كتب د. ياسر سعد |
14-01-2011 21:42 كثيرة
هي المقالات والتحليلات التي تناولت انتفاضة الجوع والحرمان في تونس
الخضراء، من أبعادها المختلفة. كما أن العديد من الكتَّاب والمفكرين
حاولوا استشراف المستقبل متحدثين عن الأمل في انتقال ثورة المحرومين إلى
أرجاء عديدة من العالم العربي، حيث تتشابه الأوضاع: حكومات فاسدة بسلطة
مطلقة وثراء فاحش وشعوب مقهورة جائعة وكرامات مهدورة. غير أنني في هذه
المقالة سأحاول قراءة بعض ما وراء الحدث، كمحاولة لتثبيت حقائق والتذكير
بأخرى.
* أن تخرج هذه الأعداد الضخمة متحدية القبضة الأمنية الحديدية
ومتجاوزة قسوة السلطة ودمويتها، فهذا يعني ببساطة أن شعبية الرئيس التونسي
في الحضيض. هذا الأمر يرفع علامة استفهام إضافية وكبيرة على مهازل
الانتخابات الرئاسية في العالم العربي عمومًا وفي تونس خصوصًا.. تونس التي
استولى رئيسها على الحكم من بورقيبة معلنًا في أول خطاب له السعي للحكم
المطلق والدائم بالمرض، متعهدًا بتغيير الدستور ليحد من احتكار السلطة
ليعود لتعديل الدستور مجددًا ويسمح لنفسه بالبقاء في الحكم لولاية خامسة.
* يساهم الغرب مساهمة كبيرة في دعم الاحتلال الصهيوني وفي تثبيت أركان
الأنظمة الدكتاتورية في بلادنا، فالمصالح الاقتصادية والسياسية الغربية
تكمن في بقائنا متخلفين، ولْيسعَ مثقفونا وعلماؤنا للهجرة، فيما تعرَّض
بلادنا للخصخصة لبيع مقدراتنا وثروات الأجيال بثمن بخس. النظام التونسي
تلقَّى ـ وما يزال ـ دعمًا غربيًا كبيرًا، فالرئيس الرئيس الفرنسي، والذي
كانت حملته الانتخابية تركز على ما اسماه بدبلوماسية القيم، زار تونس في
2008 وعقد فيها صفقات اقتصادية ضخمة فاقت ملياري يورو، مشيدًا بحرارة
بسجلها في مجالي مكافحة الإرهاب والحريات. ساركوزي ردَّ على مَـن طالبه
بالتعرّض لملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، بقوله: "لا أجد من مبرِّر يسمح
لي بأن أمنح نفسي الحقّ بإعطاء الدّروس في بلد أزوره كصديق ويستقبلني
كصديق"، مضيفًا أن في تونس "تشهد مساحة الحريات تقدّمًا ملحوظًا، وأنه على
ثقة برغبة ابن علي في مواصلة توسيع مساحة الحريات". وبرر ساركوزي دعمه
للنظام التونسي بقوله: "إذا أقيم غدًا نظام حُكم على غِرار طالبان في إحدى
دول شمال إفريقيا، فمَن يصدِّق أن أوروبا أو فرنسا يُمكن أن تشعرا
بالأمان". وقال: إن الرئيس التونسي يحارب الإرهاب "الذي هو العدو الحق
للديمقراطية". فرنسا ساركوزي التزمت الصمت طويلًا في الأحداث الجارية ثم
عادت لتعبر عن قلقها، داعية للهدوء والحوار!!
* تونس تلقت شهادات تفوق وإعجاب من مؤسسات ومنتديات دولية، مثل البنك
الدولي ومنتدى دافوس، على ما يوصف بنجاحها الباهر، وبكونها معجزة
اقتصادية. فعلى سبيل المثال وفي تقرير “سياسات التنمية في تونس: من أجل
أنموذج تنموي يعتمد على مقومات التجديد التكنولوجي”، أعده نديام ديوب
-الممثل المقيم للبنك الدولي في تونس- استعرض النتائج الباهرة التي حققها
الاقتصاد التونسي. فيما أكد مجلس إدارة صندوق النقد الدولي في ختام
استشاراته الدورية مع تونس في أغسطس الماضي أن تونس وفقت في مواجهة الأزمة
المالية العالمية بكل اقتدار، بفضل التحكم السليم في التوازنات الاقتصادية
الكبرى، واعتماد إصلاحات جوهرية، وإقرار سياسات ملائمة منذ بروز البوادر
الأولى للأزمة. وقد رسم مديرو الصندوق في تقرير تقييمي حصيلة إيجابية
جدًّا للاقتصاد التونسي الذي من المتوقع أن يحقق حركية على مستوى النمو
بفضل اعتماد سياسة حازمة في ميزانية الدولة وسياسات مالية ونقدية محفزة.
هذه الشهادات تلقي بالشبهة الكبيرة على الأهداف الخفية والأجندة غير
المعلنة لتلك المؤسسات، في دعم الأنظمة المنسلخة عن قيم الأمة ومبادئها
وأخلاقياتها. بل إن البنك الدولي سارع، وبعد أيام من تفجر الأحداث، إلى
منح تونس قرضًا بقيمة 41.6 مليون دولار لتمويل برنامج حكومي يستهدف تنمية
المناطق الجبلية في شمال غرب البلاد، فيما يبدو أنه محاولة عاجلة لمساعدة
الحكومة في مواجهة الغضب الشعبي.
* مقارنة بين النموذج التونسي الفاشل والمثال التركي الصاعد، تُظهر أن
المصالحة مع قيم الأمة وأخلاقياتها هو السبيل الأوحد للنهوض والإصلاح
الحقيقي. ففي تونس يخاصم الحكم القيم الإسلامية، ويحارب الحجاب، ويتقرب من
الصهاينة، ويفتح لهم أبواب البلاد على مصراعيها، فيما يخوض أردوغان ورفاقه
حروبًا ضروسة داخليًّا وخارجيًّا للعودة للمنابع، والسماح للتركيات بحرية
اختيار الحجاب، وتواجه أنقرة وبصلابة الوحشية الصهيونية في غزة، سياسيًّا
وإنسانيًّا. فهل يستطيع ابن علي أن يواجه الجماهير كما يفعل أوردغان؟ وهل
ثمة شك في أن النجاح يصنع من الداخل ومن خلال الاعتزاز بالذات واحترام قيم
الأمة وعدم مصادمة ثوابتها والتداول على السلطة وإطلاق الحريات العامة؟.
* لقد أصبح سيف الإرهاب ومكافحته مسلطًا علينا من الخارج ومن الداخل،
فمن الخارج أصبح مبرر الولايات المتحدة لغزو بلادنا وانتهاك سيادة الدول
بحجة مراقبة ومحاصرة المسلمين في أوربا. وفي الداخل أصبح هذا التسلط
ذريعةً للحكام الفاسدين لمحاربة شعوبهم ولمصادرة حقوقهم السياسية ولنيل
الدعم الغربي في تثبيت أركان حكمهم غير المستند على الخيار والقبول الشعبي