يحار المرء هذه الأيام، وهو يتابع خطاب زعماء الكثير من الأحزاب
السياسية، في مشروع الدستور المرتقب. عدد كبير من هؤلاء «الزعماء» لم يكن
لهم أدنى مشكل مع الدستور الحالي، لذلك من الطبيعي أن ينظروا إلى
التعديلات الدستورية التي استمعوا إليها في حضرة المستشار الملكي محمد
المعتصم، نظرة إعجاب واستغراب. كيف أمكن الدولة أن تقدم هذه «التنازلات»
في الوثيقة الدستورية دفعة واحدة، فيما كانت المراجعات الدستورية في
المرحلة السابقة لا تتجاوز بعض التعديلات الشكلية التي لا تؤثر في جوهر
السلطة وفي جوهر النص؟
أغلب هؤلاء الزعماء لم يكونوا إلى عهد قريب يطالبون بالإصلاحات
الدستورية، ومن كان يتقمص خطاب الإصلاح الدستوري منهم، كان يفعل ذلك تحت
ضغط القواعد الحزبية، ويتوسل طرقاً شبه سرية لإيصال مذكرة حزبه إلى
الديوان الملكي. بعضهم كان يعلق موضوع الإصلاح الدستوري على عنصر التوافق
مع الملك، وينتظر تحقيق هذا التوافق في يوم من الأيام! لذلك من الطبيعي أن
يحظى مشروع الدستور المنتظر بموافقة الأحزاب التي تجتمع هذه الأيام داخل
الديوان الملكي. بل إنّ هذه الأحزاب عبّرت عن ابتهاجها بالدستور المنتظر،
قبل أن تطلع على مضامينه، واكتفت بالاستماع إلى بعض الفقرات الواردة فيه
التي رآها بعضهم تفوق توقعات الشعب المغربي!
علماً أنّ المادة الدستورية مادة معقدة وقابلة لتأويلات وقراءات عدّة،
وتغيير الكلمة الواحدة والحرف الواحد قد يغيّر المعنى جملة وتفصيلاً. ومع
ذلك، فإنّ الأغلبية الساحقة من زعماء الأحزاب لم يترددوا في التعبير عن
مواقف جد إيجابية من مسودة الدستور التي عرضت عليهم بعض فقراتها استناداً
إلى خطاب 9 آذار/ مارس.
منذ اليوم الأول، قلنا إنّ خطاب 9 آذار/ مارس وضع مرتكزات هامة لإصلاح
الدستور، لكنّها مرتكزات عامة وقابلة للالتفاف وللإفراغ من محتواها
الديموقراطي الكامل. ولذلك، لا نستطيع الحكم على الدستور الجديد انطلاقاً
من معطيات شفهية، والتقييم الحقيقي هو الذي يستند إلى قراءة دقيقة للنص.
زعماء بعض الأحزاب السياسية انتقلوا من الوظيفة الأصلية التي من
المفترض أن يقوموا بها، وهي وظيفة التتبع والتشاور، وما يلزم ذلك من قدرات
تفاوضية ومن قوة اقتراحية ومن مواقف جريئة في قضايا مفصلية تهم وثيقة
الدستور، إلى القيام بوظيفة الدعاية والتسويق لوثيقة لم يكلفوا أنفسهم
عناء المطالبة بالاطلاع عليها مكتوبة، وبإطلاع مؤسساتهم التقريرية على
فحواها.
مثل هؤلاء الزعماء سيكونون عبئاً كبيراً على السير العادي للمؤسسات، في
المرحلة المقبلة، إذا افترضنا أنّ بلادنا ستفوز بدستور ديموقراطي.
والمطلوب من عدد كبير منهم أن يستريحوا ويريحوا، لأنّهم نشأوا في أحضان
ثقافة سياسية خطيرة، أفقدتهم القدرة على المبادرة، واعتادوا أن يواكبوا
منطق الدولة في جميع المحطات.
الدولة نفسها تتعامل مع هذا النوع من الأحزاب بمنهجية تحقيرية، لأنّها
تدرك أنّ هؤلاء الزعماء ليسوا فاعلين أساسيين في موضوع الإصلاحات
الدستورية، منذ أن اختاروا الاصطفاف وراءها في هذه المرحلة. حتى ولو تقمص
بعض الزعماء خطاباً تصعيدياً من الناحية اللفظية، فإنّ ذلك لا يخرج عن
وظيفة الدعاية والتسويق التي تحبذها الدولة في هذه المرحلة، قصد ملء
الفضاء العام بالضجيج، وبشيء مختلف عن منطق «الشعب يريد» الذي يؤطر
دينامية الاحتجاجات الشعبية المتواصلة. إنّ التوافق المطلوب حول الدستور
المرتقب ينبغي أن يتجاوز التوافق بين الدولة والأحزاب، ذلك أنّ التوافق
الحقيقي في هذه المرحلة هو الذي يشمل الحساسيات الاجتماعية والسياسية التي
ضخت دماءً جديدة في معركة المطالبة بالإصلاحات منذ مسيرات 20 شباط/ فبراير.
عبد العلي حامي الدين
فسواء
اتفقنا أو اختلفنا مع حركة «20 فبراير»، علينا الاعتراف بأنّ خطاب 9 آذار/
مارس جاء استجابة لمسيراتها التي انطلقت في 54 إقليماً بعد أول نداء
للتظاهر من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ووصلت الاستجابة
لنداء التظاهر إلى أكثر من مائة نقطة في المغرب يوم 24 نيسان/ أبريل في
تفاعل واضح مع ما تعيشه المنطقة العربية من تحوّلات. و لا حاجة هنا إلى
التذكير بأنّ السياق السياسي العام الذي عاشته بلادنا منذ تعيين وزير أول
تكنوقراطي، بعد الانتخابات التشريعية في 2002، كان مطبوعاً بالعديد من
التراجعات المنهجية على المستويات السياسية والحقوقية والإعلامية. ولم تكن
الظرفية السياسية لما قبل الثورات العربية، وتفاعل الشباب المغربي معها،
يبشران بأنّ بلادنا ستنخرط في ورش الإصلاحات الدستورية، بل إنّ مخطط
المرحلة بالنسبة إلى المغرب كان هو تركيب معادلة التنمية بدون
الديموقراطية المستلهمة من النموذج التونسي، قبل سقوط نظام بن علي، وتعزيز
قبضة حزب الدولة على مفاصل الحياة السياسية في البلاد.
ولذلك، فإنّ رأي الشارع في مشروع الدستور المرتقب هو الرأي الأهم
والحاسم، ومنطق الأغلبية والأقلية في مثل هذه الظروف هو منطق ناقص، لأنّنا
اليوم نعيش ظاهرة جديدة وغير مسبوقة، تتمثل في نزول آلاف المواطنين إلى
الشارع من أجل المطالبة بالديموقراطية. اما من لم ينزلوا إلى الشارع، فلا
يعني أنّهم يريدون المحافظة على الوضع القائم، إذ لا ينسب لساكت قول.
لا يمكن اختزال الإصلاح المطلوب فقط في إصلاح أسمى قانون في البلد،
لكنّه يحتاج إلى قرارات سياسية شجاعة، لذلك فإنّ إصرار كتلة حرجة على
التظاهر في الشارع من أجل المطالبة بالإصلاح الحقيقي بعد التصويت على
الدستور، سيكون له ما يبرره بالتأكيد.
النقد الشديد الذي تحتاج إليه الأحزاب اليوم لا يهدم فكرة الحزب من
أساسها، ولا ينتصر لمنطق «أولاد عبد الواحد واحد»، فلا ديموقراطية بدون
أحزاب سياسية، والديموقراطية في النهاية هي دولة الأحزاب. لكن اذا لم
تستتبع مرحلة ما بعد دستور 2011 بتغيير عميق في الثقافة السياسية السائدة
داخل الأحزاب المغربية، فلن تنتج ممارسة سياسية جديدة تعيد الأمل والثقة
للمواطن في السياسة. هذا الانتقال في طبيعة الثقافة السياسية يلحّ علينا
اليوم بحدّة، ولا يمكن تحقيقه بدون رحيل عدد كبير من زعماء الأحزاب
السياسية، لأنّ طبيعة اللحظة السياسية الراهنة تتجاوز قدرات بعضهم
التحليلية، ولأنّ طبيعة المرحلة المقبلة تتطلب أحزاباً سياسية حقيقية
قادرة على ممارسة السلطة، وعلى تحمل أعبائها كاملة غير منقوصة، في نطاق
ملكية برلمانية يكون فيها الشعب هو مصدر السلطة، وتكون المسؤولية فيها
مقرونة بالمحاسبة، ويكون فيها للصوت الانتخابي معنى.