محمد كريشان: انا ضد الاعلامي الذي يخرج من مؤسسة فيشهّر بها
يتمنى ان يكون الرئيس القادم لتونس مدنيا لا من المؤسسة الامنية او العسكرية
التقته: فاطمة عطفة
2011-06-23
إعلامي متميز، هادئ وعميق يحمل في قلبه تونس وفلسطين
معا، وهو من الشباب العربي الذي يعتبر فلسطين قضيته الأولى، يعرفه قراء
'القدس العربي' من خلال مقالاته ويظهر على الشاشة بإطلالة رصينة وأفق واسع
في إدارة الحوار ولغة ودية مقنعة تزيل الحاجز بينه وبين المشاهدين.
إنه الإعلامي محمد كريشان الذي أمتع مشاهدي قناة الجزيرة في لقاءاته مع
الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل، وهو يروي 'تجربة حياة'، أغنى ما عرضته
الفضائيات العربية من برامج في تاريخنا المعاصر. والأستاذ كريشان، سواء في
حواراته أو تقديمه للأخبار، يمتاز بطريقته الودية الهادئة في طرح الفكرة
وحسن التواصل مع الضيف والجمهور، بعيدا عن التعالي والمقاطعة والانفعال،
مما يضفي على حواره متعة وفائدة.
كنت أعمل على إنجاز هذا اللقاء مع
أوائل الإعلاميين في هذا البرنامج، لكن الظروف لم تساعدنا إلا في منتدى
الإعلام العربي بدبي، ويطيب لي أن أتقدم اليه بخالص الشكر على هذا الحوار
الذي خصنا به، رغم وقته الضيق وانشغاله في أعمال المنتدى.
* البداية
من تونس والشرارة الأولى للثورة انطلقت مع استشهاد البوعزيزي، وكونك
تونسيا وإعلاميا هل ترى أن الشعلة التي أضاءها جسد الشهيد توهجت بكل
الفضائيات العربية حاملة رسالته في طلب الحرية؟
* 'دائما الثورات لها
منطقها الخاص وسياقاتها الخاصة، الغريب أنني سمعت أنه حتى قبل البوعزيزي
هناك من أحرق نفسه في تونس، لكن لم يكن هو الشرارة التي اندلعت على أثرها
الثورة. أعتقد أن هناك نوعا من المصادفات التي جعلت ما قام به البوعزيزي
الشرارة، كانت بصراحة الأوضاع في تونس قد بلغت درجة من السوء ومن انسداد
الآفاق، ومن الاستياء الشديد من الاستبداد والفساد، إلى درجة أن الشرارة
التي ولع فيها البوعزيزي نفسه كانت الشعلة لكل البلد. لكن أعتقد أن هذا في
المسحة الدرامية للثورة جيد أن نتذكره، وجيد أن نترحم على هذا الرجل الذي
سيظل دلالة رمزية لكل ما حدث. لكن أعتقد أن علينا الآن أن نواجه مرحلة ما
بعد الثورة، وهي قد تكون أصعب بكثير من الثورة'.
* قبل البوعزيزي كان
للشاعر الشابي الدور الأول في هذه الثورات، أنت شاب هل كنت تتوقع أن يأتي
هذا اليوم لينضم شعر الشابي للثورة الحديثة ويصبح أنشودة للأجيال بشعره
وكلماته؟
* 'هو أروع ما فيه: 'إذا الشعب يوما أراد الحياة...'، أما
التونسيون فكانوا يقولونها للحديث عن الفلسطينيين، للحديث عن العراقيين،
للحديث عن الكثير من المقهورين وكثير من نضالات العالم، لكن أن يعود
التونسيون ليقولوها عن أنفسهم فكانت رائعة، لأن الشابي قال هذه الجملة
بصدق وظل هذا الشعر حيا، وقال أيضا: 'ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبدا
الدهر بين الحفر'. كل هذه القصيدة الرائعة واسمها (إرادة الحياة) أن يتحدث
التونسيون عن الشابي في موضوع تونسي، وكان يرددها التونسيون زمن الاستعمار
الفرنسي للتخلص من نير الاستعمار، الآن يرددونها للتخلص من نير الفساد
والاستبداد، وأعتقد أن استعمالها ربما ضد الاستبداد والفساد أروع من
استعمالها ضد الاستعمار، لأن استعمار التونسي للتونسي أقسى وأمر من
استعمار الفرنسي السابق'.
* أنت كمثقف عربي، نظام الاستبداد في البلاد
العربية متشابه والظروف متشابهة، وكان للسيدة الأولى دور سواء في هذا
الفساد أو في ظاهرة الثراء التي عملوا عليها، ما رأيك بالمرأة الصالحة أو
العكس وتأثيرها، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، على زوجها الحاكم، ألا تتحمل
قسطا من المسؤولية؟
* 'عندما تكون البيئة فاسدة يفسد النساء والرجال
على حد سواء، ولا أريد أن أشيطن المرأة فتبدو وكأنها هي سبب البلاء في
كثير من فساد القصور الرئاسية والملكية في الدول العربية، عندما كان
الرئيس جمال عبد الناصر رحمة الله عليه - حريصا على نظافة اليد واستقامة
مؤسسة الرئاسة بغض النظر عن تقيمينا للأداء السياسي للرئيس جمال، كانت
زوجته سيدة فاضلة تقوم بدورها الاجتماعي في ذلك الوقت، من دون أن تدعى
سيدة أولى، ولا كانت تدشن مشاريع ولا كانت تلقي خطبا، وظلت محترمة في عهده
وبعد عهده. عندما تكون البيئة فاسدة والرئيس مستعدا للفساد ومنتيا
بالاستبداد، يكون فاسدا هو وزوجته وبطانته وكل المحيطين به من رجال ونساء،
هنا تصبح الزوجة تدشن وتفتي، وفي الحالة التونسية كان البعض يروج لها
كخليفة محتملة لزوجها! وهي كانت ستكون كارثة الكوارث في تونس. المهم أن أي
بيئة فاسدة ستفرز رموزها نساء ورجالا، ولا أريد أن أظهر المرأة كأنها هي
سبب المصائب والبلاء. لو كان هناك مؤسسات وقانون واستقامة أخلاقية وسياسية
لما فسد لا الرجال ولا النساء'.
* برأيك عندما يأتي رئيس الدولة من
السلطة الأمنية أو من الجيش، لماذا يكون دكتاتورا في الغالب؟ وهل في تونس
سيأتي الرئيس بعد الثورة من خلفية عسكرية أو لا يمكن ذلك؟
* 'ربما
علينا ألا نخلط بين المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية، المؤسسة العسكرية
ربما أكثر انضباطا وحرصا على مصلحة الوطن. المؤسسة الأمنية لها نزوع أكثر
نحو الاستبداد ونحو تأطير المجتمع تأطيرا أمنيا بوليسيا. مشكلة بن علي أنه
جمع بين الأمرين، هو ابن المخابرات العسكرية وابن المؤسسة الأمنية
المدنية، فجمع كل السيئات المرتبطة بالملف الأمني بشكله العام، ولكن هذا
لا يمنع أنه قد يكون شخصا منحدرا من المؤسسة الأمنية أو من المؤسسة
العسكرية، وتكون لديه من الاستقامة الأخلاقية والاستقامة السياسية ما
يجعله رجلا مؤهلا لأن يكون في منصب سياسي محترم. ولكن أعتقد أنه من الأسلم
أن نبتعد عن المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية، ويكون الرئيس ابن الشعب
بمؤسساته المدنية، يعني يكون منحدرا من حزب أو من جامعة أو من نقابة،
فتكون هذه الخلفية المدنية بعيدة عن دهاليز النظر إلى الناس وملفاتهم
الأمنية وغرف نومهم وكل هذه التفاصيل التي تنحدر بالحياة السياسية إلى
مستوى غير أخلاقي، فأنا مع أن يكون الرئيس في تونس وفي غيرها.. بعيدا عن
المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية، فهذا أسلم بكثير'.
* طبعا جاءت
الثورة في تونس، ثم مصر التي تحاسب الرئيس وأولاده ورجالاته، هل تتوقع من
تونس أن تأخذ نفس الخطوة في محاكمة بن علي وعائلته.. أو هناك ما يمنع؟
*
'أتمنى ذلك، لكن العوائق أن هذا الرجل لجأ إلى المملكة العربية السعودية،
والمملكة تاريخيا لم تسلم أحدا التجأ إليها، لاعتبارات هم يصفونها من باب
الشهامة والروح البدوية وغيرها ولهم في ذلك تقاليد، ولو أني أعتقد أن
الشهامة لا تستقيم مع أي كان! هناك مجرمون وسراقون وأياديهم ملوثة بدماء
شعبهم، لا بد للعدالة البشرية قبل الإلهية أن تأخذ مجراها، لا أريد أن
أفتي للسعوديين ماذا عليهم أن يفعلوا، ولكن أنا متأكد من شيء واحد بأن
التونسيين لن يغفروا لا للسعودية ولا لغيرها ممن لجأ إليها أركان النظام
السابق، لأن لجوءهم ليس لجوءا سياسيا، هم لم يفروا من تونس لأنهم اتخذوا
قرارا سياسيا خطأ، لا.. هم هربوا لأنهم نهبوا ونهبوا على طريقة قطاع الطرق
وعصابات المافيا، بأحط الأساليب الأخلاقية بالتعامل مع النهب والسرقة.
فأنا لا أعتقد أنه يشرف السعودية، أو غير السعودية، أن يكون في حماها قطاع
طرق ولصوص. وأعتقد أنه طالما ظل الرجل هو وزوجته وبطانته وأصهاره، بعيدين
عن البلد، وبعيدين عن طائلة القانون، فستظل غصة في حلق التونسيين. ربما
هذا انتقام رباني أن يظلوا منبوذين وهاربين ولا أحد يمكن أن يقول لهم
مرحبا، لو اعترضهم في أحد الأسواق'.
* هل برأيك قيام الثورة مباشرة في ليبيا، وهي المجاورة لتونس، كان لها تأثير سلبي على تسريع عملية الإصلاح في تونس؟
*
'أعتقد أن انطلاق الثورة في ليبيا بعد الثورة التونسية كان لها الفضل
لليبيين وللتونسيين، لليبيين لمواجهة نظام استبد بهم لأكثر من أربعين
عاما، وللتونسيين لأنه بصراحة لولا انشغال القذافي بما يجري في بلده، لكان
انشغل فينا نحن، ولكان لعب في تونس بشكل سيئ جدا. ومع ذلك يبدو كأنه يلعب،
لا أدري إلى أي درجة، لكن اشتعال النيران في بيته جعلته يهتم ببيته قبل
الجيران'.
* بالنسبة إلى ما يجري في سورية وكعربي وإعلامي، كيف ترى هذه الثورة واتجاهها؟ هل ستستمر.. او سيزداد القمع للشعب؟
*
'كوجهة نظر شخصية وبعيدا عن أي ادعاء بأني قادر على توجيه النصح أو
الإرشاد لأي كان، لكن أطرح وجهة نظري وهذا من حقي: أعتقد أن الشعب السوري
ليس أقل تأهلا لحياة ديمقراطية مدنية، فيها الحريات، وفيها احترام قانون،
فيها دولة مؤسسات، فيها انتخابات حرة. الشعب السوري شعب يستحق هذا وزيادة،
وأعتقد أن نظام الحكم تأخر كثيرا في أن يلتقط اللحظة التاريخية ويشرع في
عملية إصلاح حقيقية بعيدا عن أي اهتزازات أمنية. الكل يقدر أهمية سورية
وموقعها وضرورة حماية السلم الاجتماعي والسلم المدني فيها. ولكن أعتقد
عندما تتأخر وتسوف وتعتقد بأن شعبك لم ينضج بما يكفي حتى تشرع في إصلاحات
حقيقية وفي حياة مدنية تليق به، إذا تأخرت أكثر من اللازم الشعب لن يصبر
أكثر من اللازم. ومع ذلك أعتقد أن الوقت قد لا يكون متأخرا بالكامل، وما
زالت هناك إمكانية.. هذا إذا ما نشر الحديث قريبا، أعتقد أنه ما زالت
إمكانية للإصلاح رغم الدماء التي سالت، ورغم التعسف الأمني الذي صار وما
زال يحدث مع الناس. أي شعب يتعرض لإطلاق نار من حاكمه! لا تستطيع لاحقا أن
تتحكم في ردود فعله، لأن أقسى شيء أن يطلق حاكم النار على شعبه، أنت تقتل
ناسا مدنيين، حتى وإن تذرعت بأن فيهم مندسين، إذا قتلت عشرة مندسين وقتلت
عشرة أبرياء، فأنت عليك أن تحاسب، وأعتقد أن الشعب والتاريخ لن يرحمك'.
*
لنأتِ إلى دور الإعلام المرافق لهذه الثورات، أنت كإعلامي تعمل في الجزيرة
التي كان لها دور فعلا متميز لنقل ومصداقية الخبر من تونس ومصر، ولكن نقل
الخبر من سورية وغيرها كان مختلفا، هل فعلا هناك ضغوط على الإعلام في
الجزيرة تميز ثورة عن أخرى؟ أليسوا كلهم ثوارا ضد الظلم والطغيان؟
*
'إذا كان بعض المشاهدين وبعض الناس يعتقدون بأن الجزيرة تعاملت مع الثورات
بشكل مختلف، أنا لا أستطيع أن ألومهم، والمشاهد حر في رأيه. طالما أن
التلفزيون يبث على الهواء، فالناس تشكل آراءها كما يحلو لها من دون وصاية.
وأعتقد أن من يرى أن الجزيرة تعاونت مع الثورات بشكل مختلف، أنا قد ألتمس
لهم عذرا، ولا أستطيع أن ألوم. فيما يتعلق بسورية، المشكلة النظام يتهمنا
بالتهويل والتضخيم والتحريض والفبركة، وآخرون يتهموننا بالتقصير وبمداراة
سورية وبمحاولة التماس الأعذار ومحاولة التخريب عليهم، ونحن واقعون بين
الرأيين. أعتقد أن تغطية الجزيرة للشأن السوري تسير إجمالا وفق ما هو
مطلوب إعلاميا، لكن ربما بعض الناس الذين يقارنون هذه التغطية بتغطية تونس
أو بتغطية مصر يعتبروننا مقصرين، وأنا أيضا لا أستطيع أن ألومهم، لأن في
النهاية عندما تبث قناة إخبارية أخبارها وبرامجها تصبح ملكا للناس، والناس
من حقهم أن يحكموا لك او عليك. وعليك أن تتمتعي بالروح الرياضة وأن تتقبلي
ملاحظاتهم، وأنا لا أعتقد أن ملاحظات الناس جاءت من فراغ، ربما لديهم
أعذارهم، ولا أريد أن أدافع عن الجزيرة في المطلق'.
* أستاذ محمد، هناك
استقالات قبل الأحداث وبعد الأحداث في الجزيرة وغيرها، هل برأيك انتقال
الشخص من عمله، بالنسبة لمحطة إعلامية لها قيمة كبيرة، يؤثر على المحطة أو
على الشخص نفسه لأن المؤسسة قائمة وتأثير العمل الفردي غير مربك؟
*
'أعتقد أن مؤسسة العمل التلفزيوني تقوى بعناصرها ورموزها ووجوهها، والوجوه
تقوى بالمؤسسة وتكبر بها، فالعلاقة جدلية أنا أفيد المحطة والمحطة تفيدني،
لكن إذا قرر زميل ما أو شخص ما أن يترك فهذا قراره لأن الجزيرة في النهاية
مؤسسة إعلامية وليست سجنا، ومن حق أي إنسان أن تكون خياراته كما يريد، ومن
حق المؤسسة أن تكون خياراتها كما تريد. لكن أعتقد أن خروج أي زميل من أي
مؤسسة بقدر ما هو خيار شخصي، ولكل ظروفه ولكل حيثياته، أنا ضد أن يلجأ أي
إعلامي إلى انتقاد أو التشهير بالمؤسسة التي كان يعمل بها. أعتقد هذا ليس
أخلاقيا، وإن كان لشخص رأي فبإمكانه أن يقوله داخل المؤسسة ويقوله ربما
بشكل أكثر حدة وقوة مما يقوله في الخارج. وإذا ما صادف أن غادر أحدنا
مؤسسته الإعلامية فيفترض أن يحفظ للود وللعشرة مكانتهما'.
* فعلا هل يوجد في الجزيرة غرف سوداء كما قيل في قناة الجزيرة؟
*'والله
لا غرف سوداء، ولا غرف برتقالية، نحن نقوم بعملنا والذين تحدثوا عن الغرف
السوداء هم كانوا داخل المؤسسة، وإن كانت هناك غرف سوداء كانوا هم أولى
بالاطلاع عليها. أنا لم أرَ غرفا سوداء، وأنا أزعم أني أقدم منهم في
المحطة وما زلت فيها، قبل انطلاقها وإلى يومنا هذا. لو رأيت شيئا مريبا
بالطريقة البوليسية التي يشيرون إليها وكأننا نعمل في عصابة، لكنت غادرت.
أنا لا أرضى أن أكون في مؤسسة بها غرف سوداء، أكيد بها سياسات، أكيد بها
حسابات، أكيد بها خيارات، أنا لا أقول بأن هذه المؤسسة جمعية خيرية، وكل
العاملين فيها سفراء للنوايا الحسنة. لكل مؤسسة خياراتها وأجندتها
واختياراتها، الايجابي منها والسلبي، لكن الحديث عن أشياء ملتوية وغير
أخلاقية في العمل وفبركة، أعتقد أن هذا غير صحيح وكلام فاض'.
* أستاذ
محمد كريشان أنت مثقف قبل أن تكون إعلاميا، الإعلامي عندما يكون مثقفا
يعني أنه يمتلك جوهرتين، جوهرة الثقافة والاطلاع، وجوهرة الإعلام والتواصل
مع المجتمعات، هل لديك مشروع أدبي أو غير أدبي؟ ومن ناحية أخرى، ألا ترى
أن بلدك بعد الثورة في حاجة لشباب مثلك؟
*'أولا شكرا لاعتباري من
المثقفين، أنا لا أزعم أني كذلك، أنا صحافي متابع للشأن السياسي، بأفضل
وسيلة ممكنة في حوزتي. في زحمة هذه الثورات وهذه الضغوطات من الصعب أن
تجعل المرء يفكر بطريقة استراتيجية في مشاريع جديدة خارج هذا السياق
الثوري الموجود الآن في البلاد العربية والذي يحتاج إلى متابعة ورصد. لكن
في ما يتعلق بتونس، أنا لا أستبعد في المطلق عودتي إلى تونس والمشاركة في
حياتها الإعلامية الجديدة، ولكن لحد الآن لم يتبلور شيء واضح في هذا
السياق يجعلني أحزم أمري وأعود إلى بلدي'.
* هناك إعلاميون كثر مختصون
في الحوار، ولكن حوار الشخصيات المهمة يستدعي من المحاور دراسة معمقة،
وأنت كنت متميزا بالنسبة برأيي وبما سمعت من آراء الآخرين في لقاءاتك مع
الأستاذ محمد حسنين هيكل، طبعا مثل الأستاذ هيكل يحتاج الى دراسة كبيرة
وشاملة قبل الحوار معه، كم كان يتطلب منك هذا العمل جهدا في الاطلاع
والاستعداد؟
* 'الحقيقة في الحوارات الأولى، وأتذكر حواري الأول مع
الأستاذ هيكل، كنت متوترا إلى أبعد الحدود وكنت أشعر بثقل المسؤولية،
وخاصة أن المحطة اختارتني لمحاورة هذا الهرم الصحافي الكبير، وبصراحة كان
استعدادي كبيرا جدا، إلى درجة ربما مبالغ فيها، لأن أحيانا كثيرة
الاستعداد والمبالغة فيه قد يعطي مفعولا عكسيا. لكن، الحمد لله، بمرور
السنوات وأستطيع أن أفخر بأنه أصبح بيني وبين الأستاذ هيكل مع الفارق في
القيمة وفي القدر وفي المكانة، أصبح هناك نوع من الود الشخصي الذي يجعلني
مرتاحا مع هذا الرجل العظيم. هذا مع مرور الأيام وكثرة المقابلات، لكن لا
أقول انني بطلت. الاستعداد لا بد أن يظل قائما، لأن الرجل ليس بسيطا،
وعليك أن تحسبي له ألف حساب. ولكن الحمد لله مع مرور الأيام، ومع هذا الود
الشخصي، أصبحت أكثر راحة في الاستعداد للحلقة بما يتلاءم مع الموضوع وبما
يجعلني قادرا على أن أكون جالسا مع رجل لا أقول بندية، ولكن بود يسمح
للمقابلة بأن تجري بشكل جميل وانسيابي'.
* كم يشعر الشخص الإعلامي
بنشوة عندما يلتقي شخصية عربية أو عالمية مهمة كهذه ؟ كم هو جميل أن نقابل
أشخاصا يتركون بصمة وأثرا مهما في التاريخ؟
* 'فعلا هذا شعور رائع،
والأروع منه أن تشعري بأنك أديت المهمة كما ينبغي، لأن في النهاية المذيع
واسطة بين هذا الجمهور العريض وبين هذه الشخصيات. إذا أنهيت هذه المقابلات
والجمهور يعتقد أنك طرحت الأسئلة الأساسية والجوهرية التي يريد هو أن
يطرحها، فعندما تنهين المقابلة يشعر بنوع من الارتياح لأنك طرحت هذه
الإشكالية واستطعت أن تسحبي من هذا الشخص 'بين قوسين' أبرز ما لديه، عندئذ
يكون لديك شعور بالارتياح كبير لأنك مثلت هؤلاء الملايين من الناس
المتابعين خير تمثيل. ولا شيء يرضيني أنا على الصعيد الشخصي سوى هذا
الإحساس بأني نقلت أسئلة الناس وهواجس الناس بشكل واضح وغير مدع لهذه
الشخصية أو تلك، سواء بالمعنى التحليلي والاستشرافي كالأستاذ هيكل أو
بالمعنى السياسي عندما نحاور شخصيات سياسية، رؤساء دول، رؤساء حكومات يجب
أن تكوني أنت صوت الرأي العام المحلي والعربي الذي ينقل هذه الأسئلة، إن
شاء الله أن أكون وفقت في ذلك'.
* بالنسبة للجزيرة كمحطة، أن تسجل في
أرشيفها حوارا لهيكل، وأن يكون لها السبق الأفضل أنها تؤرشف لهذا التاريخ،
من هو المسؤول الأول ليخطط لمثل هذا البرنامج، أو هناك لجنة تعمل على
الأرشفة لشخصيات مهمة مثل هيكل وغيره؟ وهل هناك شخصية أخرى سوف تستضيفها
محطة الجزيرة، ويكون لها السبق فيه؟
* 'أولا الله يطول بعمر الأستاذ
هيكل، كانت الجزيرة لها السبق الاحتكاري، الآن الأستاذ هيكل ما شاء الله
يتنقل بين وسائل الإعلام، وهذا شيء جميل، لأنه عاد لإجراء مقابلة مع
الأهرام بعد 38 سنة، أو حتى إذا ما ذكر كان يذكر في السابق بالمعنى
السلبي، الرجل الآن يجري مقابلات مع الصحف ومع وسائل الإعلام المصرية،
وهذه إحدى ثمار الثورة في مصر، نحن حريصون على أن تبقى للأستاذ هيكل
مكانته لأنه بدأ حديثه معنا وسرده لمشواره 'تجربة حياة' وعليه أن يكمله
بإذن الله، ربنا يطوِّل في عمره ويعطيه الصحة، فهو ملتزم أنه يكمل لنا
'تجربة حياة'. هذه المادة ستخرج في (سيديات) ومجموعات تكون في متناول
الناس حتى تحتفظ بها للأجيال المقبلة. ما هي الشخصية التي ربما تكون في
المستقبل، الحقيقة ما عندي فكرة، الثورة دوشتنا ما فكرنا بأي شيء
للمستقبل'.
* لنعد إلى مهنة الإعلام.. وبعد هذه التجربة الغنية
والطويلة، وأنت ما زلت في شباب متجدد، كيف تنظر لهذه المهنة؟ ولو لم يكن
اختيارك الإعلام، ماهو العمل البديل الذي كنت تفضله؟
* 'منذ أن تخرجت
قبل ثلاثين عاما لم أعمل إلا بهذا المجال، وأحيانا أقول أيضا: لا أجيد
غيره، وهذا على افتراض أني أجيده. أنا عندما كنت سأدخل غمار التعليم
الجامعي كنت محتارا بين الصحافة التي أحبها وبين القانون. كنت أحب مهنة
المحاماة والوقوف والدفاع عن الناس، ربما كنت متأثرا بالأفلام المصرية،
المحامي يصول ويجول وهو يدافع عن المتهمين، لكن حسمها اختيار الإعلام،
وأنا مسرور في ذلك'.
* هل على الإعلامي كما الحقوقي كما المحامي أن
يكون قريبا من هموم المجتمع ليحقق نجاحا، سواء بالإعلام المرئي أو المقروء
أو المسموع؟ كما يقول الأستاذ هيكل الإعلامي الناجح أن يتواجد بين الناس؟
*
'إذا كان هناك نقطة مشتركة بين الصحافي والمحامي، الصحفي يجب أن يكون
محامي الناس، محامي الناس بأي معنى، طبعا الناس ليسوا متهمين، هو يكون
محاميهم في إيصال صوتهم إلى أوسع فئات ممكنة، وأن يدافع عن قضاياهم، لأن
الصحافي إذا كان له قدرة أن ينقل قضايا الناس ويجعلها في الواجهة، سواء
على أعمدة صحيفة أو على أمواج إذاعة أو على شاشات تلفزيون، فإنه يكون قد
نجح. كلما يكون الصحافي مرتبطا بهذا النبض، بنبض الناس وبهموم الناس هذا
يكون ناجحا، هذا ينطبق على الصحافي المحلي في كل دولة، كما ينطبق على
الإعلامي الذي يعمل في قناة تلفزيونية'.
* سنعود إلى الوضع العربي
اليوم وما يطرح في جو الثورات من مشاريع تحالفات، وأنت ابن المغرب العربي،
كيف ترى التحالف المطروح مع المغرب أو الأردن والخليج؟ وكيف تنظرون أنتم
كمثقفين وإعلاميين، هل هذه تكتلات يمكن أن تعيق عمل الجامعة العربية؟ وهل
يمكن أن يكون هناك يد خارجية تعمل عليها بالخفاء؟
* 'عندما خرج هذا
الإعلان تابعه الصحافيون وتابعناه بكثير من الاستغراب ونقاط الاستفهام.
تبدو المسألة غير راكبة، كما يقال في العامية الشعبية، حتى إن الأمر صار
محل تندر عند بعض الناس. أعتقد أن ما أعلن فيه قدر كبير من الارتجال، وفيه
قدر من الغموض. وعندما يكون الأمر مرتجلا وغامضا يفتح الباب واسعا
للتكهنات والتخمينات، ولا نستطيع أن نمنع أي شخص أن ينظر للأمر كما يحلو
له، سواء وضعه في سياق ترتيب أمريكي جديد، أو خوف معين من إيران، أو خوف
معين من الجماهير العربية والثورات المقبلة، قولي ما تشائين. لكن المسألة
لا تبدو مقنعة وأعتقد أنها لم تكن كذلك لأنها فعلا غير مقنعة'.
* هل يوجد مشروع أدبي عندك، وخاصة أنك من كتاب المقال في الصحف؟
*
'أنا لا أجيد لا الشعر ولا القصة، أكتب عامودا فيه رأي فقط في 'القدس
العربي' فعلا أنا مقصر على هذا الصعيد، لكن أحيانا أسجل بعض الملاحظات
لشخصيات أو لخلفيات في دفتر. وأحيانا أمني النفس بفعل ذلك، وتمر الأيام
ولا أفعل شيئا. أنا بصراحة حذر بهذه الأمور، لأني لا أريد أن أبدو مدعيا.
إذا كان يريد أحد أن يصدر كتابا فليصدره عن قناعة وبمادة دسمة تسمح له أن
يقول أصدرت كتابا. أنا أصدرت في السابق كتابين: واحد عن منظمة التحرير،
وكتاب عن بعض المقالات الإعلامية، وما بقي كانت كلها عن آراء ومقالات.
القول أني سأؤلف كتابا يجب أن أكون على قدر من المسؤولية ومن الكفاءة'.
*
الثمرة الحقيقة التي ظهرت بتأثير الثورات العربية هو الاتفاق ما بين حماس
وفتح، كيف ترى هذا الاتفاق؟ وهل يمكن أن نشهد هذا العام اعتراف الأمم
المتحدة بدولة فلسطينية؟
* 'أتمنى وأرجو ذلك، لأني مهموم بالشأن
الفلسطيني إلى درجة أني نصف فلسطيني ونصف تونسي، البعض يعتبرني فلسطينيا.
أنا أحببت هذا القضية منذ صغري وتابعتها صحافيا وسياسيا، أنا أعتبر فصل
الانقسام من أسوأ الفصول الفلسطينية، ومن أسخفها لأن في الحقيقة لا شيء
تختلف عليه فتح وحماس. سررت كثيرا باتفاق المصالحة، وسررت أيضا بكلام خالد
مشعل إن كل الخيارات مفتوحة، الخيار السلمي، والخيار التفاوضي، وخيار
المقاومة في كل أشكالها، كان رائعا في الحديث عن كل الخيارات. وأيضا أبو
مازن كان رائعا بقوله أن لا شيء يعلو في هذه المرحلة على المصالحة
الفلسطينية. أعتقد إذا تكاتفت فتح وحماس، وإذا لم يحصلوا على شيء في أيلول
(سبتمبر) المقبل، على الأقل ألا يفرطوا بأي بشيء أو بأهم شيء، وهي الوحدة
الوطنية، وإذا لم يفوزوا بشيء فلا يخسرون.. على الأقل لا يخسرون أنفسهم'.