لم تزل الهيئات العلميّة تتحاور بشأن فرادة صنفنا البشري بين الثدييّات
الاجتماعيّة الأخرى في قدرته على تصوّر الحالات الذهنيّة – وقد تمتلك
أصنافٌ أخرى، كقرود الشيمبانزي والكلاب وطيور أبو زُريق النحيل والدلافين،
قدراتٍ متواضعةً في هذا الصدد. غير أنّنا، ومن غير ريب، الأفضل في مملكة
الحيوانات. فنحن علماء نفسيّون بالفطرة، منسجمون برقّة مع العالم النفسيّ
الخفيّ. إنّ تصوّر الحالات الذهنيّة أقرب لأن يكون علامة مسجّلة حظي بها
صنفنا كما هو المشي على رجلين وتعلّم اللغة ورعاية ذرّيتنا حتّى المراهقة.
لهذا الشكل من التفكير مصطلح علميّ هو "نظرية العقل" – وربما يسهل إدراكه
بالنظر إلى اجتهادنا في عقلنة سلوك غريب أو غير متوقع قام به شخص ما. فإن
رأيت مرّة امرأة تعسة الحظّ في متجر البقالة مرتدية ما كشف نصفها العلويّ
وجوربا من النايلون بنفسجيّا طويلا لفّها كإصبعي نقانق، أو رجلاً أصلعَ يضع
شعراً مستعاراً بدرجتين من اللون مالَ ثلاثة سنتمترات عن رأسه، وسألت نفسك
فيما كان يفكّر هؤلاء الناس أمام المرآة قبل مغادرة منازلهم، فإنّ هذه
لَإشارة خير على أنّ نظريتك الفكريّة (دون ذكر ما لديك من حسّ الموضة) تعمل
على أتمّ وجه. فحين يخالف الآخرون توقّعاتنا حول الاستواء أو يصدموننا
بتصرّفات تدهشنا، فإنّ نزعتنا إلى قراءة العقول تضاعف سرعتها. ونحن
-حرفيّا- "ننظّر" في العقول القابعة وراء ما يظهر لنا من سلوك.
يتمحور المغزى التطوّري لنظام قراءة العقول هذا حول سؤال ضخم واحد : هل
باستطاعة القدرة النفسية – أي نظرية العقل والتي ترى النفوس تشعّ من باطن
الآخرين، والأرواح تومض خلف العيون الدوّارة والأفكار في اضطراب حركتها –
أن تعيننا أخيراً على فهم ما معنى أن نكون بشراً؟ هل باستطاعتها إخبارنا
كيف نتبيّن المغزى في الكون؟
وكبشريّ، تميل إلى المغالاة في بسط نظريتك العقليّة على فئات لا تناسبها
حقيقةً، يتذكّر العديد بشغف الفيلم الكلاسيكي ("البالون الأحمر" 1956)
لصانع الأفلام الفرنسيّ ألبير لاموريس، حيث يصادقُ تلميذ مرهف الحسّ – وهو
في الحقيقة باسكال، ابن لاموريس، ذو الخمس سنين – بالوناً أحمر كرزياً
مملوءً بالهليوم ودوداً. ومع غياب الحوار، تلحق الكاميرا بالثنائيّ المرح،
الفتى والبالون، عبر شوارع الطبقة العاملة الكئيبة في حي مينيلمونتانت في
باريس، فيعاكس البالون الأحمر اللامع جوّ أوروبّا القديم الحزين بينما
يُظهر البالغون فتوراً ربما وصل إلى حدّ العدائيّة تجاه الاثنين، غافلين عن
اللاحيّ الذي، وكما بدا، بُعثت فيه الرّوح بفعل غاز بارع. أخيراً، تحاصر
الفتى جمهرة من الأطفال عديمي الرحمة راشقةً البالون "الحنون" بالحجارة، ما
انتهى بتفجيره.
تعطي حبكة "البالون الأحمر" مثالاً عن كيفية تحوّل أدمغتنا المتطوّرة إلى
مصافَّ اجتماعية مغالية، حتى أنّ نظريتنا العقلية لا تنطبق فقط على ما في
عقول غيرنا من البشر والحيوانات، بل أيضاً، وعلى طريق الخطأ، على أصناف لا
تقوم بأيّ عمليات عقلية البتّة، كجلد نشط من البلاستيك مُلئ داخله بالغاز.
ولولا نظريتنا العقلية، لما كان باستطاعتنا اللحاق ببنية الفيلم، دون ذكر
الاستمتاع بتحفة لاموريس المميّزة عن الواقعية السحرية. وعندما يحوم
البالون خارج شقّة باسكال بعد محاولة جدّته التخلّص منه، نتنبّه إلى وجود
شخصية ساحرة "ترغب" في التواجد مع الفتى و"تحاول" النفاذ بنفسها خارج سور
النافذة : فهي "ترى" باسكال و"تعرف" أنه بالداخل. وبهذا تنطبق نظريتنا
العقلية أيضاً على مثل هذه الحالات التي يتعذّر فيها رؤية المشهد من ناحية
أخرى. وفي الحقيقة، يعود جزءٌ ممّا يجعل الفيلم ذا أثر كبير إلى أنّ الفتى
الصغير في الدور الأساسيّ مؤمن بأنّ البالون حيّ. "كان البالون الأحمر
صديقي"، هذا ما كرّره باسكال لاموريس البالغ في مقابلة معه سنة 2007.
"وعندما سأله المراسل" هل شعرت بهذا عندما صوّرت الفيلم؟" كان جوابه :
"نعم، نعم فقد كانت شخصية واقعية لها روحها الخاصة."
وكنتيجة أكيدة لتطوّر عقل البشر الاجتماعيّ، وبمقتضى الأهمّية التي
تحتلّها مهارات نظريتنا العقلية في هذا التطوّر، ليس بمقدورنا إلا أن نرى
النوايا والرغبات والمعتقدات، من آن لآخر، في أشياء ليس فيها أيّ ذرّة من
نظام عصبيّ. وعلى وجه التخصيص، حين تصدر عن المواد اللاحيّة أشياء
لامتوقّعة، قد نقوم بعقلنة ما نراه كما نفعل مع تصرّف أو سوء تصرّف غريب
لدى البشر. ولا بدّ أنّ ما يجاوز القليل منّا قام بركل سيارته المعطّلة في
جانبها أو وجّه الشتائم لحاسوبه غير ذي الحيلة. وقد يتوقّف معظمنا لوهلة عن
الإيمان الحقيقي بأنّ لهذه الجمادات حالاتها الذهنية – وفي الواقع إن
فكّرنا في نواياها الشرّيرة جدّياً، لقمنا بجرّها إلى مأوىً ما – غير أنّ
الظاهر أنّ عواطفنا وتصرّفاتنا تجاه مثل هذه الأشياء تخون تفكيرنا اللاواعي
البدائي : فنتصرّف وكأنها غير ملامة أخلاقياً على أفعالها.
وصل بعض المحللين النفسيين التطوّريين إلى الاعتقاد بأنّ هذه النزعة
الإدراكية لرؤية النوايا في المواد الجامدة – وبذا تشكيل نظرية عقلية
مبدئية – قد توجد في الوليد ذي الأشهر القليلة. خذ مثلاً عندما لاحظ
المحلّلان الهنغاريان جيورجي جيرجاي وجيرجاي سيبرا من الجامعة الأوروبية
المركزية في بودابست أنّ الأطفال، واعتماداً على ردود أفعالهم في التحديق،
يتصرّفون باندهاش عند رؤيتهم لنقطة ما على شاشة الحاسوب مستمرّة في القفز
قبالة مساحة خالية بعدما أزيل من أمامها حاجز سدّ طريقها. وكأن الطفل يحاول
فهم سبب تصرّف هذه النقطة كما لو كانت "تظنّ" أنّ الحاجز موجود. وعلى
النقيض، لا يبدو الأطفال مهتمّين – أي أنهم لا يحدّقون بدهشة – عندما
تتوقّف النقطة أمام الحاجز، أو تتابع طريقها بعد إزاحته.
بأية حال، يعدّ المثال الأشهر على هذه الظاهرة الإدراكية في رؤية العقول
ضمن الأشياء اللاحيّة، هو بحث نشر في صحيفة "أميريكان جورنال أوف
سايكولوجي" سنة 1944 أجراه الباحثان النمساويان فريتز هيدر وماري آن سيمل.
فقد قدّما فيلم رسوم متحرّكة مبسّطا يصوّر ثلاثة أشكال بيضاء وسوداء متحركة
: مثلثاً كبيراً وآخر صغيراً ودائرة صغيرة. شاهد المشاركون الأشكال تتحرّك
عبر الشاشة مدة ثم سئلوا وصفاً عمّا شاهدوا. نسبَ معظمهم روايته إلى سلوك
بشريّ اجتماعيّ، فقال أحدهم مثلاً عند رؤيته للمثلّث الكبير "يتنمّر" على
الصغير "الجبان"، أنّ كليهما كان "ساعياً" وراء "عواطف" الدائرة "المؤنثة".
هكذا، قد يبدو أنّ امتلاك نظرية العقل كان مفيداً لأجدادنا في
تفسير تصرفات الآخرين والتكهّن بما طغى على عقولنا الاجتماعية المتطورة.
نتيجة لهذا، نقوم اليوم بالذهاب بعيداً في عزو حالاتنا الذهنية إلى أمور هي
في الحقيقة لا عقل لها البتة. وكلّ هذا يقودنا حكماً إلى سؤال هامّ جدّا :
ماذا لو أخبرتك أنّ حالات الله الذهنية، هي أيضاً في عقلك. لكأنّه نقطة
على طرف قرنيتك تسبّبت في ضباب الصورة، أو جرمٌ ليس في متناول يدك ويشاركك
كلّ حركة، أو في الحقيقة وهمٌ نفسيّ، أو آفة متطوّرة أصابت لبَّ قوام دماغك
الإدراكي؟ ولربما تحسّ بشيء أسمى فيه : الحراسة والعلم والعطاء. وقد تصل
إلى حدِّ الحُكم. غير أن الحقيقة تقول إنّ وراء هذا تقع نظرية العقل مفرطة
النشاط، كما يقول الواقع أن لا شيء حولنا سوى الهواء.
أخيراً، ما إن نقشط كل فسيفساء اللاهوتية، وننتف الريش التثاقفي الغريب
للمعتقدات الدينية في كل العالم، ما إن نكشف عن باطن الله، ألن يصبح هو
مجرّد عقل آخر– له عواطفه، معتقداته، معرفته، فهمه، وربما، وفوق كلّ ذلك،
نواياه؟ ألا يلعب رجال الدين دور مترجمي الله، ألم يكن كلّ كتاب مقدس سوى
تحليل نفسيّ مفصّل لله؟ وهذا الإدراك الدائم الغريب - عن كون الله خلقنا
"متعمّداً" كأفراد، و"أراد" منّا التصرّف بأشكال معينة، "مراقباً"
و"عالماً" بكل أفعالنا السرية، "يرسل" لنا الرسائل مرمّزة عبر أحداث
طبيعية، و"ينوي" ملاقاتنا بعد موتنا - ألا يكون أسلافنا القدماء
(البليستوسينيون) في العصر الأقرب الحديث قد اختبروا هذا الشعور بشكل ما؟
تأمّل، وباختصار، في تضمينات رؤية الله هكذا، كخربشة على عدساتنا النفسية
لا كرمز مبهم هناك في الجنّة كما يؤمن معظم الناس. ونحن محكومون بوجود الله
معنا، (قد يوافق البعض متضايقين) مستمرّاً في تخضيب تجاربنا بمعانٍ مراوغة
ومنحنا شعوراً بأنّ الكون يتواصل معنا بطرقٍ شتَّى. غير أن فكرة الله
كوهمٍ فكرة راديكالية، وربما يعتبرها البعض خطيرة أيضاً لأنها تثير التساؤل
حول كون الله مستقلاً بذاته، حرّاً يقطن خارج خلايا عقل البشر أو كونه
شبحاً طرحه صنفنا بنظريته العقلية المتطورة والاستثنائية ليحكم العالم.
وطالما أنّ العقل البشري، كأيّ عضو فيزيائيّ هو نتاج التطوّر، وطالما أن
الانتقاء الطبيعي يعمل دون اللجوء إلى التبصّر الفطن، فإنّ جهازنا العقليّ
تطوّر ليفكّر في الله دون الحاجة إلى مشاورته، إن وجد طبعاً.
مرة أخرى، لا يمكن للمرء إلغاء احتمال كون الله هندس –وبدقّة- تطوّر العقل
البشريّ حتى نراه بشكل أوضح، كنوع من عمليات اللايزك الإلهية، أو إزالة
النظرة الوحشية التي تغيّم على عقول الحيوانات الأخرى.
وبكلا الطريقين، فقد خبزت هذه المقدرة الإدراكية، نظرية العقل، نفسها في
رؤوسنا عندما يتعلّق الأمر بتأمّلنا في أكبر أسئلة الحياة. وبخلاف أيّ جيل
متنوّر علميّ سابق، نمتلك نحن الأدوات الفكرية كيما نلاحظ عمل عقولنا ونفهم
كيف وجد الله. ولنا نحن وحدنا من الاتزان لنسأل، "هل تحايل تطوّر صنفنا
الفريد الإدراكي علينا كي نؤمن بذلك، أعظم العقول على الإطلاق؟."