذا في عصر دخول الحداثة للمدينة عن طريق انفتاحها لفرنسا وللعالم، والقضية هنا ليست مدى صحة هذا الظهور من عدمه، بل تتعلق بأن هذا الظهور جاء في وقت انفتاح هذه المدينة، وأنه جاء ليسهل هذا الانفتاح، ولنا أن نلاحظ أن العذراء تكلمت مع سكان المدينة بالفرنسية كما يروون! وهناك نماذج أخرى، مثل الحجاب في فرنسا فهو لم يكن مرتبطا برفض الحداثة أو فكرة الحركة، لكن كان تعبئة معينة لتكوين هوية كانت فيما مضى مفككة إلى حد ما، ولا يمكن اعتبار أن المحجبات لا يؤمن –بالضرورة- بمبادئ الجمهورية العلمانية الفرنسية، فالحرية الفردية -التي أتاحت لهن ارتداء الحجاب على خلاف أهلهن ومجتمعهن- هي من مبادئ الجمهورية، وليست من مبادئ الإسلام كما تقدمه بلاد العالم الإسلامي نفسه (!!)، وعلى هذا فلنا أن نتساءل: هل العودة إلى الهويات والأممية تخالف حركة الفردنة؟.. لا أظن ذلك بل أنا أميل إلى أنها أولى مراحل الفردنة كما هو الحال بالنسبة للحجاب في فرنسا الذي كان إحدى وسائل الفردنة إذ عن طريق الحجاب والعودة إليه غالبا ما تكون البنت أكثر استقلالية عن أسرتها (!!). * بالصورة التي رسمتها لتأثيرات نهاية الروايات الكبرى على الدين وإعادة تشكيله والتمييز بينه وبين الإيمان، كيف ترسم شكل وخريطة الحركات والأفكار الدينية وما ستكون عليه الأديان مستقبلا، هل سيحدث انسحاب لحركات وأفكار أديان وتقدم لأخرى؟ ومن منها المستفيد من هذا التعديل؛ فالبعض يتحدث مثلا عن أن الإنجيلية ستكون ديانة المستقبل، وأنها ستقضي على الكاثوليكية معتمدا على إحصاءات تؤكد الانتشار السريع لها حتى في مناطق النفوذ الكاثوليكي التقليدية مثل أمريكا الجنوبية؟ - لدي تحفظات على فرضية أن الإنجيلية ستكون ديانة القرن الـحادي والعشرين، صحيح أنها تنتشر بكثافة كما أشرت، ولكن نلاحظ في الوقت نفسه أنها تتراجع في أماكن أخرى مثل كوريا، صحيح أن الكنيسة الكاثوليكية هي الخاسر الأكبر في المستقبل، لكن هناك طوائف دينية أخرى ستستفيد أكثر من الإنجيلية، وعلى رأسها البوذية ليس بشكلها التقليدي، ولكن طبقا للشكل الأوربي، والمعيار في ذلك هو قدرة كل ديانة على مساعدة الإنسان في التكيف مع الحداثة والعولمة كمناخ جديد، فالبوذية تتناسب تماما مع الطلب الشخصي المتزايد لديانة تضمن الراحة النفسية؛ فهي ديانة من غير ضغوط أو قيود أو تنازلات كثيرة، وقد أجريت دراسات مؤخرا اكتشفنا معها عدد معتنقي البوذية يزيد عن أربعة ملايين نسمة في فرنسا وحدها وهو رقم كبير على ديانة وافدة حديثا على بلد كفرنسا. وبالنسبة للإنجيلية فمن أسباب انتشارها أنها ديانة تساهم في العبور إلى الحداثة، والاندماج في الاقتصاد المتعولم، ولنضرب مثالا بالفلاحين في "جواتيمالا" وكيف ساعدتهم الكنائس الإنجيلية ماديا ومعنويا، فمن ميزات الإنجيلية أنها تعتمد على "فقه" الرفاهية؛ بمعنى أن الثروة هي من دلائل تفضيلك عند الله، وهذه نظرية بروتستانتية قديمة، وهي تقدم لمن ينتمي إليها كل المساعدات المادية من حيث إمكانية الحصول على تعليم وفرص عمل وحياة أفضل، وهي تساهم في إدخال المؤمنين بها في الاقتصاد المتعولم. اقرأ أوراق الملف:
اقرأ أيضا:
|