"طوفان في بلاد البعث": النظام يدين نفسه!
تضامنا مع الشعب السوري.. في بيروت |
نضال أيوب
08/06/2011
الرياح
والعواصف غدت في كل مكان. ومشوار الألف ميل بدأ بخطوة. من تونس ومصر إلى
ليبيا ومختلف الدول العربيّة، العدوى انتقلت. الحالات تتشابه، والشعوب
العربيّة تتعاطف، اللهم إلا في ما خصّ سوريا.
في بداية الثورات، كان همّ الشباب تنظيم تظاهرات وإقامة اعتصامات مفتوحة
دعما للشعوب المجاورة، هاتفين بالحريّة، مطالبين بسقوط الدكتاتور، أينما
وجد. إلاّ أن عبارة "أينما وجد" لم تكن لتشمل سوريا. فدكتاتوريتها ذات وجه
منمّق، دائمة التبرج، وصاحبها شاب بهيّ الطلعة، يرتدي ربطة عنق، باتت تكتم
أنفاس شعبه.
القواميس والمعاجم تنكّرت لسوريا، فألغيت كلمة "ثورة" لتحل مكانها وبقوة
"المؤامرة". وشباب لبنان لم يكتفوا فقط بالوقوف مكتوفي الأيدي تجاه ما
يحدث في هذا البلد المجاور، بل أصبحت أياديهم تنهال على وجه كل من يتفوه
بأي سوء عن الرئيس بشار. وبدل أن يكون هتافهم "الموت لإسرائيل" صار "الموت
للمندسين.. بيستاهلوا". أعطوا لأنفسهم الحق بتخوين الثوار ومن يؤيدهم،
ورفضوا أي حوار، مهمّشين، عن قصد، كلّ رأي آخر.
العيون تحدّق، تبتلع شاشات التلفزة، ورغم جحوظها تأبى التصديق. فكل شيء
برأيهم مركّب. دموع الأطفال زائفة، صراخ العجائز مصطنع، النساء والشباب
دمى تحرّك من قبل أيدٍ خارجية، والمجازر يشاهدونها كفيلم أكشن أو حرب
عصابات، من دون أن يرفّ لهم جفن..
هكذا غدت بيروت، ست الدنيا، تأبى احتضان شقيقتها الثكلى. تقفل الأبواب بوجه أهلها وتمتنع حتى عن مواساتهم والمشاركة في مآتمهم.
إلا أن بيروت لا تخلو من بعض أصحاب الضمير، الذين ينظمون من حين لآخر تحركات خجولة داعمة لثورة الحرية للشعب السوري.
***
مساء الثلاثاء، في السابع من حزيران الجاري، لبّت مجموعة من المثقفين
اللبنانيين نداء استغاثة وجّهه بعض السينمائيين السوريين، فكان مسرح دوار
الشمس في الطيونة شاهدا على ابتلاع أحلام الشعب السوري، في أمسيّة
سينمائية، تخللها عرض ثلاثة أفلام من سوريا: "طوفان في بلاد البعث"،
للمخرج الراحل عمر أميرلاي، "نجوم الضهر"، لأسامة محمد، وفيلم "النهاية"
الذي أنتجه شباب ضمن الحراك الجديد. كما تليت رسالتين لسينمائيين يدعمان
الثورة، وهما هلا عبد الله وأسامة محمد.
حضر الأمسية جمهور كبير من جنسيات مختلفة، جاء لمشاهدة بعض صور لواقع مرير يعيشه السوريون منذ أكثر من أربعين عاما.
كلمة هلا عبد الله كانت حزينة وموجعة.. "تأتون اليوم للفرجة؟ هل كان من
الأفضل أن تتفرجوا على ما يحدث في سوريا كأنّه سينما، كي تتفاعلوا
وتُحرّضوا وتلتقوا بالحقيقة؟".
عبد الله استغربت كيف يتقبل الناس الأفلام التي تحكي عن الحقيقة ويرفضون
واقعها الذي يتجسد في شوارع المدن والبلدات في سوريا. فهم يشيحون بنظرهم
عن الشعب الذي استيقظ من كابوسه ليتحدى الطغيان، يسدون آذانهم عما لا
يريدونه، يسمعونها سلفية عوضا عن سلمية، وممانعة مكان الحريّة. "أنصتوا
إليه. هذا الشعب الذي فيه خليط من الروائي والوثائقي والفانتازيا واللا
معقول".
تؤكد هالة للأشخاص الذين يتبنون نظرية نظام الممانعة، أن الذي يفرغ
رصاصاته في صدر مواطنيه، لن يطلق الرصاص على إسرائيل. وأن شعبا يخرج
للشارع منذ ثلاثة أشهر، مسلحا فقط بصوته وكاميرا هاتفه، هو شعب ينادي
للحرية ويختار بنفسه لون صوته ومفرداته.. لا ينتظر من أحد أن يلقّنه
ويديره ويشترط عليه ماذا يفعل.
***
"طوفان في بلاد البعث" لعمر أميرالاي تجاوز الواقع. فبعد أن حرّضته سلسلة
من الحوادث المتتابعة التي تنذر باحتمال وقوع الطوفان، بدءا من انهيار سدّ
"زيزون"، مرورا بتشقق سدّين آخرين أحدهما سد الفرات، وجد حافزا دفعه
لينطلق إلى الواقع، كي يعاين وضع بلده ويخبر عنه.
"حول بحيرة الأسد يمتدّ اليوم بلد اسمه سوريا الأسد. من سوريا الجديدة هذه
اخترت قرية. هذه القرية وأهلها وحتى بئر الماء فيها اسمها الماشي. قرية
يحكمها شيخ عشيرة هو نائب في مجلس الشعب، يعاونه ابن أخيه مدير المدرسة
ومسؤول الحزب. إنها في عبارة أخرى عيّنة من بلد تحكمه عائلة منذ أربعين
عاماً من دون منازع".
شخصيات الفيلم كانت تتكلم بشكل آلي، وكأنها مبرمجة لتمدح شخص الرئيس وحزبه
فقط. شيخ العشيرة، نائب في مجلس الشعب، يتباهى بأنه أقدم الناس في
البرلمان. فهو يشغل منصبه منذ 53 عاما. ابن أخيه، يحكي أهميّة المعلم في
توجيه الطلاب، فهو الراية ومنطلق الحياة. وهم بدورهم عاهدوا الرئيس أن
يكونوا جندا أوفياء، متابعين التعليم بكل همّة ونشاط ليحققوا جيلا
مستقبليا واعيا، هو جيل سوريا بشار حافظ الأسد.
أما التلامذة، والأصح القول العساكر، تبعا لنظام التعليم في الزمن الذي
صوّر فيه الفيلم، في المدارس الحكوميّة، فتبدأ عملية "تعبئتهم" وغسل
دماغهم منذ الصغر. فولائهم يجب أن يكون للوطن، والوطن هو الأسد، وحب
القومية يعني حب الحزب الأوحد: "البعث".
كل شيء في المدرسة هو أداة لتبجيل الرئيس. درس القراءة يحكي عن بطولة حافظ
الأسد بتحويل مجرى النهر، وحصّة
سوريا تهتف للحرية.. وبيروت تصمّ آذانها
"طوفان في بلاد البعث": النظام يدين نفسه!
الموسيقى هي لحفظ أناشيد حزب البعث،
والجغرافيا تشرح كيف أن بإمكان الرئيس وحده تغيير الحدود متى وجد في ذلك
مصلحة قوميّة.
عمر الذي لم يتوقف، ولو للحظة، عن سخريته اللاذعة بأسلوبه في عرض الحقائق،
ترك لشخصيات الفيلم التي ما انفكّت تمدح النظام، مهمة الإدانة، بعفوية
وصراحة.