لم
تعد المرأة مجرد موضوع اجتماعي يتولد من خلال التقسيم الجنسي للمجتمع
المرسم في النظام الثقافي. ولم تعد مجرّد فئة محددة بكاملها انطلاقا من
مجموع الحقوق المحرومة منها وأنواع الحيف التي تطالها وأشكال الإقصاء التي
تنظم وجودها مثلما أنها لم تعد توقا يصوغ الحرمان والتهميش أفقه التحرّري.
إنها
اليوم أكثر من كل هذا. فقد غدت المرأة مبدأ لعصر أضحى بأكمله أثرا متحققا
له. لذلك لا غرابة أن نجد كل مخططات التنمية المعتمدة أمميا تحدد المرأة
ليس فقط كفضاء لاختبار نجاعتها، بل وأساسا كمعيار لتقييم أدائها (أي أداء
هذه المخططات) بالنظر إلى أهدافها. فالعدالة والإنصاف والمساواة والحرية،
هذه القيم التأسيسية لعصرنا تعيد اكتشاف حقل فعاليتها الواقعية في المرأة.
بصيغة
أخرى أصبح عصرنا يرسم شكله الخاص في إدراك امتيازه واستثنائه وربما حتى
إخفاقاته، من خلال هذا المبدأ الجديد. فتحت كلمة المرأة تتجمع مساءلة
تاريخية للأفق التحرري للإنسان ويعاد تعريف الحدود التنظيمية لوجوده مابين
الخاص والعمومي والفردي والجماعي. وتستكشف من جديد الإمكانات القصوى التي
يحفل بها وجود الرجال والنساء على السواء. ففي المرأة يعثر الإنسان
المعاصر أخيرا على الموضوع الذي يطرح فيه مشكلة ما هو عليه، أي راهنه.
لذلك لم يكن مفاجئا أن يستنتج أن حرية المرأة مرادفة لتحرير الرغبة
وانعتاق الجسد واختيار الأفق الجمالي للحياة، مثلما لم يكن غريبا أن تكون
المرأة اليوم المبدأ الأكثر إرباكا للدغمائية الدينية التي لطالما بنت
أساس الامتياز الذكوري في الغيب واستعادته في رواية تاريخية جعلت فيها
الوهم وصيا على الحقيقة.
ومن ثمة بقي
سؤال المرأة الإشكال الأشد إحراجا والأكثر استعصاء على الهضم من قبل هذه
الدوغمائيات لأنه بالضبط سؤال التحرّر ورفع الحجر على الإنسان، فنحن نلاحظ
أنّ أغلب المنظومات الدينية المتطرّفة تشكّل نفسها حول عداء متضامن إزاء
تحرّر المرأة وانعتاق الجسد وتمجيد الرغبة.
كل
هذا يؤكد أن المرأة ليست فقط مبدأ لبناء نظام جديد يعاد انطلاقا منه تحديد
قيمة وجود الرجال والنساء، وإنما هي كذلك مبدأ نقدي لتفكيك وحدة سابقة.
يحق
لنا إذن أن نتساءل ونحن في غمرة الاحتفال بذكرى 8 مارس أن نتساءل : هل
المرأة هي كائن المستقبل؟ وهل سيغدو العصر الأكثر إنسانية عصرا نسائيا؟
فعلاوة
على تحول المرأة إلى الجسد الذي تحرر فيه الإنسان وأضحى فيه من الممكن أن
يواجه حدود هذه الحرية باعتبارها تحققا لحقه في جسده، أصبحت الحرية نظاما
اجتماعيا يترسخ في هيئة إدراك مسترسل لجيل جديد من الحقوق ترسي بمجرد
الاعتراف بها نسقا مصاحبا من الالتزامات. فكما قالت هالة الباجي "كل حق
نحصل عليه يربطنا بالتزامات أخرى" (1).
لقد
رسم الوضع الجديد للمرأة الهيئة التي اختارتها الأنوار لاستكمال مهمتها،
حيث كان من اللازم أن تكتمل الحرية بالمساواة والعدالة بالإنصاف، وأن
تتحمل الديمقراطية مسؤولية تصريف نفسها في شبكة من الحقوق المجهرية التي
تتحقق عمليا في ذوات فردية معيِّنة إمكانيات وجودية تجعل الحرية
مشفوعة بالمتعة.
فظهر أن تاريخ تحرر
المرأة هو نفسه تاريخ تحرر الرجل، أي تحرره من نظام وظف الذكورة لإرساء
كليانية نظام استبدادي، يستبد بالرغبة ويضطهدها لصالح الحرمان فيسميه
فضيلة، ويستبد بالجسد فيحوله إلى طاقة للعمل والمردودية فقط وليس مجالا
للذة و متعة الحياة، ويستبد بالفكر فيحوله إلى عقيدة تستعبد الروح وتقمع
الحرية. . هذا النظام هو نظام سيادة الماضي على حساب الحاضر وتحويله إلى
نسخة مشوهة منه، وسيادة الموتى على الأحياء وتحويلهم إلى مجرد ظلال لهم.
يتخذ
هذا التحرر المزدوج للمرأة والرجل معا وضع صراع من أجل مدينة لا تختزل
الحياة فيها إلى مجرد تاريخ للبيت، أي للكيان المنزلي الذي لطالما اختصر
الوجود النسائي فيه، مثلما لا يختزل في تاريخ الكيان العمومي الذي ينفرد
به التدبير السياسي فتتحول فيه المرأة إلى مجرد خطاب عمومي يلوكه الساسة،
وإنما المدينة باعتبارها نضال قيم توجه سعي الإنسان لبناء مستقبل بديل
يضمن الحياة كممارسة جمالية، كمتعة وكسعادة تستكشف في اللحظة.
المرأة
اليوم إذن هي هذه الحرية التي توسع حقل إمكاناتها في الإنسان والمجتمع
لتعدل من تقسيماته وتراتبياته. وهي كذلك الكونية التي تحرج حدود الأنظمة
الثقافية القاسية التي ظلت تمثل أشكالا من الانغلاق بدعوى الخصوصية التي
يمليها الإرث الديني.
فقد مثلت حقوق
الطفل والمرأة استكمالا للحقوق الكونية للإنسان التي يتحمل المجتمع
الإنساني بكامله مسؤولية حمايتها وضمانها في كل نقطة من الأرض التي نتقاسم
العيش فوقها. لا يمكن أن نرى في هذه الثورات التي تعتمل بشمال إفريقيا
وبعض بلدان الخليج سوى مجهود الكونية لتوسيع نفسها وصياغة واقع ينتظم وفق
قيمها التي تجعل الذوات الفردية حقلا وجوديا لانطباقها. بمعنى أن هذه
القيم حطمت الحدود وأخذت في التعبير عن نفسها في صيغة مطالب تحمل التاريخ
على الاستجابة لها. لذلك ستظل هذه الثورات التي أنجزت جزءا من
مهمتها مطالبة باستكمال المسلسل الذي دشنته بثورات ثقافية حقيقية تفرز
نظاما ثقافيا بديلا تشكل هذه القيم نواته الاساسية.
تذكرنا
وضعية المرأة أن حقل الحرية هو الفرد، حياته الخاصة وميولاته ومعتقداته.
إذ ما الجدوى من نظام يكون بإمكان الفرد فيه اختيار حاكمه بحرية ويمنع من
التصرف في جسده ورغباته وفق ذات المبدأ. فكيف يمكن أن نكون أحرارا في
السياسة دون أن نكون أحرار في أجسادنا كرجال وكنساء. ربما كانت تلك إحدى
النقط التي تثيرها الحداثة التي تعمل بعض البلدان العربية على تسويقها
داخليا بتحويلها المرأة إلى خطاب تتجمع فيه ملامح مغازلة سطحية للغرب مع
الاحتفاظ بالعمق غير الحداثي للمجتمع.
إجراءات تهم كيانها كوظيفة اجتماعية في مؤسسة الأسرة (في حالة الزواج
والطلاق) وتمكينها من ولوج عالم الشغل من جامعة أزبال إلى وزيرة أي ضمان
مردوديتها بالنسبة للمنظومة العامة من اقتصاد وإدارة. لكن حقوقها كذات
راغبة، ككائن ذي جسد ومن حقه أن يحيا حريته الخاصة انطلاقا من هذا الجسد
فيبقى خارج دائرة الضمانة المؤسساتية وحتى منافحو الحداثة بهذه
البلدان يلزمون الصمت إزاءه عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن مطالبهم. في
الحقيقة فما يهم الساسة في الإجراءات المشار أعلاه هو المردودية وليس
المرأة في حد ذاتها. لأن سؤال الفرد لم ينعكس في السياسة والحق في الجسد
لم يتحصل بعد كمطلب سياسي.
فلأن الفرد
وحريته الشخصية التي تبدأ بالجسد وتعبر المعتقد لم يطرحا أبدا كرهان عمومي
فإن علاقة الفرد بجسده من حيث هو قاعدة للرغبة، لم تطرح عبر ارتباط وثيق
بمفهوم الحرية. فظلت المرأة مجتزأة من جسدها إلا إذا كان ذا مردودية
بالنسبة للمجتمع كما هو الحال في الزواج أو العمل.
في
الثامن من مارس نتذكر ذلك الجسد المنسي الذي يطالب بحقه في الكونية، في أن
تكون حريته غير محدودة بنظام ثقافي يزعم لنفسه خصوصية تجعله استثناء أمام
النظام الكوني للحقوق وتشرع له حق اضطهاد الجسد عندما يعلن تمسكه بحريته.
ففي الوقت الذي أضحى فيه من الصعب التنكر لحق المرأة في الشغل في أعتى
الأنظمة التيوقراطية بالعالم الإسلامي والعربي ، نجد أن عدد ضحايا
جرائم الشرف من النساء يواصل حضوره أمام سلبية الأنظمة. وكثيرات هن
أولئك اللائي سحب منهن حقهن في الحياة عقابا لهن على استعمالهن لحقهن
المشروع في أجسادهن، وكم منهن من أدى ضريبة باهظة الثمن لاختلاسهن قبلة أو
لحظة عناق وأجبرن على تحمل متعهن كعقاب أبدي.
هل مازال
بإمكاننا أن نقبل ونحن في بداية عصر جديد للإنسان العربي أن تضطهد المرأة
بسبب جسدها وأن يظل كيانها الأكثر حميمية تهمتها الأبدية الأكثر تشنيعا
وشبهتها اللاصقة دون استئناف. إن استعمال الجسد بموجب حق ثابت لا تفاوض في
شأنه يمثل المدخل الحقيقي لعصر حداثي يشكل العلامة الرئيسية لنمو الفرد
عبر تحرر رغبته حيث يعلن مبدأ الاستقلالية عن نفسه أولا في الحق في التصرف
في الجسد مثلما يعلن عن ذلك في حرية الفكر والمعتقد والاختيار. بمعنى رفع
الوصاية عن الجسد والفكر والمعتقد الشخصي. يمثل ذلك سند الديمقراطية
الحقيقية حيث يكون بإمكان الناس العيش متحررين من ضغط سلطة
التقاليد مسيرين لأمورهم بأنفسهم في فضاءاتهم الخاصة متمتعين في نفس الوقت
بقدر كبير من حرية التعبير. (2) إن ذلك يشير بشكل مباشر إلى الصيغة التي
ينبغي أن يكون فيها سؤال سعادة الفرد ورفاهه المتحقق بمقدار الحريات
الفردية المضمونة له منعكسا في السياسة.
لم
يتحرر الرجل طالما لم يتحرر جسد المرأة هذا الجسد الذي يمنحنا فرصة غير
مسبوقة اليوم للتأكيد مرة أخرى مع تودوروف "أن الانتماء إلى الجنس البشري
بما هو صفة كونية هو أكثر أصالة من الانتماء إلى هذا المجتمع أو ذاك