"معاً
لإعدام سهير الأتاسي" هذا ليس عنواناً لفيلم، أو نكتة سمجة، إنّها صفحة
أنشئت قبل مدّة على الفيس بوك من أجل التحريض على قتل الناشطة السياسيّة
السوريّة سهير الأتاسي. لحسن الحظّ لم تُنفّذ هذه الدعوة حتّى الآن، وحسب
ما هو متداول فإنّ سهير الأتاسي، أسوة بناشطات وناشطين آخرين، متوارية عن
الأنظار. لكّن القتل حدث فعلاً، ولأوّل مرّة منذ بدء التظاهرات السلميّة
في سوريا، فقد قُتلت ثلاث نساء في مدينة بانياس بذريعة استخدامهنّ كدروع
بشريّة من قبل المناوئين للحكم. ورغم أنّ الخبر لا يخرج عن سياق أعمال
القتل التي طالت المتظاهرين السلميّين إلا أنّه يشكّل سابقة فيما يخصّ
استخدام أقصى درجات العنف ضدّ النساء، وربّما يكون إشارة تحذيريّة للنساء
بأنّهن لم يعدن خارج دائرة القتل، وأنّ "فترة السماح" قد انقضت فأصبحن
مساويات للرجال في تلقّي الرصاص الحيّ.
القتل هذه المرّة هو المفاجئ فقط، ودون ذلك خبرت الناشطات السوريّات،
قبل الأحداث الحاليّة وأثناءها، ما عرفه الناشطون من ملاحقة واعتقال
وتعذيب ومختلف أشكال التنكيل كالمنع من السفر مثلاً. وقد غيّبت أخبار
الاعتقال اليوميّة أخباراً سابقة، فالمعتقلة تهامة معروف مثلاً كانت قد
أعلنت الإضراب عن الطعام قبل مدّة من بدء التظاهرات، وأُعلن عن حملات
للتضامن معها، ولكن طواها النسيان والدماء التي سالت وما تزال. وإذا عدنا
إلى ثمانينيّات القرن الماضي بوسعنا إحصاء عدد كبير من النساء اللواتي
اعتقلن لسنوات طويلة على خلفيّة نشاطهنّ السياسيّ، وقد تعدّدت انتماءاتهنّ
السياسيّة وإن تركّز زخم تلك التجربة لدى المعتقلات اليساريّات اللواتي
ساهمن بفعاليّة، بعد الإفراج عنهنّ، في فضح عوالم المعتقلات كما فعلت
الناشطة حسيبة عبد الرحمن في روايتها "الشرنقة"؛ حسيبة عبد الرحمن انضمّت
مجدّداً إلى قائمة مَن اعتُقلوا في الأيّام الأخيرة.
تاريخيّاً بدأت مشاركة المرأة السوريّة في النشاط العامّ منذ مطلع
القرن الماضي، ومع ضعف التوثيق الذي طبع تلك المرحلة إلا أنّ ما وصلنا
ينبئ بمساهمة فعّالة لنساء عديدات، وبوسعنا أن نستشفّ ما يفوق كونها حالات
فرديّة من خلال مظاهرات النساء التي انطلقت في أكثر من مدينة سوريّة أثناء
الاحتلال الفرنسيّ. استمرّ نشاط المرأة السوريّة بعد الاستقلال، وإن لم
يدفع بأيّة امرأة إلى الواجهة السياسيّة، وكان للأحزاب العلمانيّة أو
القوميّة النسبة الأكبر من الحضور النسائيّ في قواعدها، مع بقاء هذه
النسبة دون المأمول لأسباب اجتماعيّة معروفة. أمّا بعد انتهاء الحقبة
الديمقراطيّة والدخول في مرحلة حكم الحزب الواحد فقد اتخذ النشاط السياسيّ
المعارض عموماً صفة السرّيّة، الأمر الذي عنى تقلّص الفضاء العامّ واقتصار
الحراك على بعض النخب، بالإضافة إلى التعرّض الدائم للمخاطر. رغم ذلك
سجّلت النساء حضوراً لافتاً في تجربة "النضال السرّيّ"، ولم تثنِ مخاطر
الملاحقة والاعتقال الكثير من الشابّات عن الانخراط في العمل السياسيّ،
وعلينا أن نأخذ بالاعتبار صعوبة التخفّي بالنسبة إليهنّ مقارنة بنظرائهن
الشباب، دون أن نهمل المعوقات العائليّة والاجتماعيّة عموماً. ولا يخلو من
الدلالة أن تشير أغلب الشهادات المنشورة عن ظروف الاعتقال في تلك المرحلة
إلى توجيه شتائم نمطيّة إلى المعتقلات، فكلمات مثل "شرموطة، قحبة" كانت
تُستخدم على نطاق واسع من أجل إذلالهنّ وهو أمر سنعود إليه لاحقاً.
تضع إحدى المحطّات التي تبدي تعاطفاً مع المظاهرات السوريّة على
الشاشة، خلف المذيع أو المذيعة، صوراً للمتظاهرين تظهر فيها امرأة محجّبة
وأخرى منقّبة، وتعرض الصور بمثابة خلفيّة دائمة، ما يوحي بنمط واحد للمرأة
السوريّة الناشطة. في الواقع، ودون إقصاء لأحد، لم تحتوِ المظاهرات الأولى
التي انطلقت في العاصمة السوريّة على أيّة محجّبة أو منقّبة، وإذا
استعرضنا أسماء النساء اللواتي اعتقلن على خلفيّة اعتصام أمام وزارة
الداخليّة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيّين فسنرى أسماء مثل:
ناهد بدويّة، سهير الأتاسي، سيرين خوري،… وغيرهنّ. والنساء المذكورات لسن
محجّبات، وبوسعنا إضافة العديد من أسماء المعتقلات ليكتمل المشهد الذي
يدلّ على أنّ الناشطات السوريّات لا ينتمين إلى دين واحد أو مذهب واحد،
وسيكون من الغبن الكبير تنميطهنّ أو اختزالهنّ بشريحة محدودة سواء كنّ
محجّبات أو لم يكنّ كذلك. ومن المفيد أن نشير هنا إلى خروج بعض المظاهرات
النسائيّة الصامتة حداداً على أرواح الضحايا، وقد لبست النساء فيها لباساً
أسود مع وضع شال أبيض خفيف على الرأس، وهذا الزيّ يرمز فقط إلى الحداد
وليس له أي بعد دينيّ، مع التنويه بأنّ نسبة كبيرة من المشاركات لا يضعن
الحجاب أصلاً.
لن نبالغ في تضخيم حجم المشاركة النسائيّة في المظاهرات السوريّة،
وعلينا تفهّم الظروف التي حالت دون مشاركة واسعة للنساء، وفي مقدّمة هذه
الظروف استخدام العنف المفرط في قمع التظاهرات. ولعلّ إحدى الغايات
الأساسيّة وراء تنظيم مظاهرات تقتصر على النساء هي إحراج رجال الأمن الذين
كانوا يضطرّون إلى استخدام محدود للعنف، وإن اقتصر أحياناً على العنف
اللفظيّ. وبالعودة إلى ظاهرة العنف اللفظيّ نجد اتّهام الناشطات بالعهر في
مقدّمة الأسلحة التي تُستخدم ضدّهنّ، وهو سلاح يبتغي تجريد المعنيّة من
أهليّتها الفكريّة والحقوقيّة واختزالها إلى مجرّد جسد أنثويّ مهدَّد
بالانتهاك إن لم ترتدع صاحبته. وعلينا ألا ننسى هنا ذلك الإرث الذكوريّ
المتآزر مع السلطة البطريركيّة والذي يرسم للمرأة دوراً محدّداً تماماً،
تحت طائلة الاتّهام بالعهر فيما لو خرجت عمّا هو مرسوم لها في حياتها
الشخصيّة أو العامّة.
من حيث الشكل تمارس المرأة فعلاً عامّاً تشترك فيه مع الرجال، أمّا من
حيث التبعات فإنّ ما تتعرّض له المرأة، أو ما تُهدَّد به، يختلف في بعض
جوانبه عمّا يتعرّض له الرجال. تكتب الروائيّة والناشطة سمر يزبك في مقال
لها(1): "أنا جريمة شرف مؤجلة في عائلتي، وجريمة خيانة في مجتمعي وطائفتي،
و..و..". ونرى الهاجس ذاته يطلّ في فقرة أخرى من المقال: "فكرة مجنونة،
لكنها غريبة، أن تخرج مع الأصدقاء للتظاهر، وتعرف أن هناك رجالاً من الأمن
قد يقنصوك في أي لحظة. رجال الأمن الذي يدوسون رقاب الناس منذ عقود،
يعهرونهم يخوّنوهم، يعتقلونهم. يقتلونهم، ثم يمشون في الشوارع بدم بارد".
ولعلّ الحملة البشعة التي تعرّضت لها سمر يزبك بمثابة النموذج المعبّر
عمّا يمكن أن يطال المرأة من تشنيع؛ بدأت الاتّهامات منسوبةً إلى موقع
إسرائيليّ باسم "فيلكا"، وهذا الموقع الغامض لم يتمكّن أحد من الدخول إليه
رغم استخدام وسائل كثيرة لكسر الحجب ويبدو أنّ دخوله سهل فقط على الذين
ينسبون إليه هذه الأقوال، الاتّهامات المتتالية بحقّ سمر يزبك تبدأ من
استخدامها جسدها للترويج لنفسها ككاتبة، مروراً بسرقتها لنصوص رواياتها من
روايات إسرائيليّة! انتهاء باتّهامها بالتحريض على القتل لأنّها كشفت
ممارسات رجال الأمن في سلسلة مقالات نشرتها بعنوان: "يوميّات دمشقيّة".
على سبيل المثال، بتاريخ 1/4/2011، يتّهم موقع يطلق على نفسه اسم
freebanias يتّهم الروائيّة سمر يزبك، التي يصفها بالقاتلة، بالتحريض على
عناصر الأمن، ويورد مقاطع من مقالات لها تثبت ادّعاءه، وممّا يورده الموقع
للتدليل على صحّة الاتّهام: "سأندس في نوم القتلة؛ أسألهم: هل حدقتم في
عيونهم، حين اقترب الرصاص من صدروهم؟
من يقتل من وراء الأسطح والأبنية؟ قاتل جبان هو؟ القاتل جبان، وكيف
يمكن أن يكون شجاعاً، فهو سلفاً مجرد من شرطه الأخلاقي". انتهى الاقتباس
ولم تنتهِ الحكاية، فالموقع المذكور يقفز إلى اتّهام سمر يزبك وصديقة لها
كاتبة أيضاً، يرمز لها بحرفي "د.و"، بالعمالة وقبض الأموال من سفارة
أجنبيّة في دمشق. الأمر هنا لا يتوقّف على الاتّهام الشخصيّ، بل يتعدّاه
إلى التحريض الاجتماعيّ السافر، ولنا أن نقدّر حساسيّة مجتمعاتنا تجاه ما
يخصّ النساء، ما اضطرّ سمر يزبك إلى نشر بيان على صفحتها على الفيس بوك
تقول في جزء منه: "أنا هنا، ومن موقعي ككاتبة ومثقفة سورية، كنت أجد أن من
المهم عدم الرد على هذه التلفيقات التي طالتني، لأني أردت أن أكون صوت
الحق والعدل في حمام الدم الذي يجري في بلدي سوريا. وعليه، فإن ما حصل لن
يثنيني عن انتمائي لصوت الحق، ولن يطال من وطنيتي، وأنا إذ أقوم بتكذيب
ونفي هذه الشائعة المغرضة التي أراد مروجوها خنق صوت الحق، وإثارة المزيد
من الفتن في البلاد، فإني أفعل ذلك رأفة بأهلي الذين يتحملون تبعات هذه
الشائعة الخبيثة بكثير من الألم".
تكتسب مشاركة المرأة في النضال من أجل الحرّيّات أهمّيّة مضاعفة لا
لأنّها تدفع ثمناً أقسى وحسب، ولا لأنّ مشاركتها تتطلّب شجاعةً دونها
اعتبارات اجتماعيّة عديدة أيضاً، بل لأنّ مشاركتها تعزّز الطابع السلميّ
المدنيّ، وتسحب الذرائع من أولئك الذين يسعون بشكل حثيث إلى وضع المطالب
السياسيّة في دائرة العنف. أثبتت نساء سوريا عبر زمن طويل أنّهن لسن أقلّ
توقاً إلى الحريّة والعدالة من الرجال، ومع أنّ الإنصاف يقتضي ذكر الناشطة
الحقوقيّة رزان زيتونة على الجهد الدؤوب الذي تبذله فإن الإنصاف يقتضي
أيضاً الإشارة إلى أنّ تناول هذه الأسماء هو على سبيل الحصر ليس إلا. تثبت
المرأة السوريّة مجدّداً أهليّتها المساوية للرجل، وتذكّرنا باستحقاقها
لنيل المساواة الاجتماعيّة والقانونيّة الكاملة، أمّا المساواة بالملاحقة
والاعتقال، وأخيراً القتل، فبئس هكذا مساوا