( هنا في كينيا لن يسأل أحد كيف أتهجّى اسمي أو يلوكه و يبرطمه بلسان
– أو لكنة – غير مألوف. لقد انتسب اسمي وانتمى، ولذلك انتسبت أنا وانتميت،
مسحوباً إلى نسيج شبكة من العلاقات، والتحالفات، التي لم أكن قد فهمتها
بعد ).
هذه فقرة من كتاب
السيرة الذاتية لباراك أوباما كما نقلها كمال أبوديب ، في ( دبي الثقافية
، مايو 2009 )، وهي جزء من دهشة الإحساس بالانتماء والهوية في مطار كينيا
، إذ فوجئ بموظفة الطيران السوداء تقول له حين رأت اسمه وهي تطلب منه أن
يملأ الاستمارة:
هل بينك وبين الدكتور أوباما قرابة ما؟
آه نعم . لقد كان أبي.
وتعبر الموظفة عن أسفها لموت الأب ، وتقول إنه كان صديقاً حميماً
لوالدها وكان يزور بيتهم وهي صغيرة. ويدهش أوباما لمعرفتها اسمه، فيكتب في
سيرته الذاتية :( عرفَتْ اسمي. وأدركتُ أن ذلك لم يحدث قط من قبل ، لا في
هاواي ولا في إندونيسيا ولا في لوس آنجلس ولا في نيويورك ولا في شيكاغو.
للمرة الأولى في حياتي شعرت بالراحة وبصلابة الهوية التي يمنحها الاسم
للإنسان، وكيف يمكن أن يحمل الاسم تاريخاً بأكمله في ذاكرة أناس آخرين إلى
درجة أنهم قد يومئون برؤوسهم ويقولون قول العارفين:" أوه أجل ، أنت ابن
فلان الفلاني" ...).
ويعترف كمال أبوديب
أستاذ كرسي العربية في جامعة لندن ، بأن عينيه غرغرتَا وهو يقرأ كلمات
أوباما ببساطتها وانفجاريتها وإيجازها ، وينفي الغرابة عن ذلك بأنه قد عاش
شخصياً تلك اللحظة مرات ، ومازال يسمع اسمه ينطق بصور مبرطمة ويُطلب منه
أن يتهجاه مرة بعد مرة ، وحين ينطقه عربي – أو عربية خاصة – يعود له
إيقاعه المألوف ونغمته التي تكاد تجعل العين تغرغر بالدمع. وذلك هو شعور
المغتربين إلى حيث تُجهل لغاتهم ، حين يعودون إلى أوطانهم لأول مرة بعد
غياب طويل.
ولئن كان ذلك يحدث
حيث تُجهل لغة المغترب ، فإن سؤال الهوية يلاحق الإنسان في غير ما موقف
أو مكان أو زمان. في أحد المساجد بمدينة مالاكا ( 144 كم جنوب العاصمة
كوالالمبور) ، التقينا قبل سنوات نفراً من الشبان الماليزيين ، كانوا في
العقد الثاني من أعمارهم ، سيماهم تدل على أن لهم نسباً عربياً ، كانوا
يتحدثون العربية بلكنة ملاوية ، تجاذبنا معهم أطراف الحديث وبعض التساؤلات
الفضولية. كانت عربيتهم تنتمي إلى حضرموت ، وتنماز بنبرة تريمية ذات (
هَنْك ) - بتعبير الموسيقيين - مميّز ، ولعل ما شدني وهزني من الداخل أن
أولئك الفتية متمسكون بطرائق العبادة وأذكارها وأورادها كما انتقلت إليهم
على أيدي أجدادهم الأوائل الذين نشروا الإسلام وتعاليمه السمحة بالحكمة
والموعظة الحسنة والخلق القويم والصدق والأمانة ، فلم يريقوا دماً ولم
ينتهكوا عرضاً ولم يغتصبوا أرضاً ، ولا استباحوا حرمة ، ولا أقلقوا أمناً
، فكانوا رسل سلام دخل الناس على أيديهم في ذلك الأرخبيل في دين الله
أفواجاً.
سألهم أحد الزملاء: هل (
تحزبون ) في المسجد بين صلاتي المغرب والعشاء؟ أجاب أحدهم ، وكان أكثرهم
طلاقة في الحديث ، يتوقد في عينيه ذكاء ونباهة: ( نعم. نقرأ راتب الحداد
). أغمضت عينيّ ، حينئذ ، وساءلت نفسي: يا إلهي! ماذا أسمع ؟ أ في تريم
نحن أم في مالاكا؟.. نبرة صوته وهو يلفظ اسم الحدّاد ، تريمية قديمة خالصة
، لعل الجيل الجديد في تريم لا يحسن نبرها كما يحسنه ذلك الماليزي ذو
الأصول الحضرمية!. وبطبيعة الحال فذاك الشاب مطمئن إلى أننا لن نسأله عن
هوية صاحب الراتب السيد عبدالله بن علوي الحدّاد أو ماهية الراتب الذي
يقرؤونه. فثمة ألفة خاصة تحف بذاك اللقاء في مالاكا.
المسجد هو الآخر
وتصميمه علامة أخرى على الروح الإسلامية القائمة على الحوار الراقي بين
الثقافات ، فمئذنته - إن أغمضت عينيك وفتحتهما على عمارتها البسيطة
المهيبة في آنٍ معاً - لما داخلك شك في أنك في مدينة تريم تحديداً. حتى
رسم الحرف العربي الذي دوّن به تاريخ تجديد عمارة المسجد يحيل إلى مساجد
حضرموت. أما المنبر فطراز آخر ، تصميم إسلامي تعلوه تشكيلات معقوفة على
الطراز الصيني، ولا عجب فالصينيون في ذلك الحي ذوو وجود قديم.
أتذكر أولئك الشبان
الذين يقرؤون راتب الحداد الذي ما عاد يقرؤه اليوم كثير من الشبان في
مناطق حضرموت ، ويتمسك أولئك به ، وباللهجة، والنبرة، والهيئة، فأدرك
طرفاً من سؤال الهوية يتأكد إذ أرى في الطريق إلى حضرموت مئات القادمين من
الأرخبيل الهندي وقد وَخَطَ الشيب مفارقهم، يحثهم الحنين إلى الجذور ، حيث
الإحساس بالراحة وبصلابة الهوية التي يمنحها الاسم للإنسان.
سألت شيخاً من أولئك القادمين
لأول مرة ، وقد بدت عليه علامات البهجة برحلته إلى حضرموت ، عن اسمه. فقال
إنه من آل باجري. قالها بزهو وفرح طفولي وهو يهز رأسه بنشوة ، ثم أردف
بلهجة موغلة في نبرة خاصة جداًَ لا يدركها إلا مثله:( بغينا بنزور ،
ياخوي.. بغينا بنزور..بغينا البلاد ...).
مهما شرّق الإنسان أو
غرّب ، ومهما علا أو انخفض ، تظل النسوغ والجذور تجذبه بجاذبية سرية ،
ليبدأ رحلة الحنين ، وتلك صورة لتجليات الوجود التي تمنح الإنسان معنى
رمزياً خاصاً لحياته. وللمشهد صورٌ أخرى متعددة ، وحكايات كثيرة
جديرة بأن تروى ، تتزاحم تفاصيلها وإيقاعاتها المؤثرة مثلاً في مواقف
القادمين لأول مرة إلى وادي دوعن ، من أجيال نشأت في مكة أو جدة أو
الرياض، إذ ينسون العالم ونعيم العيش والسكن ، ولا يرون إلا مراتع صبا
أجدادهم و مرابعهم ، ويستعيدون ملامح الصورة الأولى ، كأنهم يستنطقون
المكان بصوفية خاصة ، تبدو أسرار بلاغتها في غرغرة العيون بالدمع ، كما
أحس كمال أبوديب