بداية يمكننا القول أن الغاية
الأساسية لهذه المحاضرة التي يحمل عنوانها ميدان أوسع بكثير من الوقت
المخصص لإلقائها أو لكتابتها، هي محاولة وضع خطوط عامة لمعنى فلسفي علمي،
هو من أشد المعاني المنهجية إشكالا و تداخلاً على الرغم من البساطة
الظاهرة لمسماه، هذا المعنى عبر عنه مصطلح القانون .
تلك
الإشكالية جاءت أولاً من حيث التصور، فتصور القانون عند الفلاسفة قد
يختلف جوهرياً عن تصور الفيزيائيين لا سيما المعاصرين له، ففي الفلسفة نجد
القانون يعبر غالباً عن كل ما هو سببي النتائج تنبؤي الاتجاه، و بالتالي
إذا ما تحدث الفيلسوف عن الفوضى فإنه يعني بذلك كل ما يخرج عن الإطار
التعريفي للقانون السببي، و كل ما ليس بالإمكان معرفته من حيث المبدأ،
ومن ثم كل ما ينتمي إلى دائرة الارتياب و الشك غير المعروف حتى لحظة صياغته
.
أما في العلم لا سيما الفيزياء، نجد مفهوم
اللامتعين قد دخل في صلب الفهم العلمي للقانون، دون أن يعني ذلك التناقض
بين المفهومين، حيث أصبح من الطبيعي أن تدخل جمل لاسببية و إحصائية في
صياغة القوانين العلمية في الفيزياء الحديثة .
و
بالمقابل يمكننا التحدث عن وجود بعض التقابل بين الإشكاليات المعرفية في
الفلسفة و ما يوازيها و إن بشكل خارجي من التصورات الفيزيائية، فكانط الذي
أكد عدم قدرة العقل المحض معرفة الظواهر في ذاتها، أو الغير ملموسة
بالمعنى الميتافيزيقي، قد يتقابل مع مبدأ هايزنبرغ في الارتياب القائم على
فكرة عدم إمكانية المعرفة الدقيقة لموقع و حركة العناصر في عالم ما تحت
الظواهر الميكروسكوبية . فالفيزيائيين يحملون بطبيعة عملهم نوعاً من
الفلسفة العملية، و هو لدى معظمهم شعور تقريبي جاهز بالحقيقة الواقعية،
أي اعتقاد بالواقعية الموضوعية لأسس نظرياتهم العلمية، و مع ذلك فإن طريقة
اقتناعهم و حسهم النقدي يسير بشكل مخالف تماماً للطريقة التي يتبعها
الفلاسفة الذين يبتعدون عن المنحى المباشر التجريبي في تحليلاتهم للعلم،
فهناك فرق بين اكتشاف القوانين علمياً و تقويمها الفلسفي، العملية الأولى
لا يقوم بها إلا العالم، و الثانية خاصة بالفيلسوف . دون أن يؤثر ذلك
بالضرورة على مسيرة العالم التجريبية أو تصوره لبنية العالم، لذلك نجد
معزى في قول فيلسوف العلم فيتجنشتين أن لا شيء يبدو لي أقل احتمالاً من أن
يتأثر عن قناعة، أحد العلميين أو الرياضيين في طريقة ممارسة عمله، بما
يقرؤه في كتاباتي .
و بطبيعة الحال نجد كافة
الكتب العلمية المشهورة و غير المشهورة تقريباً - التي تناولت فلسفة العلم -
قد كتبت عن بديهية - أو مسلمة بتعبير آخر – أن هناك قانون يكمن وراء
الواقع المألوف لدينا، و ليس من الضروري أن تكون تلك القوانين مفهومة
تماماً أو ذات إيقاع سببي معروف، إذ يكفي أن تشعرنا بالاطمئنان حول
مشروعية وجودنا في الكون الكبير، حتى تغرينا بصدقها، إنها كعروق الذهب،
حيث العلماء هم المعدنّون الذين يستخرجون تلك الخامات . و رؤية العالم
الموضوعي، المحكوم بقوانين مثالية للطبيعة، توجد بطريقة ما في دائرة وراء
المكان و الزمان العاديين، عميقة، و قد أقول أنها ذات بنية لاشعورية
بالمعنى الجمعي – عند معظم العلماء، حتى أكثرهم تشككاً . . و لا بد من لفت
النظر إلى أن الاعتقاد السائد بيننا اليوم هو أن قوانين الفيزياء المعتمدة
تتخلل جنبات الكون بشكل كامل، بحيث أن نفس القوانين التي سادت لحظة الخلق
هي التي تتواجد حالياً، و هذا الاعتقاد يبقى رغم كل شيء عبارة عن فرضية
علمية، ظل العلماء و لا يزالون يسعون إلى إيجاد إثباتات لها عن طريق
الملاحظة . و قد لا يكون في الواقع، هناك قانون لنظام كوني موجود مسبقاً و
بانتظار أن يُكتشف، فالأنظمة التي نقع عليها بالمصادفة، على الأقل
جزئياً، تعتمد على العدسات التي نستخدمها، فنحن نأخذ سلسلة بيانات، و
نضعها على رسم بياني، و نعبث بالمقاييس و الأبعاد، حتى نكتشف بالمصادفة
شكلاً مقوساً، جاذباً، و طبعاً – هناك بعض النقاط ستقع خارج تصميمنا
المُدرك، و لهذا نسميها خطأً تجريبياً، أي ضوضاء و خلفية .
و
الحديث عن حقائق أكثر أساسية قد يثير أعصاب الفلاسفة، و نحن نقول أن
الحقائق الأكثر أساسية هي تلك التي – بمعنى ما - أشمل من سواها، و لكن من
الصعب أيضاً أن نكون أكثر دقة بهذا الخصوص، ، و رجال العلم كانوا سيسلكون
طريقاً سيئاً لو أنهم اقتصروا على الأفكار التي يصوغها الفلاسفة صياغة
مرضية، و لن تجد فيزيائياً ممارساً واحداً يشك في أن قوانين نيوتن أكثر
أساسية من قوانين كبلر، أو أن نظرية أينشتاين الفوتونية أكثر أساسية من
نظرية بلانك في الإشعاع الحراري، كما أن تسلل الطوارئ التاريخية – أي
الأحداث المتعاقبة بلا سبب واضح – إلى قلب العلوم، يعني أننا يجب أن ننتبه
إلى نوع من التفسيرات التي نتوخاها من قوانيننا النهائية، فعندما بدأ
نيوتن مثلاً باختراع قوانينه الحركية و الثقالية واجه اعتراضاً يقول بأن
هذه القوانين لا تفسر ما نراه من استقرار في سلوك المنظومة الشمسية، أي
سبب دوران الكواكب كلها حول الشمس باتجاه واحد، و لكننا نعلم اليوم أن
السبب تاريخي، فطريقة دوران الكواكب حول الشمس ناجمة عن سبب خاص هو أن
المنظومة الشمسية تشكلت بتكاثف قرص غازي دوار، و ليس من توقعاتنا أن نكون
قادرين على استنتاج ذلك من قوانين الحركة و الثقالة و حسب، فاستقلال
القوانين عن التاريخ قضية مربكة نحاول تعلم كيفية التعامل معها، و من
الصعب أن نتصور أننا نستطيع أن نمتلك ذات يوم مبادئ فيزيائية نهائية ليس
لها أي تعليل يستند إلى مبدأ أعمق، فالعديد من المفكرين يعتقدون أن من
المسلم به أن نجد بدلاً من ذلك سلسلة لا نهاية لها من المبادئ الأعمق،
فالأعمق، حيث رفض فيلسوف العلم بوبر فكرة تفسير نهائي، مقابل التمسك
بالفكرة القائلة أن كل تفسير يمكن أن يتفسر بعدئذ بنظرية أو حدس ذي شمولية
أوسع، إذ لا يمكن أن يوجد تفسير لا يحتاج إلى تفسير أعمق .
و
الأكيد أن قوانين الطبيعة هي صياغات و ابتكارات بشرية، ، لكنها ابتكارات
تتصل و تكشف عن وقائع ما موضوعية نستطيع التنبؤ بسلوكها من حيث المبدأ، و
على ذلك فإن كل قوانيننا العلمية تصف جمل فيزيائية تتفاعل مع وعينا، و نحن
دائماً نتعامل مع وقائع مؤثرة سواء أكان هذا التأثير لا يمكن فهمه إلا
بالمعنى الإحصائي، أو الحتمي التنبؤي اليقيني، و بدون ذلك التأثير لا
يمكن التمييز بين البحث العلمي و الفكر الخيالي الجامع للتصوف أو الدين . و
أمر مهم أن ندرك أن القوانين بذاتها لا تصف العالم تماماً، فالهدف الكلي
من صياغتنا للقوانين هو ربط أحداث فيزيائية مختلفة . لذلك يرى جون بارو أن
نظرية كل شيء بعيدة عن أن تكون كافية للكشف عن غوامض كون مثل كوننا، إذ لا
توجد معادلة تستطيع أن تقدم كل الحقيقة، و كل انسجام، و كل بساطة، فلن
تستطيع نظرية كل شيء أن تقدم بصيرة إجمالية أبداً، لأن أن نرى من خلال كل
شيء، سيجعلنا نرى لا شيء على الإطلاق .فليس هناك سبب جوهري تام المنطقية
في الكون يفسر لماذا ينبغي أن يوجد على الإطلاق، أو لماذا يجب أن يكون كما
هو عليه فعلاً، و بالتالي فإننا نخدع أنفسنا إن اعتقدنا اعتقاد اسبينوزا و
لايبنتز، من أننا نستطيع أن نتأكد أن الكون لم يكن بوسعه إلا أن يكون كما
هو عليه فقط .
و قد يكون للتصورات الاعتباطية
ذات الطابع السيكولوجي أحياناً دوراً في استمرارية بعض القوانين و صعودها
السريع، و تغير قوانين أخرى لا تقل عنها صحة، فقد ظلت النظرية النسبية
العامة مدة أربعين عاماً مقبولة عموماً كنظرية صحيحة في الثقالة رغم ضعف
البرهان التجريبي عليها، حيث هناك من شكك في صحة إثباتات إدينغتون على صحة
النظرية النسبية العامة، و السبب هو أن النظرية كانت مُغرية بجمالها، و
في المقابل، كان الالكتروديناميك الكمومي مدعوماً منذ البداية بالكثير من
المعطيات التجريبية، و لكنه ظل مشوباً بنظرة شك لمدة عشرين عاماً بسبب
تناقض نظري داخلي كان يبدو أن حله غير ممكن إلا بطريقة مستهجنة . و نحن
لدينا، في طرف، القوانين الأساسية للفيزياء، لكننا نخترع مفاهيم تقريبية
تتفسر في النهاية، أو هكذا نتوقع، بتداخل القوانين الأساسية، كمفهوم
الحرارة مثلاً، فالحرارة ليست سوى هياج، و قولنا أن جسم ما حاراً يعني
بكل بساطة، أن كوماً من الذرات في حالة هياج، لكن عندما نتكلم عن
الحرارة، يمكن أن ننسى، لفترة، هياج الذرات، و كذلك مفاهيم أخرى كالضغط
و الكثافة و الحجم …. فالقانون يكون عديم الفائدة إذا كنا لا نعرف الشروط
الابتدائية، و لكن من أين جاءت الشروط الابتدائية ؟ نحن نقيسها طبعاً، و
لكن ماذا لو أردنا شرحاً حول كيف تنشأ، ففي حالة الأرض مثلاً، يمكن أن
نقتفي أثر الشروط الابتدائية رجوعاً إلى الحركة الدوامية لسحابة الغبار
الكوني التي يُقال أن النظام الشمسي تجمد منها، و إذا أردنا أن نعرف لماذا
كانت السحابة تتحرك بتلك الطريقة، فإنه يجب أن نستقرئ رجوعاً إلى زمن
أبعد، و صولاً في النهاية إلى الانفجار الكوني الكبير، و علينا دائماً أن
نتوقف في مكان ما و نأخذ الشروط كمعلوم، و بخلاف ذلك، يجب أن يدخل تاريخ
الكون في كل حساب بحث ندفع فيه إلى شبكة واسعة من الاحتمالات . و لكن كيف
يجب أن نعتبر الشروط الابتدائية للكون، للانفجار الكبير نفسه ؟ هنا آخر
الشوط، حيث يجب أن تنتهي كل التراجحات، فالكون، بالتعريف، هو كل شيء، و
لا شيء آخر خارجه، و على ذلك يجب أن تكون الشروط الابتدائية جزءاً من
القوانين الأساسية . و بهذا الصدد يقول فاينمان : افترضوا أنكم اخترعتم
نظرية، فحسبتم نتائجها، ثم اكتشفتم في كل مرة أن هذه النتائج تتفق مع
التجربة، فهل هذه النظرية صحيحة ؟ كلا، و كل ما هنالك أنكم لم تستطيعوا
اثبات خطئها، فقد تحسبون منها، فيما بعد، تشكيلة من النتائج أكبر عدداً،
و قد يكون لديكم إمكانية إجراء تشكيلة أخرى من التجارب، و عندها قد يحدث
أن تكتشفوا أن هذه النظرية خاطئة . و من هنا قد نفهم لماذا تستمر صحة بعض
القوانين كقوانين نيوتن في الحركة، لقد ضمن نيوتن قانون التثاقل و حسب كل
ما ينتج عنه، ثم قارن ذلك بالتجربة، و قد مرت مئات السنين قبل أن يكتشف
تجريبياً الفرق الضئيل في حركة عطارد، فخلال هذه المدة كلها لم يمكن إثبات
خطأ هذه النظرية، و اعتبرت صالحة بصورة مؤقتة، و لكن لم يكن البرهان
أبداً على أنها صحيحة بالمطلق، لأن التجربة القادمة قد تنجح في إثبات خطأ
نظرية كان يُعتقد أنها صحيحة، فلا مجال إذاً أبداً للتأكد المطلق من حجة
آرائنا، و كل ما يمكن تأكيده هو إمكانية الخطأ، و المدهش، مع ذلك، هو
أننا لا نزال نملك نظريات تدوم و تصمد كل هذا الوقت . هذا الصمود يفسره
الطابع التجريبي أو العقلاني الذين يخلقا مشروعية بقاء القانون، فمن جهة
أولى نجد أنه من البديهي أن يتأسس المنهج التجريبي الذي وضع أسسه بيكون و
ميل، على المبادئ المثالية، كمبدأ العلية، و اطراد الحوادث، و الحتمية،
فنحن هنا إزاء استدلال ننطلق فيه من حالات خاصة لنقر بضرورة يقينية حالة
عامة نسميها قانوناً، و هذا يستدعي بالطبع التسليم بعلاقة العلية بين
المقدمات و النتائج، و بأن جميع الحوادث منتظمة، و متجانسة، و إلا لما
كان ممكناً الوصول إلى النتيجة النهائية، و كذلك فإن الحتمية ضرورة على
هذا المستوى، و ذلك لأننا نعتبر بلا جدال أن النتيجة يقينية، هذا المبدأ
الفلسفي سار عليه كبار العلماء أمثال غاليليو و نيوتن، و هو ما سار عليه
قديماً أبقراط المعاصر لأفلاطون، في أبحاثه الطبية، و اقترب منه أرسطو في
المنهج الاستقرائي الذي ابتدعه، و لكن هل يكفي هذا المنهج لتبني يقينية
قانون ما ؟ يقول دوهيم : إن التناقض التجريبي لا يملك القوة التي تجعله
قادراً على تحويل فرض فيزيائي إلى حقيقة لا تقبل الجدل، و لكي نمنحه هذه
القوة، من الضروري أن نسرد كل الفروض المختلفة التي يُحتمل أن تغطي مجموعة
من الظواهر، لكن عالم الفيزياء لن يكون متيقناً من أنه استنفذ كل
الافتراضات المتخلية، و هنا نجد أهمية الدعم النظري العقلاني المجرد لتبني
و صمود القوانين التي ندعوها أساسية، فمنذ إدخال الرياضيات إلى الفيزياء
اقتربت القوانين من الصورة الرياضية المجردة أكثر و أكثر، و غاليليو يقول
بأن كتاب الطبيعة مكتوب بالغة الرياضية، و نيوتن يسمي أهم كتبه باسم
المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية، إذ أدخل الرياضيات على مفاهيم الزمان و
المكان و الحركة و الكتلة و الجاذبية، و استمر الأمر حتى الثورات
الفيزيائية الحديثة، مع فارق هو إدخال رياضيات جديدة تعتمد حساب الاحتمال و
الهندسات اللاإقليدية، و توازى ذلك مع تراجع في التجريبية الصارمة عند
أقطاب الفيزياء المعاصرين أمثال أينشتاين و بور و هايزنبرغ و فاينمان و
هوكنغ، الذين استخدموا منهج يسمى بالفرضيات الاستنباطية الذي يلغي تماماً
الواقع التجريبي، و يجعله يقتصر على تطبيقات تتبع تصورات مجردة توسع مجال
الاحتمالات بتنوع الإمكانات النظرية للفرضية الموجودة .
و
قد جلب نهوض العلم و عصر العقل معه، فكرة نظام خفي في الطبيعة، نظام
رياضي بإمكان الكشف عنه من خلال الدراسة المجردة الدقيقة، فمثلاً يستطيع
أي شخص أن يرى أن التفاحة تسقط، لكن قانون المربع المقلوب في الجاذبية
لنيوتن يتطلب قياساً منهجياُ خاصاً قبل أن يتبدى، كما أنه يطالب بنوع من
إطار نظري صرف ذي طبيعة رياضية، فلكي نفهم البيانات التي تجمعها حواسنا،
يجب أن ننسجها في إطار من الفهم يتطلب خطوة وسيطة نسميها نظرية، و بذلك
نقول أن قوانين الطبيعة مشفرة، و عمل العالم هو فك تلك الشيفرة الكونية . و
هذا بالضبط ما تصوره أفلاطون و غاليليو وديكارت، و علماء الكم، و
أينشتاين الذي أكد أن ملاحظاتنا المباشرة للأحداث في العالم ليست عموماً،
مفهومة، لكن يجب ربطها بطبقة من نظرية كامنة . عن وعينا تنتظر أن يكشف
عليها هذا الوعي ؟ أم أن القوانين ليست سوى تصور أداتي اتفاقي لعالم مضطرب
يحاول الوعي تأطيره ضمن إطار مفهوم منظم و لو إلى حين ؟ و نحن بوسائلنا
الناقصة، ربما نتقدم ببطء و اطراد نحو صورة أفضل للعالم دون الذري، و هو
حقل غريب جداً حتى أنه من المدهش ألا تستطيع عقولنا الدخول إليه البتة، و
الفيزيائيون يدركون تماماً أن أدواتهم ليست نوافذ شفافة على الطبيعة، و
عندما نبتعد أكثر و أكثر عن الظاهرة اليومية التي هي غامضة بما فيه
الكفاية، لدراسة الحوادث التي تدوم لأجزاء من الميكرو ثانية – فقط في ظل
ظروف موجهة بصورة أكثر مثابرة، فإن اكتشاف هذه الأنظمة المحجوبة يتطلب
إيماناً، أو تسليماً، بالإضافة على البراعة، هذا الإيمان تدفعه عاطفة
عالمية لاكتشاف تماثل في العالم . و مهما يكن من أمر، فإن قوانين الفيزياء
لا تتيح الرجوع إلى ما هو أبعد من الطور البدئي للانفجار الكوني العظيم،
إنها تقدمه لنا على أنه جدار للتاريخ، لا يمكن أن نتعداه، و عبره انقضّ
الزمان . فيما يتجاوز شبه التفرد البدئي هذا، لا يوجد اتجاه متميز، و لا
بنية يمكن أن نتتبع آثارها، و أن نعيد تمثيل التاريخ، فالزمان يتشعشع و
يضمحل .
و إدخال الثوابت الرياضية إلى الفيزياء
منحها أداة ليس للتنظيم و حسب، بل للتنبؤ أيضاً، حيث أكسبت علم الفيزياء
القدرة على التنبؤ بالمستقبل، فإذا كان من الممكن تصور القوانين
الفيزيائية على أنها علاقات رياضية، و إذا اتضح أن المناهج الاستنباطية
أدوات للتنبؤ الدقيق، عندئذ يكون من الضروري وجود نظام رياضي من وراء عدم
الانتظام البادي للتجارب . و لا يمكن إنكار أن نسبة كبيرة من الرياضيين و
الفيزيائيين يفكرون بطريقة أفلاطون الرياضية في فهم العالم، فهم يفكرون في
العالم بوصفه بنية محكومة بدقة طبقاً لقوانين رياضية أبدية، و بذلك فهم
يفضلون التفكير في العالم الفيزيائي على نحو ملائم، باعتباره ناشئاً من
عالم الرياضيات، و كلما زاد فهمنا للعالم الفيزيائي و تعمق بحثنا في
قوانين الطبيعة، بدا لنا بصورة أكثر وضوحاً كما لو أن العالم الفيزيائي
بدأ في التلاشي تقريباً، و لا يتبقى لنا إلا التعامل مع الرياضيات .
و
ما نستنتجه من ذلك، هو أن الاستقراء ليس كل شيء لبناء القانون، إذ لا بد
من أخذ الحدوس الفرضية و الرغبة النظرية في الاعتبار، فنحن نعرف على سبيل
المثال أن كوبرنيكوس عند وضعه لفرضية دوران الأرض حول الشمس لم يقم
بالكثير من الملاحظات، و هو لم يكن كعالم فلك تستهويه الملاحظة كثيراً، و
كتابه الرئيسي حول دوران الأجرام السماوية، يحتوي 27 ملاحظة فقط قام بها
بنفسه، و لا يبدو أن واحدة من تلك الملاحظات كان لها أي تأثير في تكوين
فرضيته الجديدة، بل ما حفزه هو عدم اقتناعه بفرضيات بطليموس، و تأثره بما
قرأ من نصوص يونانية فيثاغورية حول إمكانية دوران الأرض حول الشمس . و قد
كان كمال الفيزياء الكلاسيكية، من المنظور الفلسفي، كامن في ترتيبها
للخبرات، بافتراض وجود حوادث موضوعية في الزمان و المكان، إذ تقدم
الفيزياء الكلاسيكية بشكل ما، أوضح تعبير لمفهوم المادة في كونها تحاول أن
تجعل وصف العالم أكثر ما يكون استقلالاً عن خبراتنا الذاتية، و لهذا
السبب فإن مفاهيمها و قوانينها العامة تظل الأساس لأي علم مضبوط و موضوعي .
و الفيزياء الحديثة، عندما رفضت هذا الفصل القائم بين الذات و الموضوع في
دراسات الحقائق الفيزيائية، تكون قد أعادت تصورنا لبنية الفهم العلمي إن
لم تكن قد قلبته تماماً من معرفة العالم إلى معرفة ضمن العالم .
و
عند وضعنا لقوانين الفيزياء نجد أنفسنا نتعامل مع نهجين قبليين ذوي
منطلقين مختلفين، هما : منهج النماذج المادية الميكانيكية، و منهج
الرياضيات المجردة، و قد عملت النماذج المادية بشكل رائع في تطوير
الفيزياء الذرية إلى قرابة عام 1925، و لكن ثبت عدم فعاليتها بعد ذلك،
مفسحة الطريق أمام الرياضيات البحتة، و لم تعمل الرياضيات المجردة بدورها
بصورة جيدة في هذا المجال قبل عام 1925، و هو أمر زمن بين أشياء أخرى،
برهنت عليها الأعمال العلمية الخاصة بأبحاث الفيزياء، و بالمقابل صارت
النماذج المادية غير فعالة تماماً بعد عام 1925، أي بعد الثورات الحقيقية
لفيزياء الكم عند هايزنبرغ و شرودنغر و ديراك .
و
قد قدم لنا التاريخ صوراً فيزيائية كثيرة للنظام العقلاني الكامن في
العالم، العالم كمظهر لأشكال هندسية كاملة، كعضوية حية، كآلية مماثلة
لآلة الساعة، و حديثاً مثل حاسوب عملاق، تلتقط هذه الصور جانباً أساسياً
من الواقع، المنعكس في ذهننا، علماً أن كلاً منها يشكو من نقص خاص به،
محوره أنها جميعها تحاول أن تختزل التنوع اللامتناهي للكون، إلى تصور
أحادي السبب ميكانيكي خاضع للإنسان، و هذه الرغبة بدأت منذ بداية التفكير
الفلسفي في المادة حيث سعى الفلاسفة الإغريق لإيجاد سبيل لصياغة محاكمة
عقلية بشرية عن طريق تقديم قواعد استنباط منطقية لا يمكن مهاجمتها، إذ أمل
هؤلاء من خلال تلك القواعد إزالة الإرباك و سوء الفهم و الخصومة التي تسم
الشؤون البشرية عن طريق الإلتزام بخطوات متفق عليها في النقاش العقلي، و
الهدف النهائي لهذه الخطة كان الوصول إلى مجموعة افتراضات أو بديهيات (
نسميها اليوم قوانين )، يقبلها جميع الناس العاقلين، و منها ينساب حسم
جميع النزاعات، و ما ينبغي قوله أن الرغبة وحدها لا تكفي، لأن صياغة
بديهية نفسه قد يخضع لمنطق عقلي متبدل، فالعالم الحديث ما زال متنوع في
معتقداته أكثر من أي وقت مضى . فطاليس يبحث عن الشيء الحقيقي الذي يكمن خلف
الظواهر بانطلاقه من الماء كأصل للأشياء و حقائقها المختلفة، أما
إنكسمندر فقد اختار عنصر الأبيرون ( اللامتعين )، و لعله بذلك يكون أول من
تحدث عن أصل مخفي غير محدد لظواهر بأسلوب أقرب إلى التفسير الفلسفي
المادي، ثم أنيكسمنس الذي اختار الهواء، و على الجملة فقد افترض جميع
فلاسفة الطبيعة الأوائل، أن لا شيء يأتي من عدم، و أن أصل العالم مبدأ
واحد أبدي . و هم في تصوراتهم يرفضون بالأعم الأغلب وجود المصادفة،
فلوقيبوس واضع أسس المذهب الذري بمعناه الفلسفي أكد على أن لا شيء يحدث من
لا شيء، و لكن كل شيء يحدث من أساس و من ضرورة، فالضرورة هي العلة
المحركة، و هو هنا يرمز إلى الفكرة المألوفة لدينا عن القانون الطبيعي، و
هو أن المبدأ المسيطر النهائي، هو إتباع كل شيء بقوانينه الخاصة بوجوده،
و هذا ما أكد عليه ديمقريطس عندما أكد أن العالم محكوم بقانون خاص و لا
شيء آخر . و الشيء الأصيل في المدرسة اليونانية، هو أنها عندما حاولت أن
تفسر غرائب الكون و ظواهر السماء، فعلت ذلك بدلالة ما هو موجود على الأرض،
حيث أرجع طاليس الوجود للماء و إنكسمندر لمادة غير متعينة و إنكسمانس
للهواء، ثم جاء هيرقليطس الذي أكد على أسبقية النار في تصوره لكون يحكمه
مفاهيم التغير و المادة المتحركة التي تمثلها النار أبدية التغير . و كذلك
فعل فيثاغورس الذي و على الرغم من أنه كان من كبار الفلاسفة التجريبيين،
فإنه أدخل المفهوم المجرد للقوانين الكونية عندما اعتبر أن العدد هو المبدأ
الأول للعالم، و الأعداد عنده هي مفتاح لفهم الكون، و بذلك يكون قد ادخل
القياس في العلم الطبيعي عندما اكتشف أن الأوتار تربطها علاقة تناسب بسيط
تحدث أنغام موسيقية منتظمة، مما جعله يربط الاتساق و التناغم بالنسب
العددية و بالتالي بالأشكال الهندسية .
أما
أفلاطون فكان يائساً من اليقين في العلوم الطبيعية لاعتماد تحصيلها على
الحواس، لذلك يرفضها و يقضي بعدم جوازها، لأن العلم فيها لا يعدو الظن و
الاحتمال، فالعلم عنده لا يكون علماً إلا إذا كان علماً عقلياً من خلال
الرياضيات و الميتافيزيقا . أما أرسطو فقد رد معنى القانون ( الذي لا يمكن
فهمه هنا بالمعنى العلمي الحديث، بل يمكن اعتباره مرادفاً لمفهوم السبب )
كبنية، إلى أساس غائي يعتمد مبدأً داخلياً للحركة، لذلك نجده عندما يبحث
عن تفسير علمي لسقوط حجر على الأرض لا يجد ما يقوله لنا إلا أن هذه هي
طبيعته، و هي إجابة لا تخرج كثيراً عن القول بأنها إرادة إلهية . فإذا كان
جوهر العلم عند أفلاطون هو الجدلية التي تمثل أرقى و أكمل المعارف على
الإطلاق، تلك الجدلية تمثل المعارف المطلقة، و يتم التمهيد لها بواسطة
علوم ثانوية كالحساب و الهندسة و الفلك، فإن أرسطو يرى أن ماهية العلم
تفرض الضرورة و الأبدية، أي اليقين، فالعلم عنده هو ألا تقول عبثاً، و
قد هيمن هذان التصوران على العقول مدة طويلة من الزمن، لكن الأمور ستتغير
على مستوى العلم الصحيح الذي تخلى أخيراً عن فكرتي اليقين و الكمال .
و
قد تعامل العلماء الهلنستيون بما فيهم بطليموس مع المشاكل الفلكية و
الفيزيائية التي طرحها أرسطو تعاملاً رياضياً بالأساس، و تجلى ذلك في
محاولة ترميم و إصلاح الفلك الأرسطي، قصد التغلب على عدم الضبط الحسابي
الذي يطبعه، مما أدى إلى ظهور نوع من الفصل و التمييز بين علم الفلك كأداة
رياضية حسابية، و النظرة الفلسفية للكون، و هذا مهد بدوره الطريق أمام
علماء العصور الوسطى كي يدخلوا تنقيحات و إصلاحات على الفلك الأرسطي و ما
تمخض عن ذلك من الانقلاب الذي أحدثه كوبرنيكوس، الذي و تحت تأثير المزاج
العام للمفهوم الغائي للقوانين لم يكن يرغب بالخروج التام عن المفهوم
الأرسطي لعالم ثابت منظم، إلا بفرضية أن الشمس – بدل الأرض – هي مركز
الكون، و بذلك يكون من خلال ثورته حاول أن يبرز الوفاء لمبدأ الحركة
الأرسطية المنتظمة و الدائرية للأجسام السماوية التي تمثل حسب التقليد
الأرسطي أمثل الحركات و أبسطها، كذلك ظل كبلر وفياً للفيثاغورية و
الأفلاطونية المحدثة حتى في أكثر مؤلفاته علمية، فالشمس توجد في وسط
الكون، و هي على حركات الكواكب التي تدور حولها باستمرار، و هذا جعله
يتصور أن للكواكب و الشمس روحاً هي التي تمنحها القدرة على الحركة الدائمة
التي لا تعرف انقطاعاً أو توقفاً، هذه الروح ذات طبيعة مغناطيسية، هذا
التصور يقودنا لاستنتاج هام هو أن العلم الحديث و أعلامه عند وضعهم
للقوانين ذات الصيغة الشمولية الآلية، لم يكن وضعهم لها وليد إنكباب على
الخبرة و التجربة و إنصات لمعطياتها، بل جاء وليد الرغبة العارمة في إعادة
التفكير في تلك المعطيات، و في العالم ككل من منظار رياضي قبلي، أي
ميتافيزيقي . و مع غاليليو ترسخت التصورات المجردة للقوانين إذ اكتشف من
خلال قراءته لأرخميدس الذي أعجب به، أن الهندسة هي الفن . و هي الوسيلة و
المكان حيث يجد العقل أدلاء صدق بعيداً عن خطابات الفلاسفة المدرسيين
اللفظية المبهمة، فالطبيعة في حقيقة ماهيتها، تخضع لمبادئ إمكانية
الاستنتاج العقلية كما نصادفها في الهندسة، و بالتالي استخلص نتيجة
مفادها، أنه يجب ألا نفتش في النظرية الفيزيائية عن تحليل و عرض مفصل
لمظاهر الظواهر . فهذه المظاهر قد تكون خدّاعة، إنها تستطيع أن تخفي تحت
نقاب الجواز و المصادفات و التشويشات وقائع تخضع للعقل الرياضي . و مع
ذلك فقد ظل أسيراً للتصورات القديمة فرفض المفهوم الاهليجي لدوران الكواكب،
معلناً عن تشبثه بدائرية الحرية المتكاملة، حيث ضيق مبدأ العطالة و قصره
على الأجسام الدائرة و الأجسام الثقيلة المتحركة بحركة حرة على سطوح ملساء
. و إذا كانت علوم كالفلك و الطب و الميكانيك، قد ساهمت في ترسيخ النظرة
الآلية و حولتها إلى نموذج قائم للتفسير، فإن الأفكار الميكانيكية التي
عرفت انتشاراً واسعاً في منتصف القرن السابع عشر عززت ذلك الاعتقاد الراسخ و
ساهمت في تحويله إلى نموذج . و مع ديكارت أصبحت الفيزياء و الميتافيزيقا،
وجهان لعملة واحدة، فالإنسان ككائن مفكر و ممتد يخضع لذات القوانين التي
تخضع لها المادة الكونية، حيث صارت فرضية الكون الآلة، التي هي الأب
الشرعي للإنسان الآلة، فرضية ميتافيزيقية موجهة للبحث العلمي و الفلسفي
على السواء . فنفس القوانين التي تحكم السماء هي ذاتها التي تحكم الحياة و
الكائنات الحية، فهذه الأخيرة تسلك كما لو كانت آلات مثلها مثل الظواهر
الطبيعية الأخرى . و يعود لديكارت الدور الأساسي في صياغة العالم وفق
القالب الميكانيكي الآلي الخاضع بشكل كلي لمفهومي الحركة و الامتداد، فلا
توجد تلقائية في أي مكان، فالكل يستمر بالحركة الثابتة طبقاً لمبادئ
الامتداد و الحركة، و العالم مُدرك باعتباره امتلاءً ممتداً لا فراغ فيه،
و الأجزاء المختلفة تتحد كل منها بالأخرى بالتأثير اللحظي . فحينما صرح
ديكارت أنه لا توجد بالأحجار و النباتات قوى خفية و متوارية عنا، كما لا
تخفي أسراراً كالتجاذب و التنافر، فلا شيء يوجد في الطبيعة إلا و يرد إلى
أسباب جسيمية محض لا دخل للأرواح أو الأفكار فيها، فإنه بذلك كان ينوب عن
الجميع و ينطق باسم حال فلسفة العلم السائدة .
و
فكرة الكون المنغلق على نفسه لم تتحطم حتى مجيء نيوتن في قانونه عن العطالة
عندما أكد أن الحركة تبقى مستقيمة ( لا دائرية ) إلى ما لا نهاية ما لم
تتأثر بقوة خارجية تغير حركتها . و عند نيوتن بالذات، حدثت التغيرات
الكبرى في التصور الفلسفي لمعنى القوانين الوضعية، فنيوتن، و على خلاف
أرسطو، لا يعتني كثيراً بتصنيف أنواع العلل، بل بعددها و جدواها، كما
أنه أهمل العلة الغائية التي ركز أرسطو عليها كثيراً، مركزاً على العلة
الفاعلة . فإن اعتقد أرسطو أن هدف العلم هو البحث عن الروابط العلية
للأشياء، و ديكارت أن فكرة العلية تعبّر عن مبدأ علمي فطري في الإنسان،
فإن نيوتن الذي لم يشك في هذا المبدأ، ادخل عليه التصورات الكمية . و
الأعمال التي أتمها نيوتن في الرياضيات و الميكانيك و الجاذبية و البصريات
كانت ضخمة و أساسية، فكانت له فلسفته الخاصة التي تركت أكبر الأثر على
المعاصرين و اللاحقين له، ففي كتابه المبادئ الأساسية للفلسفة الطبيعية،
بين أن جميع الحركات سواء أكانت فوق الأرض أم في السموات، إنما تفصح عن
قوانين واحدة . و قد جاء اكتشافه للجاذبية مؤيداً للمذهب الآلي، و موطداً
الثقة في المنهج الرياضي، إذ دل على مبدأ يفسر تماسك أجزاء الطبيعة، ووضع
قانوناً كلياً استخرج منه بالقياس نتائج متفقة مع التجربة . فقد فرض نيوتن
صيغة القانون الذي وحد بين القياسات الفلكية و المشاهدات الأرضية و هو
قانون الجاذبية، فكان على اقتناع أن السبب في سقوط الأجسام على الأرض إنما
يرجع إلى المؤثر نفسه الذي يتسبب في دوران الأرض حول الشمس، و دوران
القمر حول الأرض . و عندما اقترح نيوتن قوانينه في الميكانيك كانت الحتمية
موجودة داخل بنية هذه القوانين، فإذا أخذنا مثلاً النظام الشمسي كنظام
منعزل، فإن أماكن و سرعات الكواكب في لحظة ما، تكفي كي تحدد وحدها
مواقعها و سرعاتها في جميع اللحظات التالية، حيث الماضي و المستقبل
محتويان في الحاضر، و ثمة فكرة أساسية يؤكد عليها نيوتن، ألا وهي معرفة
قوانين الطبيعة، القائمة على أساس مبدأ أن فهم العلل و الأسباب مفتاحاً
لفهم العالم بحيث يغدو التأمل الفلسفي ( على عكس ديكارت ) مجرد نشاط ذهني
ثانوي يأتي في المرتبة الثانية بعد الفلسفة الطبيعية أي العلم الطبيعي،
فالعالم وفق تصور نيوتن للقانون، ليس نظاماً ميكانيكياً محضاً، خلقه الله
ليسير وفق تنظيمه الذاتي، و هو ما صرح به ديكارت، بل إن الله حاضر فيه و
هذا لا يعني أنه روح العالم، بل حاضراً فيه عرافاً و مدركاً لكل ما فيه،
و لذلك نجد أن قانون الجاذبية الذي بقي لفترة غير مستساغ فيزيائياً، على
عكس تصوراته الميتافيزيقية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفيزياء نيوتن، حيث
فعل الله في الكون يتم بواسطة الجاذبية . وترتكز حوادث الطبيعة في رأي
نيوتن، إلى قوى تجعل ذرات الأجسام، لأسباب مجهولة، يندفع بعضها نحو بعض
فتأتلف مكونة أشكالاً منتظمة، أو تختلف فتفترق، و كل حادث في الطبيعة
يمكن تفسيره استناداً إلى هذا المبدأ الآلي، لذا فإن برنامج العلم بكامله
يقتضي الذهاب من الظواهر، ظواهر الحركات في قوى الطبيعة، ثم من هذه
الأخيرة، إلى تفسير سائر الظواهر الأخرى بواسطتها، فالعالم آلة كبرى
مستمرة الحركة، كل حادث فيه يمكن استنتاجه رياضياً من المبادئ الأساسية
للحركات الميكانيكية. فمثلاً قانون العطالة عند نيوتن يؤكد أن قوانين
الفيزياء التي يخضع لها أي كائن تبقى نفسها، أي لا متغيرة، في جميع حالات
الحركة المنتظمة، و من ثم فهذا المبدأ يعبر عن تناظر القوانين الفيزيائية
في جميع حالات الحركة المنتظمة لجسم معين . لقد تحدث نيوتن عن زمان و مكان
مطلقين، تجري فيهما الحوادث المادية، و هذين المفهومين ترسخا ترسخاً
عميقاً في ثقافتنا إلى حد أصبح معه من الصعب علينا، أن ندرك الجانب
الاتفاقي و الجزافي الذي جعلنا نسلم بهما كبديهيتين، و الواقع أن هذه
المفاهيم التي نعتبرها بديهية كانت غريبة عن ذهن الفكر العلمي فيل نيوتن، و
نيوتن نفسه ظل خمسين عاماً بعد وضعه لقانون الثقالة العام مجهولاً تقريباً
في أوروبا التي ما زال يسود فيها بشكل كاسح التصور الديكارتي لفيزياء
الدوامات المباشرة التي ترفض فكرة التأثير عن بعد بين الأجسام المادية، و
استمر الأمر كذلك حتى مجيء فولتير و لابلاس اللذين عرفا العالم الأوروبي
بقيمة أفكار نيوتن و ثورته .
و قد وضع كانط
بتأثير كبير من نيوتن، بانتقاده للمفهومين الزماني و المكاني، أسس تعيين
حدود مجالي المعرفة و الإيمان، ليخلص العلم من الافتراضات الميتافيزيقية،
و القانون من وصايا علم اللاهوت التي أخضعه لها نيوتن في واقع الأمر، و
بالنسبة لكانط: ليس الزمان و المكان في الواقع أشياء في ذاتها، بل هي
مقولات ذهنية، نحملها في ذواتنا و تتيح لنا حل رموز العالم . فالأشياء في
ذاتها، لا توجد في المكان و لا في الزمان، فالذهن الإنساني هو الذي يطبع،
في فعل الإدراك ذاته، طباعة فوقية هذه المقولات الخاصة به، و التي
بدونها لا يكون الإدراك ممكناً، و ذلك لا يعني أن يكون الزمان و المكان و
همين أو اختراعين من اختراعات الذهن، إن هذه المقولات فرضت نفسها علينا في
غضون تماسنا التجريبي بالطبيعة، فهي بذلك ليست اعتباطية، و إذا كانت لا
تنتمي إلى الأشياء في ذاتها، فإنها لا تنتمي بدرجة أكبر إلى الذهن و حسب،
بل إلى حوار الذهن و الأشياء، إنها في النهاية، النتاج الضروري للحركة
ذاتها، التي بها يفتش الذهن لاختيار و فهم العالم الخارجي، و يتساءل كانط
عن كيفية معرفتنا بطريقة أولية أن ثمة تطابقاً ضرورياً للأشياء مع بعض
القوانين ؟ يقول أنه لن يتسنى لنا ذلك إلا إذا اهتدينا للشروط أو القوانين
العامة التي إذا خضعت لها الطبيعة أصبحت المعرفة ممكنة، و صار بوسعنا أن
نحدد إمكانية الأشياء باعتبارها موضوعات للتجربة، مثل هذه الشروط أو
القوانين العامة أحكام تركيبية قبلية مثل ( كل تغير يقتضي سبباً ) أو أن في
كل تغيرات العالم الفيزيائي تبقى كمية المادة ثابتة ، و بما أن ملكة الفهم
هي ملكة التأليف و التركيب، فليس التفكير بصفة عامة سوى عملية ذهنية ترد
عن طريقها عمليات الحس المتناثرة إلى ضرب من الوحدة، حيث يقرر كانط أنه
ليس للتفكير من معنى سوى الحكم، و الحكم نفسه إنما ينحصر في رد الكثرة إلى
الوحدة عن طريق الاستعاضة عن الجزئي المباشر بالعام، و هذا ما نسميه
بالتصور أو المفهوم، الذي نحصل عليه بالاستنباط الاستنتاجي، و قد أراد
كانط من وراء الاستنباط البرهنة على صحة القضية الأساسية التي تقوم عليها
فيزياء نيوتن، القائلة أن للطبيعة قوانين، أو أن هناك علاقات كلية ضرورية
قائمة بين الظواهر، فليست العلية السببية مجرد عادة تقوم على تكرار
الظواهر، كما قال هيوم، أو مجرد فرض نسبي مشروط يستند إلى تجربة عرضية
محدودة، إنما هي معنى أولي يربط عن طريق الذهن، تلك الظواهر المتعاقبة في
الطبيعة برابطة ضرورية حتمية .
و غالباً ما
أعتبر ظهور المعادلات التفاضلية بالنسبة للزمن في قوانين نيوتن للميكانيكا،
على أنها حملت ولادة السببية في النظرية الفيزيائية، لأنها تعبر بتعابير
رياضية عن هذه الفكرة، فكرة أن الحالة المستقبلية لجملة، يمكن أن تعيّن
انطلاقاً من حالتها الحاضرة، و سوف يكون هذا هو رأي أينشتاين بشكل خاص
الذي كان يجل شخص نيوتن مخترع السببية العظيم، مع أن فكرة نيوتن عن
السببية كانت لا تزال جد مجردة، و قد حولها أينشتاين سواء أراد ذلك أم لم
يرد، إلى سوية مبدأ إجرائي، ووفق هذا المبدأ : لا يمكن أن يجر كل اضطراب
في منظومة فيزيائية نتائج على منظومات فيزيائية أخرى، إلا بعد مرور بعض
الوقت، هو الوقت الذي يكون لازماً لانتشار الإشارة، و دوافع أينشتاين
لتخصيص ثماني سنوات أو أكثر من حياته، لاستنباط نظرية عامة، لم تكن مبنية
على الملاحظة أو التجريب، و قد طُوّرت النظرية في الأساس دون أي دوافع
قائمة على الملاحظة . و مع ذلك نجده كشف النقاب عن بنية كانت موجودة
بالفعل، و الأكثر من هذا أن ما اكتشفه لم يكن مجرد جزء ثانوي في الفيزياء،
إنه الشيء الأساسي الهم الموجود في الطبيعة، و هو طبيعة المكان و الزمان
. و هنا سنظل في واقع الحال كما نلاحظ دعاة للقانون المطلق، ففي إعادة
صياغة خريطتنا للسماوات في المصطلح الأينشتايني، لا زلنا نحتفظ بيقين
مركزية السبب و النتيجة، ووجود قوانين كونية علمية . و بذلك يقول فيلسوف
العلم ريشنباخ : أن مبدأ أينشتاين عن الطابع الخاص بالسرعة الحدية لسرعة
الضوء، مؤسس بالوقت نفسه على بداهة سلبية و أخرى إيجابية، فهو بداهة
سلبية من وجهة نظر المبدأ القائل أن أية إشارة أسرع من سرعة الضوء لم
تُلاحظ أبداً، لكن مبدأ أينشتاين ما كان سوف يُقبل أبداً لو أنه لم يكن
مؤسساً أيضاً على بداهة إيجابية، كانت نظرية النسبية سوف تقود إلى نتائج
غير معقولة، لو أن هذا المبدأ لم يكن صحيحاً، فالترتيب الزماني لحوادث
مترابطة سببياً ربما كان يمكن أن يكون معكوساً، و كميات لانهائية من
الطاقة ربما كان أن تكون منتجة، و هكذا دواليك، إن نتائج من هذا النوع
مستبعدة الحدوث إلى حد أنها تزودنا بدليل بالمقلوب، و يبدو أمراً غير
محتمل كلياً أن يكون مبدأ الطابع الخاص بالسرعة الحدية لسرعة الضوء خاطئاً .
و قد أكد أينشتاين في نظريته النسبية أن القوانين الفيزيائية مستقلة عن
حركة المجموعة التي تنتسب إليها .
تلك النظرة
وحيدة الاتجاه نحو القانون التنبؤي اليقيني ما لبثت و أن أصابها التغير
الجذري مع النظرية الكمومية التي تنطلق من أننا حتماً جزء من عالم نحاول أن
نقيسه، و لكن تواجهنا العشوائية في كل شيء تنظر إليه، و نحن نبني
أنظمتنا، و لكن فقط على حساب خلق العشوائية في مكان آخر . و قديماً كان
العلماء يدرسون نظاماً و يتخيلون آلية يمكن أن تشرح كيف يعمل، و بعدئذ
يكتشفون أو يبتكرون شيئاً من الرياضيات لتوخي الدقة، و فيما يتصل بنظرية
الكم، يوجد فقط رياضيات كثيراً لا يُعرف ماذا تعني، و مع ذلك تدلنا على
واقع، و منها نستدل على قوانين مألوفة لعالمنا . و لكن كيف يكون العالم
الذي نعيش فيه مختلفاً جداً عن العالم الذي يقع تحته ؟ حتى هناك – في
العالم الكلاسيكي – تبدو الأشياء مختلفة من وجهات نظر مختلفة، و نحن
كالعميان الذين يستكشفون فيلاً، يمكن أن نسوي خلافاتنا و نتفق على شكل ما
هو موجود أمامنا ( تماماً كما تحدث أفلاطون عن صورة الكهف ) غير أن نظرية
الكم، تحمل الذاتية ( الأفلاطونية إن جاز القول ) إلى نهاية غريبة، ليس
هناك فيل ( و بالتالي لا توجد ظلال ) بل عميان فقط . و هناك في الواقع
اختلاف حاسم بين الفهم الكلاسيكي لطبيعة القانون ، و الفهم الكمومي له،
ففي الديناميكا الحرارية نفترض أن كل جزيئات الغاز التي تسبب ذبذباتها ما
نسميه حرارة، التي تسبب بدورها ما نسميه ضغطاً ، تمتلك في الواقع، مسارات
دقيقة، نحن نجهلها تماماً، و تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم يملي أن جسيماً
دون ذري لا يُقاس، لأنه لا يمتلك مساراً . من خلال تلك النظرية أصبحنا في
فلسفة الفيزياء المعاصرة نتناول وجهتي نظر للقوانين، الأولى من خلال
رؤيتنا للعالم من منظوره الكلاسيكي الكبير، و الثانية من خلال تصورنا
للعالم الكمومي الصغير، و هذا الوضع يشبه إلى حد بعيد الطريقة التي كان
اليونانيون القدماء ينظرون بها إلى العالم، فمن وجهة نظرهم، هناك فئة
واحدة من القوانين تطبق على الكرة الأرضية، و فئة أخرى مختلفة تطبق على
السماء، و كانت وجهة نظر غاليليو و نيوتن قد أتاحت لنا أن نجعل هاتين
الفئتين من القوانين تعملان معاً، و أن نرى أنه يمكن فهمهما عن طريق
الفيزياء نفسها، و يبدو الآن، أننا نعود إلى الوراء في موقف مشابه لموقف
اليونان، في ظل وجود فئة واحدة من القوانين تطبق على المستوى الكمومي، و
فئة أخرى على المستوى الكلاسيكي . بتعبير آخر، في العالم الكلاسيكي لكل
شيء سبب، و يمكنك تتبع سبب أي حدث في زمن وقوعه، ثم لتجد سبب وقوع السبب،
و السبب في هذا السبب، و هكذا، حتى تصل للحظة أولى في الانفجار العظيم
كونياً، لكن في عالم الكموم الوضع مختلف، حيث تبدأ هذه السببية في
الاختفاء بمجرد أن نفحص التحلل الإشعاعي و الانتقالات الذرية، فالإلكترون
لا ينتقل من مستوى معين للطاقة إلى مستوى آخر في زمن معين لأي سبب محدد، و
تفضل الذّرة أكثر مستويات الطاقة انخفاضاً بالمعنى الإحصائي، و لذا من
المرجح كمومياً، أن يقوم الإلكترون بهذه الحركة عاجلاً أم آجلاً، أي يعود
للمستوى الأكثر انخفاضاً، و لا توجد وسيلة تخبرنا متى سيحدث هذا
الانتقال، فلا يوجد عامل خارجي يدفع الإلكترون، و لا توقيت داخلي يفرض
على الإلكترون القفز في توقيت محدد، إنما يحدث ذلك فحسب . ليس لسبب محدد .
يحدث الآن، و ليس عندئذ . و من هذا المنطلق صرح هايزنبرغ بأننا لا نستطيع
أن نعرف الحاضر بكل تفاصيله كمسألة مبدأ، و بالتالي تغدو فكرة التنبؤ (
التي هي صرح القانون بمعناه الكلاسيكي للفيزياء و فلسفتها على السواء ) لا
معنى لها في الفيزياء الحديثة، و على وجه التحديد نقول، أن التنبؤ
المثالي لا معنى له عند الفيزيائيون المحدثون حيث لا نستطيع أن نعرف الموقع
و كمية الحركة حتى لجسيمة واحدة بالضبط . فإذا سألت لماذا العالم في
منظومة الكموم بهذا الشكل، فإن الجواب من عالم بحجم فاينمان أنه ليس لدينا
أية فكرة، و لو ظللت تصر على صورة فيزيائية لما يحدث، فإنك ستجد كل
الصور الفيزيائية تذوب في عالم من الأشباح تبدو فيه الجسيمات حقيقية فقط
عندما ننظر إليها . هذا ما تتبناه نظرية الكم التي هي نظرية احتمالية في
جوهرها و ذاتها، و لقد عُدّ مفهوم عدم قدرة الفيزياء عند المستوى الذري
على التنبؤ بأكثر من قيم احتمالية لا غير بمثابة الانفصال الفلسفي الهائل
عن الفيزياء التقليدية، بحيث استغرق الأمر سنيناً عديدة فبل أن يتم قبول
هذا الإدراك الجديد من قبل الفيزيائيين .
و تدل
النتائج التجريبية بعد فيزياء الكموم، على أن واحدة على الأقل من
المصادرات التالية خطأ : الأولى هي مصادرة الواقعية الموضوعية : التي تقول
أن المنظومات تمتلك خواص موضوعية و باطنية لا تكون متأثرة بقرار أن تجري أو
لا تجري القياس الملائم . و المصادرة الثانية هي مصادرة دوام الخواص
الباطنية : القائلة أن الخواص المخصصة لمنظومة تظل صحيحة طالما ظلت
المنظومة معزولة ( باستثناء التفكك التلقائي ) . و الثالثة هي مصادرة
اللاارتجاعية : القائلة بأن خاصة باطنية محققة على منظومة معينة لا يمكن أن
تكون متغيرة بتعديل الأجهزة التي ستتفاعل معها هذه المنظومة في المستقبل .
أم المصادرة الرابعة فهي مصادرة التنظيم المتدرج : القائلة بأن خاصة
باطنية محققة على منظومة معينة، لا تكون متأثرة إذا ما قررنا – اصطلاحياً –
أن نقيدها لا بالمنظومة نفسها، بل بمنظومة أخرى أكبر تضم الأولى، مثلاً
لا تكون الخواص الباطنية لإلكترون معدلة، سواء اعتبرتاه بحد ذاته، أو بما
هو جزيء في ذرة .
في الوقت الراهن لا يفكر أحداً
جدياً بالطعن بالمصادرة الرابعة، و هذه لا تستبعد إطلاقاً إمكان أن
تستطيع المنظومات الصغيرة، أن يكون لها تفاعلات متبادلة فيزيائياً مع
المنظومات الكبيرة، و إعادة جعل المصادرتين الثانية و الثالثة موضوع خلاف،
ربما يزعزع حتى أسس إمكانية نظرية فيزيائية، بمقدار ما ربما سوف تدخل
غائية في الطبيعة غير قابلة للفهم ببرنامج العلم الذي هو البحث عن القوانين
السببية . فالشكوك لا تنضب، و الحالة هذه طبعاً على المصادرة الأولى، و
تقودنا الخواص اللاموضعية للواقع التي أوضحها الميكانيك الكوانتي، إلى أن
نتفحص من جديد أهمية دلالة المبدأ السببي، و إلى أن نبحث مجدداً في تحديد
هوية الزمان كبارامتر سببي، كما افترضت ذلك النسبية .
هل
قضت تلك النظرية على مفهوم القانون، أم أنها عدلت من فهمنا له ؟ لقد جادل
فيلسوف العلم الوضعي شليك، بأن مغزى الريبية الكمومي يكمن في أنه لا يزعج
إلا بشكل جزئي قدرة العالم على التنبؤ، في ميكانيكا الكم، قد يفضي الحدث
إلى تنويعة من النتائج وفق احتمالات يمكن حسابها لكل ناتج، و حتى إن يكن،
تظل الفيزياء تتألف من قواعد تخص سلسلة من الوقائع كشيء ما يحدث، يهيئ
الظروف لشيء آخر، ثم، وفقاً للنتائج، تقوم إمكانات أخرى بدور ما، هذا
وصف مؤسس على ارتباطات سببية، فيما يرى شليك، باستثناء أن السببية أصبحت
احتمالية، حقيقة أنه يمكن للأشياء أن تحدث بشكل تلقائي لا تعني أنه بمقدور
أي شيء قديم أن يحدث، في أي وقت، في النهاية، تظل هناك قواعد .
أما
بوبر - يؤكد أن إمكانية الصدق و التحقيق ليست كافية لتقيم القوانين
العلمية، و هو ما نادت به الوضعية المنطقية، بإمكانية التحقيق تجعل من كل
القوانين العلمية لا معنى لها، و كبديل وضع بوبر ما يسمى بالتكذيب،
فعندما أقول أن كل الغربان سوداء، فهذا التعميم لا يمكن التحقق من صدقه
بواسطة أية مجموعة متناهية من القضايا المستمدة من الملاحظة، و المتعلقة
بالغربان، في حين يمكن تكذيبه بملاحظة حالة واحدة لغراب أبيض ( أي أن ثبات
أي قانون تكون بقدرته على الاستمرار و مقاومة كل التكذيبات المحتملة في أي
حالة جزئية مباشرة ) و بالتالي فإن اقتراح بوبر يستند إلى أساس وجود تنافر
بين إمكان التحقيق، و إمكان التكذيب، و هو تنافر ناجم عن الصورة
المنطقية للقضايا الكلية، لأن