أتحفنا الأستاذ محمّد النجّار مشكورا ببحث يتناول بعض جوانب السّيرة
المحمديّة قسّمه إلى ثلاثة أجزاء (1) تناول فيها على التّوالي مسائل لا
رابط بينها سوى أنّها متعلّقة بشخصيّة النبيّ محمّد. وقد كان من المؤمّل
أن يفي الأستاذ النجّار بوعده الذي استهلّ به القسم الأوّل من بحثه حين
شدّد على أنّ ما كتب إلى حدّ الآن في مجال السّيرة النبويّة "العربيّة" لا
يعدو ضربا من الأخبار "يدخل في باب الموروث الشعبيّ والإشاعات والأساطير
أكثر ممّا يدخل في باب الحقائق التاريخيّة، ولا يُعتدّ بمعلومات كهذه في
الأبحاث العلميّة التي تقوم على الأركيولوجيا أو على أقلّ تقدير تبحث في
تنوّع النّصوص". على أنّ وعد الأستاذ النجّار تعدّى مسألة ضرورة تجاوز ما
أسماه إشاعات وأساطير، رغم تحفّظنا على الرّبط بين هذين المفهومين اعتباطا
وإيحاء في رأينا بقوّة ما سيعتمده من حجج تقوم حسب قوله على معطيات علم
الآثار أو "على أقلّ تقدير تبحث في تنوّع النصوص". وواضح من هذا الوعد أنّ
الاعتماد سيكون على معطيات أركيولوجيّة لا مجال للطّعن في صحّتها وعلى
نصوص من خارج المدوّنة التّراثيّة الإسلاميّة المشكوك في صحّتها بوصفها
مجرّد خليط من "الموروث الشّعبي والإشاعات والأساطير" حسب تعبيره. بل إنّ
الأستاذ النجّار يزيد من وهج ما يعدنا به من خلال تأكيده على أنّه "ينبغي
ألاّ نعتمد على السّيرة العربيّة وحدها، وأن نبحث أيضا في النّصوص
الأجنبيّة اليونانيّة والسريانيّة وغيرها، المعاصرة لتلك الفترة، حتّى
يمكننا المقارنة بين الروايات واستخلاص بعض الحقائق التّاريخيّة التي قد
تتجاهلها السّيرة العربيّة، بسبب الدّوافع الدينيّة والسياسيّة، فتقدّم
لنا مثالا أو صورة عن النبيّ محمّد كما ينبغي لها أن تكون وليس كما كانت
حقيقة".
وإحقاقا للحقّ، فقد انتظرنا استكمال مسلسل البحث المنجّم على
شعب ثلاث حتّى نرى مدى وفاء كاتبنا بما ألزم به نفسه تجاه قرّائه، وهم كثر
حسب ما تشهد به تعليقاتهم وهذا ممّا يحسب له، ولكنّ الأمل خاب حين رأينا
البحث في مجمله يعتريه اضطرابٌ من أراد إثبات شيء دون تمكّن واف من
الأدوات المعرفيّة اللاّزمة للبرهنة والإثبات، بل هو اضطراب من تيقّن أنّه
لا يقدّم شيئا ذا بال لمن كان ذا اطّلاع على ما كُتب سابقا بشأن السّيرة
النبويّة شرقا وغربا وخاصّة ما يتعلّق منها بتاريخيّة الشّخصيّة
المحمديّة. فبحث أستاذنا – وهذا ما سنعمل على بيانه- لم يتعدّ النّقل
الأمين لما سطّره آخرون قبله، وهو ما يحسب له أيضا لولا تضمّنه – في ما
يتجاوز اعتماد النّقل واللّصق - هنات تتعلّق بالمنهج من جهة أولى، ثمّ –
وهذا الأخطر- بمسألة الأمانة في نقل المعطيات التي يبني عليها رأيه - أو
بالأحرى حصيلة آراء غيره- في التّشكيك في تاريخيّة الشخصيّة المحمديّة وما
يتعلّق بها من أحداث روتها "السّيرة العربيّة" حسب زعمه.
وبما أنّ البحث مقسّم إلى ثلاثة أجزاء لا رابط بينها إلاّ
التّشكيك المنوّه به، وهذا حقّ للكاتب لا نجادله فيه، فإنّنا سنتناول ما
يطرحه من إشكالات بحسب ما ارتضاه من تقسيم . فقد تناول الأستاذ النجّار في
القسم الأوّل مسألة ولادة النبيّ في عام الفيل ليقفز في القسم الثاني إلى
مسألة الأصل المدراشي لقصّة المعراج، وليقفز بعدها مباشرة في ذات القسم
إلى مسألة انتماء النبيّ إلى الهرطقة الأبيونيّة التي ساوى بينها وبين
فرقة النّصارى المذكورة في القرآن، ثمّ ليقفز مرّة أخرى في القسم الثّالث
إلى التّشكيك في نسب النبيّ وبنوّته لعبد الله بن عبد المطّلب مع تعريج
على مسألة وجود إخوة للنبيّ أغفلت المصادر (عربيّها وأجنبيّها هذه المرّة)
ذكرهم. وبما أنّنا لن نخوض في مسألة هذا التّقسيم "اللاّمنهجي" الذي
اعتمده الأستاذ النجّار، إذ هو من مقتضيات "البحث" على ما يبدو بحسب
العنوان الذي اندرج فيه كلامه، فإنّنا لن نحاسبه إلاّ على مدى التزامه
بوعده المنوّه به أعلاه، أي اعتماده على مكتشفات الأركيولوجيا وما جاء في
الكتابات "الأجنبيّة". فأين اعتمد كاتبنا على الأركيولوجيا وعلى النّصوص
"الأجنبيّة" المزامنة لعصر النبيّ؟ وما هي المعطيات التي وفّرتها تلك
المصادر "الخارجيّة" بشأن المسألة المحمديّة ؟
وبما أنّ من مقتضيات النّقد العلميّ تتبّع النصّ المنقود بحسب تفريعاته،
فإنّنا نستسمح القارئ الكريم في اعتماد تلك التّفريعات خلال الإجابة عن
السّؤالين اللذين طرحناهما، إذ في ذلك إنصاف للمنقود حتّى وإن كان منهج
النّقد العلميّ يقتضي غير ذلك.
مسألة تاريخ ولادة النبيّ:
يقول الأستاذ النجّار: "وصلتنا عن تاريخ ولادة النبيّ حزمة من
الأخبار المختلفة، ومن ضمن هذه المعلومات التي دوّنها لنا الإخباريّون
بغثّها وغثيثها…"، ثمّ يورد سبعة أخبار تشير ثلاثة منها إلى ولادة النبيّ
عام الفيل، وهي على ما نرى خبران فحسب، أحدهما عن سويد بن غفلة والثاني عن
أبي جعفر الباقر، أمّا الثّالث، فهو لا يرقى إلى درجة الخبر إذ هو إقرار
من المصدر (الذي لم يذكره الأستاذ النجّار) بأنّ "المقصود [من الخبرين
السّابقين] أنّ رسول الله ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل : بعده
بشهر، وقيل : بأربعين يوماً، وقيل : بخمسين يوماً، وهو أشْهَرُ". فإذا
ما كان هذا قول الجمهور، فما وجه إيراد الأخبار الأربعة الموالية لها وهي
تشير إلى خلاف ذلك إذ يورد اثنان منها ولادة النبيّ قبل عام الفيل (بثلاثة
وعشرين سنة وبخمس عشرة سنة على التّوالي)، واثنان منها بعد عام الفيل
(بثلاثين سنة وبأربعين سنة على التّوالي) ؟
وبقطع النّظر – مرّة أخرى- عن عدم إيراد الأستاذ النجّار
المصدر الذي استقى منه هذه الأخبار الأربعة، وهل هي من مصدر واحد أو مصادر
متعدّدة، فإنّ إيراد تلك المغفلة السّند والمعتمدة صيغة "قيل"، وهو ما
يتكرّر في اثنين منها، من شأنه إلقاء ظلال من الشكّ حول صحّتها، وهو لعمري
ما يريد الأستاذ النجّار إثباته، لولا أنّه رأى فيها وثائق تاريخيّة
معتمدة عند أصحاب "الرّواية الرّسميّة" حسب تعبيره، رغم اعترافه قبلها
بأسطر بأنّها من "غثيث الأخبار"، أي ممّا يجدر عدم الأخذ به، إلاّ أنّه
خالف ذلك واعتمدها. ودليلنا على هذا الاعتماد أنّ الأستاذ النجّار يقول
بعدها مباشرة "أنّ النبيّ ولد عام الفيل، ونحدّده بحوالي 570 ميلادي" وذلك
فقط لأنّ "النّقوش الأركيولوجيّة [وهي أصحّ من التّاريخ المكتوب] وكذلك
الأبحاث تشير إلى أنّ أبرهة قام بمهاجمة عرب جنوب الحجاز بين سنوات 540 و
552 ميلادي تقريبا، أي بين ثلاث وعشرين سنة وثلاثين سنة قبل مولد النبيّ،
ولذلك فإنّ رواية موسى بن عقبة صحيحة". فمن هو موسى بن عقبة هذا ؟ وما هو
كتابه، وأين طبع، ومتى؟ ولم لم تتمّ الإشارة إلى الصفحة التي استقى منها
الأستاذ النجّار معلوماته؟ والأهمّ من ذلك : لم اعتمد الأستاذ قول
الإخباريّين وهم مطعون فيهم من قبله بالتخبّط في القول بأنّ النبيّ ولد
عام الفيل؟ وعلام اعتماده في تحديد عام الفيل بأنّه موافق لسنة 570
ميلاديّة ؟ هل لأنّ ذلك يوافق هواه في اعتبار "أبرهة النّقوش" هو ذاته
"أبرهة الأشرم" المذكور في الأخبار الإسلاميّة؟ وما أدرانا أنّهما واحد؟
بل وما أدرانا أنّه لم تكن لأبرهة في صورة توحّد الشّخصين غزوات أخرى شمال
الحجاز لم تذكرها النّقوش، أو هي ذكرتها ولم نكتشفها بعد؟ …
بل إنّنا نسأل أستاذنا : أين المصادر "الخارجيّة" النّصوصيّة أو
الأركيولوجيّة حسب ما وعدنا به في قضيّة تحديد تاريخ عام الفيل بهدف تحديد
سنة مولد النبيّ، إذ أنّ تحديد سنة الفيل لا تهمّنا إلاّ بقدر إثبات سنة
مولد النبيّ. لقد غابت المصادر الخارجيّة بخصوص هذه القضيّة غيابا تامّا
لولا تلك الإشارة إلى ورود اسم أبرهة في ثلاثة نقوش أثريّة تؤكّد مهاجمته
قبائل شمال اليمن بين سنتي 540 و552 ميلاديّة. ولنا هنا وقفة مع هذه
النّقوش، وبالأحرى مع النّقش الذي يهمّنا ولم يذكر الأستاذ سواه كونه يخدم
طرحه في سبيل التّشكيك في الرّواية الإسلاميّة. وأوّل ما يلفت الانتباه،
أنّ الأستاذ لم يعد إلى أي كتاب موثوق به للإشارة إلى النّقش، بل إنّه
تجاهل أيضا اللّغة التي كتب بها وكذلك نوعيّة الخطّ، بل وتجاهل حتّى
الإشارة إلى الاسم الكامل للملك صاحب النقش. فما هو السّبب يا ترى؟ السّبب
بكلّ بساطة هو أن الأستاذ النجّار لم يعد إلى أيّ مصدر أركيولوجيّ معتمد
سوى صفحة على الأنترنت على موقع "منتديات وادي نجران" السّعودي نقل منها
نصّ النّقش بالعربيّة (مع ما يقترحه صاحب الصّفحة، وهو بالمناسبة لا يدّعي
الاختصاص، من تأويلات في قراءته) لخّص منها ما أورده حول النّقش (2).أمّا
بقيّة كلامه عن تاريخ النّقش وعدم مطابقته لسنة ميلاد النبيّ (حسب المشهور
عنها بكونها سنة 570 ميلاديّة)، فهو منقول بكلّ "أمانة" من صفحة تابعة
لموقع المعهد العربي للبحوث والدّراسات الاستراتيجيّة (3).
وغنيّ عن البيان أنّ الموقعين المذكورين لا يمكن بأيّ حال
اعتبارهما مصدرين معتمدين علميّا، إذ ما أكثر "الغثّ" على مواقع الأنترنت.
لكن الأدهى أن يوهمنا الأستاذ الجليل بأنّ نصّ النّقش قد قرأه في مصدر
فرنسيّ لم يذكر حتّى عنوانه كاملا إذ اكتفى في الهامش (رقم 1) بالإشارة
إليه على هذا النّحو: Journal
Asiatique/A.L.Premare/V.288/T2/2000/p261-367، والحال أنّ المصدر هو
مجرّد مقال للمؤرخ الفرنسي ألفريد لويس دي بريمار (Alfred-Louis de
Prémare) صادر في المجلّة الآسيويّة في عددها الثّاني، المجلّد عدد 288
لسنة 2000 بعنوان "يريد تحطيم المعبد : مهاجمة الكعبة من قبل الملوك
اليمانيّة قبل الإسلام بين الأخبار والتّاريخ" (4) وهو يمتدّ على سبع
صفحات فحسب (صص 261-267). فكيف يكون هذا المقال مصدرا رئيسيّا لتناول نقش
أثريّ؟ أليس بريمار نفسه مجرّد ناقل لما قيل حول النّقش؟ وهل تحوّل بقدرة
قادر من مستعرب ومختصّ في تاريخ الإسلام إلى خبير في النّقوش المكتوبة
بخطّ المسند العربيّ الجنوبيّ؟ وأخيرا كيف يترجم باحث محترم نقشا مكتوبا
بخطّ المسند وباللّغة السبئيّة اعتمادا على ترجمة له إلى اللّغة الفرنسيّة
إلاّ أن يكون ناقلا لنصّه العربيّ عن غيره وهو ما نزعم أنّنا أثبتناه؟
إنّنا نربأ بالأستاذ النجّار أن يقع في مثل هذه الأخطاء
العلميّة، وقد كان عليه الرّجوع إلى المصادر الأمّ التي درس أصحابها
النّقش المذكور وعلى رأسهم مكتشفوه ضمن البعثة المعروفة باسم بعثة
"ريكمانز- فيلبي- ليبنز" (Ryckmans – Philby - Lippens ) أثناء طوافها في
الحجاز سنة 1951 لجمع آثارها، والعودة بالخصوص إلى أوّل نشر لهذا النّقش
مع ترجمته إلى الفرنسيّة من قبل عضو تلك البعثة عالم اللّغات العروبيّة
"غونزاغي ريكمانز" Gonzague Ryckmans في مجلّة الدّراسات الساميّة (Le
Muséon) وقد أعطاه الرّمز RY 506 الذي صار يعرف به (5) قبل أن يعلّق عليه
ابن أخيه "جاك ريكمانز" Jacques Ryckmans في نفس العدد من هذه المجلّة
(6). ولو أراد الأستاذ النجّار التعرّف بحقّ على هذا النّقش، لعاد أيضا
إلى الكتابات المتخصّصة في النّقوش السّبئيّة المنشورة بعد نشر مقال
ريكمانز وخاصّة كتابات عالمي الآثار العروبيّة الجنوبيّة "ألفريد بيستون"
Alfred Beeston (7) و"سيدني سميث" Sidney Smith (8)، ولعرف حينها أنّ
قراءة ريكمانز نفسها كانت منقوصة، وهو ما اعترف به هذا العالم نفسه، لوجود
حروف ممسوحة من على لوح النّقش، ولعرف أيضا أنّ عالم الآثار المصري عبد
المنعم عبد الحميد سيّد قد قام بدراسة جديدة لنصّ النّقش إثر زيارة له
لمنطقة "مريغان" قرب مدينة "تثليث" (220 كلم شمال غرب مدينة نجران) في
نهاية الثّمانينات حين كان يدرّس علم الآثار بجامعة الملك عبد العزيز
بجدّة، وأعاد تصوير النّقش بأدوات حديثة بحيث استطاع قراءة بعض المقاطع
المطموسة فيه وهو ما نشره ضمن بحثين علميّين مستفيضين باللّغتين العربيّة
(9) والانكليزيّة (10). ولعرف أيضا أنّ العالم المصريّ قد اكتشف نقشا آخر
صغيرا إلى جوار النّقش المذكور لم تتنبّه له بعثة ركمانز سجّله محارب يدعى
"منسي بن ذرانح" حارب تحت قيادة "أبرهة"، ليتبيّن له من دراسته للنّقشين
معا، أنّ العبارات النّاقصة أو غير الواضحة في النّقش الكبير تخصّ أسماء
شهور وقبائل ومواقع ترتبط ببعضها من حيث الزّمان والمكان، وأنّ النّقش
يروي أخبار صراع قبليّ استغلّه أبرهة الحبشي في ضرب أعدائه من قبائل نجد
(وليس قبائل شمال اليمن كما أشار الأستاذ النجّار بلا سند)، وأنّ أسماء
هذه القبائل والأماكن لا صلة بينها وبين تلك التي وردت في الرّوايات
العربيّة عن حملة الفيل، ليخلص إلى أنّ النّقش الكبير يسجّل أخبار حملة
أخرى لأبرهة سبقت حملة الفيل التي أشار إليها الإخباريّون العرب بفترة
تتراوح بين 18 و23 سنة.
ولعرف أخيرا أنّ الباحث المصري قام بتفنيد ادّعاء المستشرق
الإسرائيليّ "مايير يعقوب كيستر" اعتمادا على ما جاء في مخطوطة كتاب "نسب
قريش" للزّبير بن بكّار بأنّ نقش مريغان يسجّل حملة الفيل (11)، وأثبت بما
لا يدع مجالا للشكّ اعتمادا على زيف ما ادّعاه كيستر (وأقلّه اعتماده
على ما جاء في كتاب نسب قريش، وهو من كتب الأخبار العربيّة التي يطعن في
مصداقيّتها الأستاذ النجّار نفسه) ثمّ اعتمادا على أسماء القبائل والأشخاص
الواردة في نقشي مريغان معا (نقش أبرهة ونقش منسي) بوصفها مخالفة كلّ
المخالفة لما تورده المرويّات العربيّة بشأن المشاركين في حملة الفيل
والمعترضين عليها من زعماء القبائل العربيّة، أنّ الأمر يتعلّق بحملة أخرى
لا يصحّ أبدا اعتبارها هي نفسها حملة الفيل. أمّا إذا صدّقنا ما يقوله
كيستر حول التّاريخ الذي استخلصه من رواية الزّبير بن بكّار ، وهو عام 522
م، مدّعيا أنّه تاريخ حملة الفيل وبنى عليه قوله بأنّ نقش مريغان يسجّل
أحداث حملة الفيل، فإنّ ذلك سيكون مشوبا بنقطة ضعف قاتلة هي تناقضه مع عمر
النبيّ الذي تكاد تجمع كلّ الرّوايات أنّه توفيّ في سنّ الثّانية
والستّين. فالقبول بقول كيستر أنّ عام 522 م هو عام الفيل يقتضي القبول
أيضا بقوله إنّ عام الفيل هو عام مولد النبيّ، وهو ما يعني أنّ النبيّ عاش
حتّى سنّ الثّمانين، ولا حلّ حينها إلاّ اعتبار الحملة التي يذكرها نقش
أبرهة قد تمّت قبل حملة الفيل بثمانية عشر سنة.
ونخلص من هذا كلّه إلى أنّ قول الأستاذ النجّار بولادة النبيّ عام الفيل
الذي يجعله سنة 570 م لا سند له من نقش أبرهة نفسه، وهو نقش لا ذكر فيه
لأيّ حيوان ناهيك عن ذكره الفيل، ولا ذكر فيه لأيّ قبائل أو شخصيّات أشارت
الأخبار العربيّة إلى مشاركتها في ما اصطلحت عليه باسم "حملة الفيل".
وحتّى لو كلّف الأستاذ النجّار نفسه عناء البحث في مستندات بعض المستشرقين
أمثال كيستر الذين يجعلون نقش أبرهة مخصوصا بحملة الفيل على مكّة، فإنّه
كان سيكتشف أنّه أمر لا أساس له إلاّ الأخبار العربيّة نفسها التي لا ننصح
بأن يعتمدها باحث مثله مشكّك فيها دون أن يدرسها ويمحّص غثّها من سمينها.
بين النّصارى والمسيحيّين:
اعتمد الأستاذ النجّار مصدرا واحدا يتيما لإثبات رأيه في مسألة
أسالت أطنانا من الحبر، ألا وهي مسألة وجود فرقة يهومسيحيّة مهرطقة تحمل
اسم "النّصارى" أشار إليها القرآن، إذ اعتمد ما جاء في نقش "كرتير" أو
"كردير"(يكتب هكذا في الأدبيّات الفارسيّة الحديثة ويكتب Kertîr أو Kerdîr
في الأدبيّات الأوروبيّة وليس "كارتر") الذي يعود إلى سنة 276 ميلاديّة.
فقد جاء في ذلك النّقش حسب رواية الأستاذ النجّار ما يلي: " وإنّي كارتر
Karter أعلنت عن حزني وأسفي منذ البداية للآلهة والملوك ولروحي، فجعلت
النّيران والمجوسيّة مزدهرة في مملكة فارس وفي مملكة "أنيران" Aniran
أيضا. […] وقمت بطرد عقائد أهريمان والشّياطين من المملكة، وانتصرتُ على
اليهود والبوذيّين والبراهمان والنّصارى والمسيحيّين والمندائيّين
والمانويّين". ويشير الأستاذ في الهامش إلى أنّه استقى هذا الكلام من مقال
لفرانسوا دوكري (François Decret) وهو بعنوان "ماني والتّقليد المانوي"
(Mani et la tradition manichéenne) صادر في المجلّة الآسيويّة لسنة 1960،
وقد راجعنا المقال المذكور ولم نعثر إلاّ على ما يمكن اعتباره قراءة
للنّقش المذكور واجتهادا من كاتب المقال في ترجمة نصّه إلى اللّغة
الفرنسيّة. فمن أين لأستاذنا النصّ العربيّ للنّقش؟
يبدو أنّ الأستاذ النجّار قد اكتفى بترجمة النصّ الفرنسي إلى
العربيّة، وهذا مخالف كلّ المخالفة لما يعرفه من لديه أدنى اهتمام
بالنّقوش من وجوب الرّجوع إلى النصّ الأصليّ، وإن تعذّر ذلك إلى النصّ
العربيّ إن وجد أو على أقلّ تقدير مقارنة ترجمات متعدّدة له شرط أن تكون
النّصوص المترجمة موثوقة.
وبداية نقول إنّ نقش كرتير لا يحمل هذا الاسم بل هو معروف باسم
"نقش رستم" في المصادر العربيّة والإيرانيّة (Nāqš-e Rostām أو Naqsh-i
Rustam في المصادر الأوروبيّة) وهو موجود على جدران المعبد المعروف باسم
"كعبة زرادشت" (Ka'ba-i Zardosht أو Kaʿba-ye Zardošt في المصادر
الأوروبيّة و"كعبه زرتشت" في المصادر الإيرانيّة) الواقعة في واد يبعد
حوالي 12 كم شمال غرب مدينة "پارسه" الأثرية (برسيبوليس باليونانيّة
Πέρσης πόλις بمعنى "مدينة الفرس" وهي اليوم مدينة "تخت جمشيد") بالقرب من
مدينتي اصطخر وشيراز في محافظة فارس بإيران، ومكتوب بثلاث لغات هي
البهلويّة السّاسانيّة والبهلويّة الأشكانيّة واليونانيّة، نقش تحت إشراف
الكاهن الأكبر (موبد موبدان، موبذان الموابذة في المصادر العربيّة)
المدعوّ "كردير هر مزد" (أو "موبد أورمزد") يصف فيه ورع الملك "أردشير
الأوّل" وابنه "وارهران الثّاني" وما قاما به من أعمال في سبيل الدّين
وخاصّة حروبهما مع الرّومان، ومن ذلك قمع أتباع الدّيانات الأخرى لصالح
الدّيانة الزّرادشتيّة حسب ما جاء في السّطر العاشر من ذلك النّقش الذي
ننقله بالحرف اللاّتيني حسب أدقّ المصادر (12): yhwdy W smny W blmny W
n'sl'y W klstyd'n W mktky W zndykyواختصارا، نقول إنّ قراءة لفظ (n'sl'y)
كمقابل للفظ (Nasoreans) بمعنى "المسيحيّين الأرثودكس" (Orthodox
Christians)، ولفظ (klstyd'n) كمقابل للفظ (Christians) وبمعنى
"المسيحيّين" عموما (13)، هي مجرّد اجتهاد يذهب كثير من المختصّين إلى
وصفه بالتجنّي على اللّفظين واستنطاقهما بما يخدم طرحا دون آخر (14).
ولعلّ أقلّ الآراء تطرّفا في هذا الاتّجاه ذاك الذي يجعل اللّفظ
الأوّل تسمية عدائيّة استنقاصيّة من قبل المزدكيّين تجاه المسيحيّين جملة،
والثّاني تسمية مخصوصة بالمسيحيّين الفارّين من سوريا إلى داخل
الامبراطوريّة الإيرانيّة (15). أمّا المشكّكون، فيذهب معظمهم إلى أنّ لفظ
n'sl'y (ناصراي) يخصّ الطّائفة المندائيّة (Mandaeans) التي تطلق على
نفسها اسم (ناصورائي) Nasoraeans (16) في حين يطلق عليها البعض اسم
"المسيحيّين أتباع يوحنّا المعمدان" المنكرين أن يكون يسوع (عيسى) هو
المسيح والذين استقرّوا في إيران والعراق منذ القرن الميلاديّ الأوّل
(17)، وهي الطّائفة المعروفة عند العرب باسم ّالصّابئة" أو "الصّابئين"
المذكورين في القرآن (المائدة، 69؛ البقرة، 62؛ الحجّ 17)، بينما يخصّ
اللّفظ الثّاني المسيحيّين في جملتهم أي المؤمنين بالتّثليث وبأنّ يسوع
(عيسى) هو المسيح، وهذا أقرب للواقع حسب ما نرى ويرى المختصّون في هذه
الطّائفة وعلى رأسهم اللّيدي دراور (18). فكيف ينتقي الأستاذ النجّار
قراءة توافق رؤيته دون إشارة إلى تعدّد القراءات (19)؟ هذا إن كان له بها
علم. وكيف أجاز لنفسه الفصل بين "الحنفاء" و"المسيحيّين" (القسم الثاني من
البحث) رغم إشارة كثير من الدّلائل إلى وشائج قربى وطيدة بين الطّائفتين
في نجد والحجاز وتهامة في فترة البعثة؟ ولم لم يشر إلى "الصّابئة"
وعلاقتهم بالحنفاء من جهة وبالمسيحيّين من جهة أخرى والحال أنّ النبيّ
نفسه كان متّهما باتّباع مذهب "الصّابئة"؟ وأخيرا : كيف يجيز أستاذنا
لنفسه الرّجوع إلى نقش يعود إلى سنة 276 ميلاديّة لتقرير أمر يجري سنة 610
ميلاديّة؟ ألا يوجد أيّ أثر لتلك الفرقة، التي يزعم أنّ النبيّ محمّدا كان
من أتباعها قبل نبوّته، على امتداد أكثر من ثلاثة قرون(20)؟ وهذا موضوع
طويل قد نعود إليه لاحقا في سبيل الردّ على بعض الكتابات التي نشرت على
موقعنا (الأوان) وزعمت ذات زعم الأستاذ النجّار دون أن تثير ما يكفي من
ردود رغم أهمّيتها في فهم نشأة الإسلام.
مسألة الإسراء والمعراج:
يرى الأستاذ النجّار أنّ قصّة المعراج تعود لأصول يهوديّة
مدراشيّة، ونحن لن نناقشه في ذلك باعتبار أنّ القصّة معروفة في الآداب
البابليّة والسّاسانيّة (معراج النبيّ زرادشت مثلا) ممّا يجعل منها موروثا
مشتركا لعدّة شعوب لا يستثنى منها العرب، وهذا موضوع طويل وشائك ليس هنا
محلّ طرحه. إلاّ أنّنا سنناقش الأستاذ النجّار في مسألة فرعيّة توحي
بتبحّره في التّحليل الفيلولوجي المقارن قد لا نجاريه فيه، لذا نقتصر على
نقد منهجه فحسب. جاء عند النجّار:" أمّا عن البراق الذي طار بالنبيّ فقد
يذكّرنا بالحصان المجنّح (بيجاسوس) المشهور في الأساطير اليونانيّة وتغنّى
به الشعراء القدامى، وحسب الأسطورة فقد طار هذا الحصان ناحية المكان الذي
يخرج منه البرق والصاعقة واستعمله (برسيوس) في تنقّلاته، وربّما هناك
علاقة إيتمولوجيّة بين (بيجاسوس) باليونانيّة و(بيهاساس) بالسومريّة والتي
من معانيها الضوء القويّ وتقابلها (براقو) بالأكاديّة فهذا الحصان الذي
طار ناحية البرق اسمه : بيجاسوس Pegasus (يونانيّة) = بيهاساس Pihassas
(سومريّة) = براقو Baraku (أكاديّة) = براق (عربيّة)=البُراق، وليس من
المستبعد أنّ كتبة السيرة استعاروا الحصان المجنّح بمعنى البُراق وأسّسوها
كمعجزة للنبيّ خاصّة بعد احتكاكهم بالحضارات الأخرى وتداخل الثقّافات".
وأوّل ما نلاحظه هنا أنّ الأستاذ يشير في الهامش إلى استقائه
التّخريجات الاشتقاقيّة (الإيتيمولوجيّة) من مؤّلف جماعيّ أورد عنوانه دون
أيّ إشارة إلى كاتب المادّة المندرج تحتها ما أشار إليه من تخريج (21)، بل
ودون أن يتفطّن إلى أنّه قاموس. وقد يكون عذره في ذلك عدم معرفته باللّغة
الألمانيّة، لكنّه تناسى أيضا الإشارة أوّلا إلى مكان وتاريخ نشر الكتاب
واسم منسّق الموادّ، ثمّ إلى اسم المادّة التي نقل منها، ثمّ كاتبها، وهذا
غير مقبول من باحث قدير مثله. والكتاب المقصود هو قاموس من تأليف جماعي
يضمّ جميع ما يتعلّق بالحضارات الشرقيّة القديمة التي استخدمت تقنية
الكتابة المسماريّة (ما بين النّهرين، سوريا، الأناضول، إيران، …) وهو
محرّر بعدّة لغات أوروبيّة (الألمانيّة، الفرنسية، الانكليزية) ضمن
مجلّدات (صدر منها 16 مجلّدا إلى حدّ الآن) ومرتّبا حسب التّرتيب الأبجدي
للّغة الألمانيّة (22). وما أشار إليه الأستاذ النجّار يقع تحت مادّة
"i(Piḫaŝŝaŝ(ŝ" وهي من تحرير أستاذ اللّغات الساميّة بجامعة تلّ أبيب
"إيتامار سينغر" Itamar Singer.
أمّا الملاحظة الثّانية، فتتعلّق بشكّ الأستاذ النجّار حول علاقة
(بيجاسوس) اليونانيّة و(بيهاساس) السّومريّة التي "تقابلها (براقو)
الأكادية". وهذا شكّ لا يعود الفضل فيه إلى الأستاذ النجّار بل إلى كاتب
المادّة الذي شكّك في وجود علاقة لغويّة اشتقاقيّة بين تلك الألفاظ. ومن
هنا فإنّنا نسأل عن معنى المقابلة بينها إن لم تكن بهذا المعنى اللّغويّ
الاشتقاقيّ، وعن وجه إيراد اللّفظين اليوناني والسّومري وهما لا يمتّان
للّفظ الأكادي بأيّ صلة لفظيّة، إلاّ إذا كان المقصود الإيحاء بوجود صلة
معنويّة أي أنّ لفظ (براقو) الأكادي يشير إلى ما يشير إليه اللّفظان
اليوناني والسّومري أي معنى "الحصان المجنّح" وهو ما أثبته الأستاذ
النجّار بهذه المعادلة الرّياضيّة: "بيجاسوس Pegasus (يونانيّة) = بيهاساس
Pihassas (سومريّة) = براقو Baraku (أكاديّة) = براق (عربيّة)=البُراق"،
والحال أنّ لفظ بَرَاقُ (وليس براقو كما يكتبه الأستاذ النجّار محرّفا
نتيجة النّقل عن مصدر مكتوب بالحرف اللاّتيني) لا صلة له بتاتا لفظيّا
ومعنويّا باللّفظين اليوناني والسّومري ولا يعني البتّة "الحصان المجنّح"
إذ هو فعل وليس اسما ويعني ما يعنيه بالضّبط فعل "بَرَقَ" في العربيّة أي
: لَمَعَ، أَضَاءَ، شَعَّ، وَمَضَ، تلألأ، تألّق(23).
أمّا قول الأستاذ النجّار إنّ لفظ (Pegasus) اليوناني هو نفسه
لفظ بيهاساس Pihassas السّومريّ، فإنّنا نحيله مرّة أخرى إلى نفس المصدر
الذي اعتمده والذي لا نجد فيه مطلقا ما يدعم القول بوجود ذلك اللّفظ في
اللّغة السّومريّة، وغاية ما نجده هو الإشارة إلى أنّ لفظ Piḫaŝŝaŝ(ŝ)i
(ويقرأ بالعربيّة "ﭙيخاشاشي" حسب نظام العلامات المجمع عليه في قراءة
الكتابات المسماريّة، وليس "بيهاساس" Pihassas كما أثبته الأستاذ النجّار
مدّعيا أنّه سومري) هو اسم لإله العاصفة والصّواعق عند "اللّوبيّين"
(Louvites/Luwians) (24) الذين نقل عنهم اليونان أسطورة ظهوره في صورة
حصان مجنّح (winged horse) ونسبوها إلى إلههم زوس (Zeus). ومن هنا، فإنّ
اللّفظ ينتمي إلى اللّغة اللّوبيّة وهي لغة هندوربيّة كان يتحدّثها
اللّوبيّون الذين استقرّوا في الأناضول (Anatolia) قبل الحثيّين
(Hittites) ولا علاقة له البتّة بالسّومريّين(25).
وخلاصة القول هي عدم وجود أيّ إثبات لغويّ لما يفترضه الأستاذ النجّار
من تقابل بين تلك الألفاظ في ظلّ غياب الوسيط الأناضولي ممثّلا بخاصّة في
اللّغة اللّوبيّة، وذلك رغم القبول العامّ بأنّ اللّفظ اليونانيّ يشير إلى
إله العاصفة عند اللّوبيّين(26). بل إنّ حضور نقوش يونانيّة وأشوريّة
تصوّر الحصان المجنّح غير كافٍ للقول بأخذ اليونان عن الأشوريّين في غياب
أيّ نقش يصوّر ذلك في كامل منطقة الأناضول (27). ومن هنا، فلا دليل ثابتا
على أخذ العرب لفظ "البُرَاق" عن اليونان أو اللّوبيّين بمعنى "الحصان
المجنّح"، ولا دليل أيضا على أخذهم اللّفظ عن الأكاديّة، إذ لا وجود
لتسمية الحصان المجنّح فيها باسم "بَرَاقُ"، وعلى من يقول بنقل العرب
للاسم وللأسطورة عن غيرهم من الشّعوب إثبات ذلك بالدّليل الملموس لا
بمجرّد افتراض غير مؤسّس.
نسابة النبيّ وإخوته:
جاء عند النجّار : "وإنّما ننظر أيضا إلى المصادر الخارجيّة
الأجنبيّة المعاصرة لفترة بدايات الإسلام وهي تؤكّد أحداث السيرة في
خطوطها العامة أو تنفيها أو تقدّم وجهة نظر أخرى، ومن هذه المصادر
الأجنبيّة تاريخ سبيوس المكتوب باللغة الأرمينيّة سنة 660 م وهو نصّ معاصر
للأحداث تقريبا يذكر محمّدا بالاسم ويشير إلى أنّه تاجر وهذا يتّفق مع
السيرة العربيّة في هذه النقطة، وكذلك توما القسّيس سنة 640 م متحدّثا عن
معركة غزّة وذاكرا اسم محمّد ويذكره أيضا تاريخ خوزستان سنة 660 م ويعقوب
الرهوي سنة 708 م، الخ..".
ومرّة أخرى يفاجئنا النجّار باعتماد ما يسمّيه "السّيرة العربيّة" في
إيراد أخبار رأى أنّها تشكّك في نسب النبيّ، فنراه يعتمد أخبارا واردة عند
التّرمذي وابن سعد والأحوذي وابن حجر وغيرهم، والحال أنّه يشكّك مبدئيّا
في اعتمادها مصدرا لسيرته ويعد باعتماد مصادر خارجيّة أجنبيّة معاصرة
لفترة بدايات الإسلام لتأكيد شكوكه. إلاّ أنّ الأمر كان على خلاف ما وعد
به الأستاذ، فقد اقتصر على إيراد "قراءته" الانتقائيّة لبعض ما جاء في
الأخبار العربيّة مبرّرا استبعاد الأخبار التي لا تخدم طرحه التّهويميّ
بقوله :"فنحن نعرف أنّ لقريشا أسبابها السياسيّة التي تدفعها لجعل النبيّ
منها". فلم لا تكون الرّوايات التي يزعم الأستاذ أنّها تطعن في نسب النبيّ
ذات أغراض سياسيّة أيضا؟ ألم يذهب الأستاذ إلى أنّ كتابة ابن إسحاق لسيرته
كانت بطلب من الخليفة الأموي؟ فما أدرانا أنّ ما استشهد به لم يكن خاضعا
لشرط من نفس الجنس قد تكون أملته مقتضيات الشّعوبيّة أو غيرها من النّزعات
التي لا يخفى طابعها السّياسي في حقبة معيّنة ؟…
ولنعد إلى المصادر الخارجيّة، فقد أوهمنا الأستاذ باطّلاعه على
بعضها حين أورد أسماءها فحسب، ودون أن يتجشّم عناء العودة إليها إذ اكتفى
بالإحالة على ما جاء بشأن النبيّ فيها كما جمعه روبرت هويلند Robert
Hoyland في مصنّفه الموسوم بـ"رؤية الإسلام كما رآه آخرون : مسح وتقييم
للكتابات المسيحيّة واليهوديّة والزّرادشتيّة حول الإسلام المبكّر"
المنشور سنة 1997 ضمن العدد 13 من سلسلة: دراسات في العصر القديم المتأخّر
والإسلام المبكّر (28). إلاّ أنّ ما أورده الأستاذ النجّار ممّا حوته
إشارات تلك المصادر حول النبيّ لم يتعدّ تأكيدها تاريخيّة شخصيّته، وهذا
أمر يحسب أيضا للأستاذ لولا أنّه تعمّد ذكر تلك المصادر لمجرّد تأكيد
فكرته القائلة بأنّ شكّه لا يطال تاريخيّة الشّخصيّة بل أصلها وفصلها
ونسابتها وبيئتها، وهو ما اعتمد فيه الأستاذ "السّيرة العربيّة" المطعون
فيها دون غيرها من تلك المصادر الخارجيّة التي لم يقل لنا الأستاذ ما الذي
استقاه منها من معطيات قد تدعم شكوكه.
بل إنّ كاتب هذه السّطور لا يخفي سرّا لو عبّر عن مدى شكّه في
اطّلاع الأستاذ على كتاب هويلند المنوّه به، فمجرّد ذكر ما ورد فيه حول
النبيّ لا يستحقّ الاطّلاع عليه فقد كفتنا الأنترنت ذلك، ودليلنا وجود عرض
كامل للمواضع التي تناولت فترة الإسلام المبكّر في المصادر المسيحيّة
واليهوديّة والزّرادشتيّة كما جمعها هويلند نفسه على عشرات المواقع
الالكترونيّة للشّبكة، وهي مرتّبة بحسب اسم المؤلّف مع ذكر تاريخ المصنّف
(29). فما الذي قام به الأستاذ النجّار عدا النّسخ واللّصق دون الغوص في
موضوعه، ألا وهو إطلاعنا على ما في تلك "المصادر الأجنبيّة" ممّا يؤيّد
شكوكه في الأخبار التي أوردتها "السّيرة العربيّة"؟
أمّا مسألة وجود إخوة للنبيّ، وهي مسألة أخفتها عنّا المصادر
العربيّة بدهاء كبير، بل وبتآمر لا مثيل له بينها وبين المصادر الخارجيّة
حسب ما فهمنا من أقوال الأستاذ النجّار، فقد جاء عنده : "هناك رواية أخرى
واضحة جدّا يذكرها ابن سعد في الطبقات : قالت أمّ النبي، صلّى الله عليه
وسلم، قد حملتُ الأولاد فما حملتُ سخلة أثقل منه". ثمّ يعلّق بأنّ هذا
الحديث هو "حديث مرفوع يرويه ابن سعد عن عمرو بن عاصم الكلابي الذي أخبره
همّام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله عن آمنة"، ليتّجه بعدها إلى إيراد ما
يقوله رجال الجرح والتّعديل عن أولئك الرّواة ويستخلص أنّهم كانوا من
الثّقاة العدول مبرّرا ذلك بقوله :"لقد ذكرت تخريج سند هذا الحديث حتّى لا
يطعن طاعن في رواته ويتّهمهم بالتدليس والتزوير" قبل أن يضيف: "كما أنّ
معناه"(وهو أنّ آمنة حملت بأولاد آخرين) مذكور بأسانيد أخرى أيضا وهي
تقوّي بعضها بعضا".
ولنا هنا مع هذا الحديث وقفة مطوّلة، إذ من شأن بيان تهافت
المنطق "البحثي" الذي يعتمده الأستاذ النجّار أن يعطينا فكرة عن منهج بات
منتشرا هذه الأيّام عند شريحة واسعة من الكتّاب ممّن استسهل الكتابة في
السّيرة النبويّة دون أن يكون أعدّ للأمر عدّته وعلى رأسها منهج علميّ
للبحث والتقصّي، وربّما قبل ذلك الأمانة والموضوعيّة في التّناول
والتّحليل والتّبليغ. ولنا حول إيراد الأستاذ هذا الحديث أربع ملاحظات :
1- الحديث يرويه ابن سعد عن شيخه الواقدي وليس عن عمرو بن عاصم الكلابي
كما يورد الأستاذ، والواقدي يرفض هذا الحديث الذي وصفه الأستاذ جزافا
بأنّه "مرفوع". فالحديث كما أورده ابن سعد بنصّه "قال (يعني الواقدي)
أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي أخبرنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله
قال : قالت أمّ النبي صلى الله عليه وسلّم : قد حملت الأولاد فما حملت
سخلة أثقل منه. قال : قال محمد بن عمر الأسلمي (أي الواقدي): وهذا ممّا لا
يعرف عندنا ولا عند أهل العلم، لم تلد آمنة بنت وهب ولا عبد الله بن عبد
المطلب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم". فالواقدي ينكر هذا الحديث
ويشير إلى شيوع إنكاره عند "أهل العلم"، وكان من باب الأمانة الإشارة إلى
هذا الأمر حتّى تأتي صحّة النّتيجة على قدر صحّة مقدّماتها.
2- أمّا وصف هذا الحديث بأنّه "مرفوع"، فليعلم الأستاذ أنّ
الحديث المرفوع يعني أنّه مسند إلى النبي، فإذا قيل : في حديث فلان فهذا
يعني أنّه من قول النبي وليس من قول فلان .ومثله إذا قال الراوي عن
الصحابي : يُنمـيه أو يرفعه أو يبلغ به إلى النبي. وهذا لا يُفيد مطلقا
صحة ولا ضعفا في الحديث وإنما يُبيِّن أنّ الحديث من قول النبيّ. وبما أنّ
هذا الحديث المستشهد به منقطع الإسناد أي أنّه غير مرفوع إلى النبيّ
بدلالة عدم وجود سند ممتدّ ينتهي إليه، فهو من جنس الحديث المقطوع.
والحديث المقطوع هو ما انقطع إسناده، أي ما وُجِد في إسناده انقطاع بين
راويين. وغير خاف على من لديه أدنى معرفة بعلوم الحديث أنّه يُشترط لصحة
الحديث اتصال الإسناد فإذا وُجِد انقطاع في الإسناد صار من أنواع الحديث
الضعيف. ومن هنا تتبيّن علّة إنكار الواقدي و"أهل العلم" لهذا الحديث
"المنقطع الضّعيف" الذي أوهمنا الأستاذ بصحّته لمجرّد تصنيفه "مرفوعا" دون
دراية بكونه "منقطعا"!
2- ولقد بحثنا مليّا عمّا يثبت إيراد غير ابن سعد في الطّبقات
حديثا مثل هذا بلفظه أو بمعناه، ولم نعثر على أيّ خبر مثل هذا في الرّوض
الأنف للسّهيلي وتاريخ الأمم والملوك للطّبري والحال أنّ الأستاذ النجار
يحيل عليهما. كما أنّنا لم نجد في السّيرة الحلبية التي يحيل عليها أيضا
إلاّ هذا الخبر في الباب الثاني وهو بعنوان (حمل آمنة برسول الله) : "وروى
ابن سعد وابن عساكر عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ آمنة قالت :
لقد علقت به فما وجدت له مشقّة حتّى وضعته" (ج 1، ص 329). فمن أين للأستاذ
أن يقول إنّ الحديث موجود بلفظ آخر في الرّوض الأنف وتاريخ الطّبري
والسّيرة الحلبية؟ ولم لم يثبت الصّفحات والأجزاء من تلك الكتب التي استقى
منها معلومته تلك على غرار ما فعل مع طبقات ابن سعد؟ ألا يزيد هذا الأمر
شكّنا ويعزّز مسألة الأمانة العلميّة في عدم الإشارة إلى إنكار الحديث
المقصود وأنّه ليس مرفوعا بل منقطعا (وبالتّالي ضعيفا)؟
3- هذا بخصوص انقطاع السّند وضعف الحديث وإنكار شيوخ الحديث
له. فإذا انتقلنا إلى الرّاوي الأوّل له وهو إسحاق بن عبد الله الذي يقول
النجار أنه روى عن آمنة، فإنّنا لا نجد تحديدا مضبوطا لشخصه إذ يوجد كثير
من اسمه إسحاق بن عبد الله، ولكنّ إشارة الأستاذ النجّار إلى أنّ همّام بن
يحيى روى عنه وأنّ "مالك لا يقدّم عليه في الحديث أحدا" تجعلنا نتّجه إلى
أنّه "إِسْحَاقُ بنُ عَبْدِ اللهِ بن أَبِي طَلْحَةَ زَيْدِ بنِ سَهْلٍ
الأَنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ، النَّجَّارِيُّ، المَدَنِيُّ، الفَقِيْهُ،
أَحَدُ الثِّقَاتِ. سَمِعَ مِنْ : عَمِّهِ؛ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ… وكان مالك
يثني عليه، ولا يقدّم عليه أحدا. وأبوه عبد الله قد حَنَّكَهُ النبيّ…".
وبهذا يتبيّن لنا أنّ الرّاوي الأوّل، ووالده هو أخو مالك بن أنس في
الرّضاعة، لم يعاصر آمنة والدة النبيّ ولا روى عنها بسند مرفوع إليها،
وأنّ النبيّ حنّك والده أي أنّ والده لم يولد إلاّ بعد البعثة النبويّة،
فكيف يؤخذ بحديثه في مثل هذا الخبر الجلل؟ لقد عاش هذا الرّجل بين النّصف
الثاني من القرن الهجري الأوّل والثلث الأوّل من القرن الثاني إذ نجد في
كتاب الكلاباذي "الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسّداد" المعروف
بكتاب رجال صحيح البخاري (تحقيق: عبد الله الليثي، دار المعرفة، بيروت،
1987، ج 1، ص 61)" : إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة:… قَالَ
البُخَارِيّ : يقال إنّه نُفِي باليمامة إلى زمن بني هاشم، وكانت أوّل
ولاية بني هاشم لثلاث عشرة بقيت من شهر ربيع الأوّل سنة 132. وقال عَمْرو
بن عَلّي وَابْن نمير : مات سنة 134. وقال أبو عيسى مثل عمرو بن عليّ.
وقال الواقديّ : كان مالك لا يقدّم عليه أحدا في الحديث، توفّي سنة 132".
فكيف يروي عن آمنة وبينها وبينه قرابة قرنين من الزّمان؟ وأين موقع النبيّ
أو أيّ من أهل بيته مثل أعمامه وأخواله من هذا الحديث؟ لم لا نجد لهم ذكرا
في الإسناد؟ أليس في إنكار الواقدي و"أهل العلم" القدامى دليل على عدم
الأخذ به حديثا "منقطعا" ناهيك عن اعتماده حديثا "مرفوعا" عند بعض "أهل
العلم" عندنا؟
وأخيرا:
لم نتوسّل بهذا المقال، رغم ابتساره، مناقشة آراء
الأستاذ النجّار في حدّ ذاتها، بل مناقشة منهج في استقراء التّاريخ عموما
وقراءة كتب التّراث العربيّ خصوصا يدّعي أصحابه أنّهم استوعبوا ما فيها
قبل أن يتناولوها بـ"منهج علميّ حديث". فهل من مقتضيات هذا المنهج الضّرب
بالأمانة العلميّة عرض الحائط؟ وهل من متطلّباته ليّ عنق النّصوص والنّزول
دون مستوى من سطّر تلك الكتب وأوردوا بكلّ "أمانة" أشياء لا يتجرّأ على
التفوّه بها إلاّ القليل النّادر في عصرنا هذا؟ فرفقا بنا يا أستاذ نجّار،
فمن باب الأمانة التي تحمّلتها تجاه قرّائك ومتابعيك الإشارة إلى المصادر
بدقّة وعدم الانتقاء منها إلاّ بعد التّصريح بما فيها ممّا يخالف رؤيتك،
ومن باب الأخذ بيد القارئ غير المتخصّص للولوج به برفق في دروب الدّراسات
المتخصّصة والابتعاد به عن المسالك التي خطّها بعض من رام السّبل الممهّدة
بضروب من الأقوال المرسلة المفتقدة لأدلّة مباشرة أو حتّى قرائن، فعصرنا
هو عصر التخصّص الدّقيق لا عصر الحديث عن "كعكة محمّد" أو "عجّة ماركس"
على ما شاع مؤخّرا في صفوف بعض الذين نجلّهم حين يكونون خارج أروقة
"المطابخ الإيديولوجيّة". وعسى ألاّ يؤخذ ردّنا هذا على أنّه من قبيل
الصّيد في الماء العكر، فكلّ المياه عكرة هذه الأيّام!