هناك جهد بارز في الكتابات عن التحرك الشعبي في مصر لاستيضاح هوية
القيادات، يوازيه جهد أكبر لإسقاط الأماني والأيديولوجيات على هذا التحرّك.
وقد بلغ الأمر بهذه الجهود أن نأت عن مقاربة الحدث وصنعت له تمثيلات من
التاريخ تارة، ومن العقيدة الثورية تارة أخرى أو الموروث الديني على نصوصه،
تارة ثالثة، كأنه خارج الوقت وخارج الزمن. تجسيد حي وثقيل لمقولة أن للنص
قراءات بعدد قرائه تكتسب مضامينها وطابعها من هوية القارئ وقدراته وموقعه
وانتمائه. تفاعل يحوّل الحدث مما هو عليه في حصوله وإرادة مُحدثيه، إلى ما
يريده القارئ والمحلّل والرائي. أما المحصّلة، فهي في العادة، قراءات أوسع
من الحدث أو أضيق من حدوده بكثير، أو قراءات تحريفية تسعى إلى إزاحته عن
قاعدته ونقطة انطلاقه، أو قراءات تشوّه، بقصد أو بدون قصد، سمته الأساسية.
وندّعي أن هذه الظاهرة ما كانت لتتدحرج إلى الخلط والهرج حدّ الرياء والغرق
في الأوهام، لو أن القراءات اعتمدت التبصّر وعدة من الأدوات المنهجية
والعلمية لا أداة واحدة وحيدة هي الأمنية أو الخيال المجنّح أو حتمية
الأيديولوجيا أو غيبية النص. وكلها قراءات وسط الحدث لكن خارج التاريخ.
لفت انتباهي، مثلا، أن كتّابا ممن عرفتهم من كتاباتهم وأطروحاتهم
بسوداويتهم وانسداد الأمل في وجهات نظرهم، إلى ما قبل أسبوعين، هم أكثر
المطبّلين والمزمّرين إشاعةً للأمل، هذه الأيام. وعلى شاكلتهم جيلان أو
ثلاثة من الناشطين الذين عرفت عنهم من تجاربهم عقم تفكيرهم وضيق مجال
اجتهادهم ودوغماتيتهم، ألفيتهم يرحّبون بما هو حاصل في مصر وتونس ويهللون
لرياح التغيير ويضيقون نفَسَهم في دفعها. وغيرهم ممن عرفتهم بالتجربة أو
بالدراسة قمعيين ضد كل مَن يخالفهم الرأي، مستبدين بقرار الإطار والحزب،
يرسلون بلطجية الكلام إلى كل ميدان حرّ لإسكات السؤال والنقد والاختلاف،
فاجأونا بموقفهم المتحمس للمعتصمين في ميدان التحرير يردّدون "إذا الشعب
يوما…"! ومجموعات متآلفة متحالفة من سلوقيي الإنترنيت الذين ما أن يروا
فكرة مشرقة أو أطروحة منطلقة خارج أنساقهم إلا وانقضوا على مبدعها نهشا
مدميا، طلعت اليوم كأكثرنا احتفاء بمصر وشعبها.
ظاهرة غريبة في ظاهرها طبيعية في باطنها. لكنها يقينا مقلقة في مدلولاتها
الثقافية والفكرية والقِيمية. فهي تعكس الرياء في الثقافة العربية أو ما
سُمّي بـ"الغش الذهني"، أو ذاك التزاوج العلني بين الشيء وضده. بين
الاستنقاع (من مُستنقع) في موقع الجلاد والتماثل مع الضحية، بين الانتصار
لهيمنة الأيديولجيا واستبداد الجماعة، وبين التضامن مع أحرار مصر. بين
النضال لفظيا من أجل الحريات والديمقراطية في بلد والوقوف في الوقت ذاته مع
طاغية أو قمع في دولة أخرى!
قلقنا ليس على حالنا بل على أحرار مصر وعلى ثقافتنا. فكيف يُمكننا أن نأخذ
بجدّ أولئك الذين يذودون عن أحرار مصر في ميدان التحرير ولا يرون غضاضة في
الإشادة بالنظام الإيراني الذي أشبع شعبه وهبته الخضراء قمعا ودهسا
بسيارات الباسيج ودراجاتهم النارية! أو كيف يُمكننا أن نصدّق نوايا أولئك
المحتفين بخطف حزب الله لدولة لبنان وترويع أهل بيروت عندما يعلنون تأييدهم
للشعب المصري! ومن هنا يُخيل إليّ أن قطاعا واسعا من المحتفين بأحداث مصر
كانوا سيصابون بالغمّ والإحباط لو أن الثورة هي ضد نظام قمعي جامد لكنه
"مناهض" للغرب! بمعنى، أنهم كانوا سيدافعون عن النظام أو سيتهمون الشعب
المنتفض بالميول الغربية! وهذا يعني أن الحريات والكرامات الإنسانية لشعب
مصر ليست سبب الفرح ودواعيه عندهم بل كون التحرك هو ضد نظام مبارك
"المعتدل"!
هذه المفارقات تكشف في جوهرها عقم الأيديولوجيات الشائخة والمنضوين تحت
ألويتها وتنظيراتها. عقمها في إنتاج مواقف مشرقة وجذرية في تمسكها
بالحريات، وعقمها في تغيير الواقع أو صنع الحياة الجيدة للناس بمن فيهم
الذين يتحركون بوحي منها. وهي مسألة ظهرت لنا في أحداث مصر التي نراها، في
وجه من وجوهها، ضربا من الاحتجاج على هذه الأيديولوجيات، أيضا، وحامليها من
أحزاب معارضة مصرية صارت مع الوقت جزءا من الواقع الذي ينبغي تغييره. جزءأ
من الواقع وليس علامة السؤال فيه! لقد أنتجت الأيديولوجيا جماعات حقيقية
ومتخيّلة وأنماط سلوك وتفكير خاصة عندما تصاب الجماعة بأثر القطيع!
يستدلّ أن غالبية المحتفين لم يحتفوا لتحرك الشعب المصري لذاته ومن أجل
حرياته وحقوقه وكرامته، بل لشيء ما في نفوس المحتفين. كأن حريات المصريين
لا تكفي وحدها للاحتفاء والتضامن! كتابات كثيرة أملت أن يكون المعتصمون في
ميدان التحرير، مناهضين لأمريكا، ممانعين، لتكتمل حركتهم وتزهو. وأخرى،
أملت أن ينهض المعتصمون نهضة رجل واحد في وجه إسرائيل وسياساتها! وكتابات
شككت في قدرات قيادات التحرّك التنظيمية وفي رسالتهم وتضحياتهم لأن في مصر
حركة أخوان مسلمين قوية ومنظمة ستخطف النصر في نهاية المطاف! ومثلها، شككت
في التحرّك وهمزت من قناة الغرب أو حتى إسرائيل المعنيين بـ "الفوضى
الخلاقة"، وهو تعبير لغوي تعلّمه البعض من سنتين أو ثلاث، فلا يكتب مقالا
إلا ولجأ إليه سحرا يفضّ الألغاز ويكشف الحقيقة (صيغة متطورة لنظرية
المؤامرة)! ماركسيون قدامى وجُدد ركّزوا على "سلّم ماسلو" في التحرك من أجل
الخبز وضد الغلاء الفاحش للسلع الأساسية ليثبتوا نظريتهم التي تغيرت في
بقاع العالم إلا في المواقع العربية! سوريون محسوبون على النظام تفننوا في
التحليل القومي وأتحفونا باستنتاجاتهم عن انتصار خط سوريا "الصمود
والتصدي"! قوميون عرب ظهروا على الفضائيات وبشرونا بولادة القومية من جديد،
وبزوغ فجرها العربي من تونس الخضراء وقاهرة التحرير! أما الحركات
الإسلاموية على مذاهبها فشرعت تشير إلى ما في النص المقدس من دلالات على
قرب النصر المبين بإذن الله، طبعا!
كتابات لا تسقط على الحدث في مصر الأماني فقط بل العجز، أيضا. كأن
المصريين يضحّون ويهبّون نيابة عن الذين لا يفعلون أو الذين لم يفلحوا في
ذلك، حتى الآن. ومن هنا تحوّل التضامن الأولي الإنساني في الكتابات الأولى
مع ما حصل إلى اندلاق على الحدث وسعي محموم إلى تفسيره على أهواء المفسرين
حتى لم يعد الحدث في التمثيلات المتوالدة له ملكا للمصريين أو للقيادات
التي أحدثته عينيا بل للذين يتناولونه كتابة وتحليلا! بقدر ما بعثت تجربة
مصر المتواصلة الأمل فإنها تكشف في الوقت ذاته مواضع الوهن العام لثقافة
وشعوب ونُخب تنفعل أكثر مما تفكّر، تغضب أكثر مما تخطط، تُسقط الأماني أكثر
مما تطور إرادة جامعة وفعلا إراديا. وهو ما كشفته التجربتان الجديدتان في
تونس ومصر باعتبارهما تحركا في التاريخ والواقع ضد ما هو ليس تاريخي في
الثقافة العربية وهنا السياسية منها بوجه الخصوص.
لو أمعنّا في صورة الحدث المصري تحديدا لاكتشفنا، دون كبير عناء، أن
المشاركين في الحدث يمثلون جميع ألوان الطيف الاجتماعي والفكري في مصر. وأن
من بين المنظمين والمشاركين بفاعلية جماهير مؤسسات المجتمع المدني المصرية
التي استطاعت في العقدين الأخيرين أن توسع حضورها وقواعدها أكثر مما فعلته
الأحزاب المعارضة. بل أن أثر نشاطها فاق بكثير ما كنّا نعرفه وانسابت
رسائلها المتصلة بالحقوق والكرامات والحريات أكثر مما استطاعته
الأيديولوجيات المعروفة، العلمانية منها والدينية. بل إن هذه المؤسسات
استطاعت في نهاية المطاف ما عجزت عنه الأحزاب المؤدلجة والمقيدة
بأديولوجيتها إلى المكاتب والقول المكرور، وهو إخراج الملايين من المصريين
في ساعة الحسم إلى ميدان التحرير وسواه من ميادين مدن مصر ومراكزها
المدينية! هذه حقيقة لن يستطيع أن يخطفها من هذه المؤسسات أحد. وإذا كانت
المعارضة التقليدية في مصر استندت إلى الأيديولوجيات الشائخة، المستوردة أو
المولّدة في مصر، أداة للعمل والاتصال بالجماهير، فإن مؤسسات المجتمع
المدني المصرية استندت إلى المعرفة، إلى تكنولوجيا المعرفة والاتصال،
وأكثر، إلى قيم إنسانية شمولية تتصل بالكرامات المفقودة والأمل المفقود.
قيادات شبابية أدركت بالتعلّم ومن تجارب المجتمعات الأخرى، في شرق أوروبا
وأمريكا اللاتينية خلال العقدين الماضيين، أن إنتاج البديل للواقع هو
الطريقة الأنجع لتغييره. نظام حريات مدني بدل نظام الطوارئ، نظام تعدد
القوى والفاعلين في الحياة العامة بدل نظام الاستئثار بالسلطة والموارد
والحيز العام. ومن هنا الطابع المدني اللا ـ عنفي في صلب التحركات وفي
مطالبها وتوجهاته، وهي مطالب اتضحت عملية وعينية تستند إلى مرجعية فكرية
منفتحة وديمقراطية لا إلى مرجعيات ثوروية نارية الخطاب صارمة الأحكام كنظام
مبارك أو زين العابدين بن علي أو الأسد أو البشير أو إيران.
إن التحرّك في مصر وتونس يشبه إلى حدّ كبير تحركات الشعوب وحراك المجتمعات
بعد الحقبة الشيوعية في أوروبا الشرقية. حركات مدنية غير عنيفة استطاعت مع
غياب الأب السوفييتي أن تسير بمجتمعاتها نحو الهبوط من سقف الأيديولوجيات
وحتمية التاريخ إلى التاريخ في حصوله. وها هي مصر تشهد تحرك فئات تُعرّف
بأنها فئات المعرفة (التي قد تكون حلّت محلّ الطبقات الوسطى التي كانت تنهض
بعبء الثورة في عقود مضت)، في مستويين، معرفة مهارات وتكنولوجيا الاتصال
الجماهيري المتطورة وتفعيلها، ومعرفة تلك اللغة الجلوبالية المتصلة بالحقوق
والحريات وكرامة الإنسان، كما تبلورت في الأدبيات والمواثيق العالمية
ونصوص إنشاء وتفعيل المحكمة الجنائية الدولية، وكما انتقلت بأيدي مؤسسات
المجتمعات المدنية والدولية من أقاصي الأرض إلى أقاصيها. من هنا، اعتقادنا
بقدرة قيادات هذا التحرّك على اقتراح بدائل لدولة الحزب الواحد ونظام
الأحكام العرفية وللأصولية الإسلاموية كما تجسّدها حركة الأخوان المسلمين
في مصر ولأيديولوجيا دوغمائية جامدة كما تجسدها أحزاب معارضة مصرية
تقليدية. وهنا بالذات يكمن أحد الأخطار المحدقة بالتحرك الشعبي في مصر. لأن
هذه الحركة تطرح بدائل متعددة لقوى متعددة أنتجت الحالة المصرية، فقد تلجأ
هذه القوى إلى الالتفاف على التحرك لأنه يفرض تحديا تاريخيا عليها لجهة
إلزامها بالعيش في الواقع وليس في الأيديولوجيا، النظر في عيون الناس
"الغلابا" والمحرومين بدل الانعزال عنهم وسلب مقدرات البلد كما فعل الحزب
الحاكم في مصر.
التحرّك الشعبي في مصر الآن مبعث أمل ومثار إعجاب وتقدير وأمنيات كبيرة أن
ينتصر وينتقل. ومع هذا فإننا نراه واقعيا يدرك تماما ما هو فيه من تعقيد
الحالة المصرية وتناقضاتها وأخطار انكفائها من جديد أو تعرضها لانقضاض
النُخب القديمة مسنودة بمثيلتها في أقطار عربية وغير عربية، أو لخذلان
العسكر لها بالتدخل أو بطلب حصته في الحكم! ومن هنا، أهمية أن نقرأ الأحداث
في مصر قراءة عقلانية تبني سيناريوهات الانكسار مثلما تُشيد سيناريوهات
النصر المبين والتحويل الجذري للنظام والدولة والمجتمع. فالحدث الآن هو ضمن
حدود الواقع والوقائع وليس خارج التاريخ، في مصر وأرضها وليس في الأماني
العِراض، في ميدان التحرير وليس في الأيديولوجيا، في الحيز العام المصري
وليس في النص الديني. وحريّ بنا أن نحرر الحدث المصري من هذا العناق الخانق
ومن هذا الحبّ المفاجئ خاصة حبّ الذين يموتون حبّا في أنظمة شمولية قمعية
في مواقع أخرى! لنحرر الحدث المصري من غيبياتنا مثلما حرر التحرك الشعبي
ميدان التحرير من غربته ومن بؤس الأيديولوجيا العقيمة. لو أن الكلام يظلّ
على قدر الحدث لكان أمكن التعلّم من دروسه. أما وقد جعلناه أسطورة وملحمة
إغريقية أو بابلية ورسالة أخرى من الله فإنني أشكّ في إمكانية الاستفادة
والتعلّم منه سوى توليد نصوص خاوية!