هاتان الجملتان مقتبستين من
فيلم بعنوان " كـُتّاب الحرية The Freedom Writers" دعاني الى مشاهدته
الصديق وضاح المفلس بقوله أن بعض المقاطع تبكيه كلما شاهده؛ الفيلم يتحدث
عن قصة حقيقية من كتاب "مذكرات كُّتاب الحرية" لــ "إرين غرويل" التي قامت
بدورها في الفيلم الممثلة الشهيرة "هيلاري سوانك"، دارت أحداث تلك القصة
داخل فصل دراسي عُرف بغرفة رقم 203 في " مدرسة ويلسون" إحدى المدارس
الأمريكية التي تقع في الجانب الفقير ويسكنه الأقليات الفقيرة أيضاً، لست
هنا أعمل دعاية للفيلم أو أتحدث عنه من ناحية نقدية، أنا فقط أتحدث عن
التجربة البديعة التي أحدثتها معلمة واحده جابهت كل السلطات التي تعلوها
بدءاً بمسئولي التعليم ونهاية بزملائها الذين أطلقوا عليها الاتهامات
بأنها لا تعيش الواقع وتعيش الأحلام السخيفة وبأن هناك ثمة نظام مطبق يجب
عليها أن تحترمه وتلتزم به في تأدية عملها ، ورغم أنها لم تكن تتوقع كل
تلك المواجهات إلا أنها أصرت على تغيير ذلك الواقع لتـُنشأ في آخر المطاف
مؤسسة حقيقة اسمتها بـ كُّتاب الحرية لإعادة إنجاح تلك التجربة وطبقت في
مدارس مختلفة في كافة أنحاء البلاد..
لماذا لم نجد نحن من يشبه
تلك المعلمة في أي مجال لدينا، ومتى سنجد نماذج وتجارب داخل أوطاننا جديرة
بالحديث فمقارنة بوضعنا الحالي وحالة الفوضى التي نعيشها وألفناها وأصبحت
جزءا من واقعنا فربما ذلك لا يختلف كثيرا عن حالة الفوضى والكبت والتعامل
العنصري والنظرة العدائية تجاه الآخر وانعدام الأمل بين كل أولئك الطلاب
من أفراد الفصل 203 الذين تشكلت ألوانهم وأشكالهم من جنسيات وعرقيات
مختلفة وكونوا حالة اندماج كسياسة تعليمية فرضت عليهم ولم يختاروها فلم
يجمع بينهم سوى العداء المتواصل، كانوا يشعرون كذلك بأنهم مهمشون ومحتقرون
مادياً وتعليميا وثقافيا ويتضح ذلك الفرق الثقافي عندما وجهت المعلمة
إليهم عدة أسئلة منها : ليرفع يده من يعرف ما هي (الهولوكاست ) طالب وحيد
ابيض البشرة وأشقر الشعر هو من رفع يده، بينما عندما سألت: ليرفع يده أي
أحد في هذا الصف تعرض لطلق ناري فرفعوا أيديهم أولئك السود واللاتينيين
جميعا..
كم كانت تلك الكلمات عظيمة "
أي صوت يخبرك بأنك لا تستطيع يجب أن يصمت" "وأي سبب أو عذر يقول بأن
الأشياء من حولنا لن تتغير يجب أن يختفي"؛ الكثير منا بات يلعن ماضيه
وحاضره ومستقبله، لم نسأل أنفسنا يوماً ؛ لماذا نلعن الماضي ونحن لسنا
جزءا ممن صنعه سواء أكان جميلا أو سيئا، مبهجا أو حزينا، ذلك هو ماضينا
المفروض علينا والمفروغ منه، لم يختر أحدا ما بلده أو مدينته أو عائلته أو
مرؤوسيه ..الخ، ذلك هو ماضي يجب تجاوزه والانطلاق الى الحاضر والمستقبل
فهذا هو ما نستطيع تغييره؛ أن نخلط فيه العمل بالإبداع، أن نسمو فيه على
كل تلك الأرواح البائسة واليائسة التي خلفت لنا قنوط دائم وتشاؤم مستمر
لواقع لم يساهموا في تغييره ، تلك المعلمة بتجربتها ساهمت في تغيير فكر
وحاضر ومستقبل لعدد من الطلاب الذين بدورهم سيكون لهم الأثر الكبير على
عائلاتهم، واقعهم، مستقبلهم، جيلهم بأكمله، لماذا نحن نصر على لعن أنفسنا
طوال الليل والنهار كأفراد وصحفيين وكتاب ومثقفين ورسام كاريكاتير ..الخ،
مشاكلنا كلها حصرناها في السياسة، لا نريد الخوض في السياسة تباً لها، هي
ليست بابا للتغيير على كل حال حتى نعلق عليها آمالنا أو سخطنا ونبرر بها
فشلنا في إحداث التغيير الحضاري المنشود داخل مجتمع معين؛ فدخولها
–السياسة- يعتمد على الكذب والدجل والمصالح الشخصية والصعود على الأكتاف،
يجب أن يكون التغيير ثقافيا، إعلاميا، تنويريا، يخلق فكر متكامل لجيل حاضر
ومستقبل، جيل ينبغي علينا أن نساعده على تجاوز حمّى الماضي وتبعات تلك
الحمى من أمراض مخيفه تهدد سلامة المجتمع وترابطه وأمنه واستقراره النفسي
..
نعم نحن نختلف، نحن نقاتل كي
نعيش وكي نجد وقت للقراءة والمطالعة التي أصبحت من الرفاهية ونحن ونحن ،
ولكن تلك المعلمة أخلصت لضميرها ،لإنسانيتها، لوطنها، لعملها، عملت في
وظيفتين إضافيتين كي تستطيع توفير أدوات التغيير التي كانت عبارة عن تطوير
الفكر والثقافة لأولئك الطلبة وكي تصرف على وظيفتها الأولى كما انتقدها
زوجها ، وأولئك الطلبة كانوا كذلك يخشون على أنفسهم من القتل كل يوم؛
تقول إحداهن مخاطبة المعلمة التي يدعونها بالسيدة "جي" عندما بدأت أولى
خطواتها في التنوير: " لستِ تعرفين الألم الذي نحسه، لست تعرفين ما علينا
فعله، لستِ تكنين الاحترام لطريقة عيشنا ، تقفين أمامنا، تعلمينا هذا
الهراء ثم نعود إلى هناك من جديد، ما الذي تفعلينه ليحدث فرقا في حياتي
؟"، ويقول آخر: سيدتي سيحالفني الحظ لو عشت حتى ربيعي الـ18، إننا في حرب
"، وآخر كذلك يقول: بعمر الـ16، رأيت جثثاً أكثر من الحانوتي، كلما خرجت
من بيتي واجهت التعرض للقتل"
كانوا ينظرون إلى العالم
الخارجي كمجرد جثة أخرى على زاوية الشارع ، كانوا يتحركون داخل أروقة
عصابات وطرق تمتلئ بقطاعها ولكنهم رغم ذلك تغيّروا، فُرض عليهم التغيير
ولكن بأسلوب بديع فهمهم واحتواهم وتعامل معهم على أساس ليس فيه جبروت أو
تعالي على الإطلاق، ولّدت الإرادة لديهم للتغير لأنهم شعروا آن هناك من
يهتم بهم هناك من يعاملهم على إنهم بشر لهم كامل الحقوق وعليهم كافة
المسئوليات وبالتالي اجبروا تلك الأسباب التي تدعوهم الى العيش كما هم،
وتلك الأسباب التي تخبرهم بان التغيير مستحيل؛ اجبروا كل ذلك على
الاختفاء، يظهر أثر ذلك التغيير عندما تقول إحدى الطالبات بعد ذلك: لا احد
ينصت الى المراهقين ، يظنون انك سعيدا لمجرد انك صغيرا، هم لا يرون الحروب
التي نخوضها يوميا ويوما ما ستنتهي حربي ولن أموت، لن اسمح لأحد
باستغلالي، أنا قوية " ويقول طالب آخر في مذكراته "ارتدي ملابس قديمه،
أحذية قديمة، دون حلاقة شعري، ظننت أني سأتعرض للسخرية، بدلا من ذلك القي
التحية من صديقين كانا معي في صف الانكليزية للسنة الماضية وقد آلمني ذلك
سيدة "غرويل" معلمة الانكليزية المجنونة بالسنة الماضية، هي الشخص الوحيد
الذي جعلني أتفاءل ، تقدمت الى الغرفة وشعرت وكأن جميع مشاكلي في الحياة
لا تهم ، أنا في بيتي"..
نحن من يجب أن يؤمن بأن لديه
الكثير من عناصر النجاح؛ فلنصنع شيئا ولنحقق انجازا، لنترك كل ذلك السخط
ولنحذف كل تلك الأمور التي تجعلنا ندور في فلكها تائهين، لنتجنب الإثارة
وإطلاق الفضائح والتباري في توجيه اللوم على هذا وذاك، لماذا لا نشعل
الأضواء ثم نتركها تنير الطريق..
عندما قال أحد الطلاب
مخاطباً "ميب غيز" وهي السيدة التي ساعدت في حماية "أن فرانك" في
المذكرات التي قرأها الطلاب وساعدت في تغييرهم وجمعوا لها المال بجهودهم
الذاتية بحفله أسموها "مذاق التغييرtaste for change"، كي تحضر الى
مدرستهم من أمستردام لتحادثهم ، كانوا يحلمون بذلك فقط كي يخبروها كم
أحبوها لأنها ساهمت في تغييرهم رغم أنهم لم يعرفوها يوما ؛ قال لها: "أنا
لم يكن لدي بطل من قبل ، ولكنك بطلتي" ، أجابته قائلة : "كلا لست بطلة،
كلا ، فعلت ما وجب أن أفعله لأنه كان صواباً ،هذا كل شيء، لعلمكم ، جميعنا
أناس عاديون، لكن حتى مُساعِدة عادية، أو ربة بيت،أو مراهقة، تستطيع
بطريقتها الخاصة أن تُشعل ضوءاً بسيطاً في غرفة مظلمة "
لا أدري بالفعل لماذا تتصارع
أجيالنا، لماذا نزرع الكراهية والعنصرية، لماذا ننجر خلف الفتن الدينية،
لماذا لا نقرأ عن تجارب الآخرين ، لماذا نقاتل أنفسنا لنبقيها داخل تلك
الصراعات المفروضة علينا ونستغل بها عقولنا ونعلق عليها أسباب فشلنا في
الحياة والمستقبل، كل ذلك يُعبّر فقط عن ضعفنا وخنوعنا ، يجب أن نعرف
بأننا نستطيع كسر تلك القيود والتحرر من تبعات أولئك المغفلين الذين رسموا
لنا دوائر لا معنى لها ندور فيها ضائعين ؛ إسلوب الحرب والتناطع والتنابز
وإطلاق السباب والوعيد هو أسلوب الجبناء، الضعفاء، بينما أسلوب العمل
والحب هو أسلوب العظماء، أنا وأنت ونحن نستطيع أن نكون عظماء وأن نغير
جزءاً من ذلك الواقع، وتلك تجارب حياتية مأخوذة من الواقع لا من الخيال
كان أساسها تطوير البنية الثقافية وتنوير الوعي والفكر داخل تلك العقول
فلننظر كيف خلقت قيم التسامح والحب والإخاء والتضحية وحب التغيير، فلماذا
نتصارع إذا، دعونا نحب اختلافاتنا، نحب بعضنا، دعونا نبوح بمشاكلنا
وسنكتشف حينها كم تتشابه معاناتن