( إن ما نهمس به لبعضنا في مختلف المناسبات يشكل تاريخاً شفوياً موازياً
للتاريخ الرسمي أو المدوّن، لكن ما نقوله سراً يتحول إلى النقيض أمام
مكبرات الصوت والكاميرات، فالازدواجية أصبحت وبائية لفرط انتشارها ، وصرنا
بحاجة إلى معجم من طراز المعجم الذي اقترحه أورويل كي نفهم الدلالات
المضادة للمفردات! ).
تلك حقيقة تُتداوَل بتواطؤ مسكوت عنه، في حياتنا الثقافية المعاصرة ،
ويؤكدها خيري منصور في ( ليلة القبض على امرئ القيس ) بالعبارة المنصصة
آنفاً ، معرّجاً على خلفية تاريخية عن معاناة ( الشاعر العربي في مختلف
العصور من الدفاع عن حقه في أن يقول ما يريد لأنه مطالب على الدوام بِأن
يقول ما يراد منه). وتلك إشكالية تحيل إلى تساؤل منطقي: ( كيف استطاع
الشعر أن يؤاخي بين المقدّس والمدنّس، وبين الأعلى والأدنى على هذا النحو
الذي حوّله إلى حرفة بامتياز؟) .
وفي سياق مشابه عن ( انهياراتنا الثقافية ) يتساءل محمد بنيس:(...ولكن ما
معنى ألا نصمت؟ هل نقف عند أبواب بيوتنا غاضبين، رافعين أعلاماً سوداء؟ أم
نعلن عن برنامج استعجالي للإنقاذ ، كما لو كنا كتيبة عسكرية تقود حركة
انقلاب، أو قيادة عليا لتدبير أزمة الاقتصاد؟.. أسئلة لن تتركنا محايدين ،
ولن تتركنا في الوقت نفسه مطمئنين. وأبادر إلى القول بأن ما نحتاج إليه،
قبل كل شيء، هو الإقدام على قراءة ما يجرى قراءة معرفية، نقدية، لكلٍّ من
وضعية حرية التعبير، في مختلف أشكالها، ووضعية المؤسسات الثقافية، النابذة
لنا والمغدقة علينا ).
ويقرأ خيري منصور صورة ( سيزيف عربياً ) ، فيراه في العقد الأول من القرن
الحادي والعشرين يعود إلى عبد الرحمن الكواكبي ليقف على يمين كتابه 'طبائع
الاستبداد' ثم يبدأ الكتابة كما لو كان قلمه يمر على سطور ملغومة وملأى
بالفخاخ والكمائن.
وعلى مسافة غير بعيدة ، على مقربة من ( أنفلونزا الرقابة الذاتية ) يشبه
جوادُ البشيتي الكاتبَ العربيَّ ، ولاسيما في الصحافة ، بمن ( يزحف في
حقلٍ من الألغام، فهو، أوَّلاً، ينأى بقلمه عن “المحرَّمات”، أو كل قضية
يمكن أن يُنْظَر إلى تناولها على أنَّه تجاوز لـ“خطٍّ أحمر”. و”قائمة
محرَّمات” تشمل مواضيع وقضايا هي في منزلة “الأصول”، ويكفي أن يتقيَّد بها
الكاتب حتى لا يبقى لديه من أمر يستطيع الكتابة فيه إلاَّ ما يشبه “حبوب
منع الحمل”، و”كيفية الوقاية من مرض أنفلونزا الخنازير”، وكأنَّ خير موضوع
يمكن أن يستنفد فيه جهده ووقته ومداده هو ذاك الذي يملك “خواص الماء
الصالح للشرب”).
وعلى ضفةٍ أخرى بعيدةٍ موازيةٍ يتأمل عبده وازن إطلالة الشاعرة الأميركية
الأفريقية الجذور إليزابيت الكسندر في حفلة تنصيب باراك أوباما ، تقرأ
قصيدة كتبتها في المناسبة. فيثيره أنها ( لن تبدّل إطلالتُها هذه من
مواقفها السياسية، مع أنها لم تمتدح أوباما ولم تكل له الصفات الحميدة
والنعوت. وقد ذكّرته أن المواطنين « يحملون أسلافهم على ألسنتهم» وأن
دروبهم تتقاطع وأن الشوك يعروها. لكنّ قصيدتها لم تخل من الدعوة إلى الأمل
وإلى «السير نحو ما لا نستطيع رؤيته بعد»، وإلى النظر إلى «الجهة الأخرى»
والى «الأمام» حيث ما هو أفضل...). ثم يتساءل : تُرى لو ألقيت قصيدة هادئة
وجميلة كهذه في حفلة تنصيبٍ عربيّ هل كانت لتترك صدى طيباً مثل الصدى الذي
تركته قصيدة الشاعرة الأميركية؟ .. كان العربي نفسه سيستغرب أن تلقى في
حضرته قصيدة تخلو من الوزن والقافية ومن عبارات التبجيل والمديح
والثناء... وكذلك الحاضرون و «الجمهور» الذين لم يعتادوا أن يسمعوا مثل
هذه القصيدة في مثل هذه المناسبة. فالشعر هنا إما يكون مديحاً أو لا يكون.
والقصيدة إما تكون عصماء أو لا تكون. وليس أمضى من الوزن والقافية في
«تخليد» هذه اللحظة عربياً ).
ولا يخفي وازن أمنيته أن يتعلم الشعراء المعنيون ( من اليزابيت ألكسندر
كيف تُكتب قصائد «المناسبات» ، وبأي روح تُكتب وأي لغة، بل كيف يمكن أن
تكون قصيدة النثر قصيدة «مناسباتية» بعيداً من الخطابية الجوفاء والمنبرية
والمداهنة. بل كيف يمكن هذه القصيدة أن تكون سياسية بما تختزن في قلبها من
بعد إنساني وأمل وضوء ).
تلك صورةٌ مونتاجية من صور عديدة لتصفح مونتاجي لموقف واحد تتعدد صوره في
نماذجَ تستولد نماذجَ مستولدة نماذجَ ، مسكوت عنها بتواطؤ بارد ، في
حياتنا الثقافية المعاصرة ، لكنها لا تُقارَب بنفَس يائس ، على الأقل في
هذا السياق ، وإن بدا مفعول مؤرقاتها سيدَ الموقف ، على أكثر الأحوال
انبساطاً ، حيث ( كلامٌ لليل وآخرُ للنهار، ورأي للصديق وآخر للغرباء،
والمتوالية ماضية بتسارع كارثي نحو فترة قد نحنُّ فيها إلى الصمت لأنه
أجدى من كل هذه الثرثرة!) ، توازياً مع مسكوتٍ عنهُ بالتواطُؤ!.