انتصار الفرد على العصابة
عزت القمحاوي
2011-02-18
إلى أي عمق يمكن أن تصل الثورات العربية بتغييراتها؟
هذا
هو السؤال المقلق الآن في مصر وفي تونس التي سبقتها وفيما سيلحقهما من
البلدان على درب الثورة، بينما بات في حكم المؤكد أن العام 2011 لن يكتمل
وعلى الأكثر نصف 2012 حتى تتحرر الأرض العربية من كل صيغ الحكم القائمة
الآن، بما فيها الطائفية اللبنانية المخادعة بمظهرها الديمقراطي الخبيث.
هي
قضية وقت وترتيب: أيها يسقط أولا، وهذا الترتيب يحدده توازن القوى على
الأرض بين المستبدين والثوار. يبقى بعد ذلك سؤال العمق في التغييرات، وهو
يتعلق بهذا التوازن نفسه بالاضافة إلى حجم المدنية في بنية هذا المجتمع أو
ذاك، والمتمثل في البنية الاجتماعية والتركيبة الطائفية وقوة النقابات وحجم
انضباط مؤسسات الجيش والقضاء.
ربما كانت ثورة البوعزيزي في تونس مفاجئة
للقامع والمقموع بأكثر مما كانت الثورة المصرية التي كان مخاضها طويلا في
شكل احتجاجات سياسية عبر حركة كفاية صاحبتها اعتصامات مطلبية اقتصادية طوال
خمس سنوات ثم حملة توقيعات البرادعي التي وصلت إلى المليون توقيع على
المطالب السبعة للتغيير، لكن تناسخ الحالة الثورية وامتدادها إلى الدول
الأخرى مدهش ويدعو للتأمل.
قفز شعار 'الشعب يريد اسقاط النظام' من تونس
إلى مصر متخطيا الأرض الليبية التي يحكمها نظام أكثر مراوغة وهو نظام
اللانظام. كان العقيد القذافي يصحح للصحافيين صيغة النداء عندما يخاطبونه
بـ 'السيد الرئيس' إلى صيغة 'الأخ العقيد' قائد الثورة الذي لا يحكم.
وإذا
استعرنا المثل الشعبي المصري عن اللص البارع الذي يختفي في الكراكون (قسم
الشرطة) كان القذافي يختفي طوال 42 عاما كقائد ثورة وسط جماهير تحكم نفسها
بلجان شعبية، معلنا عداءه للديمقراطية 'ديمو..كراسي' بترجمته الفكاهية:
الدهماء على الكراسي.
لكن الثورة الجديدة في ليبيا كشفت مخاتلة صيغة
الثورة الدائمة التي أعفت النظام من أي استحقاق، وعاد الشعار بعد أقل من
شهر إلى الأرض التي قفز عليها في البداية. رفع الليبيون مطلب تغيير النظام،
الذي صار مطلبا عربيا لإزاحة الدهماء عن كراسي الحكم.
***
إزاحة
الدهماء عن الكراسي مطلب عربي عام. هذه هي الخلاصة، والأمر لا يتعلق بمطلب
تداول السلطة السياسية أساسا، بل باستعادة الاقتصاد المغتصب، بعد أن تحولت
بنية السلطة إلى عصابة نهب، تريد الاحتفاظ بما حققته غصبا.
والغريب أن
تنحدر بنية السلطة العربية بالكيفية نفسها في كل البلدان التي دفعت أثمانا
باهظة لتحررها من الاستعمار، وتحولت كلها معا من صيغة الدولة إلى صيغة
الامارة، وأعدت كل جمهورية وارثا من أسرة الرئيس: الابن، الزوجة، أو الأخ.
وقد
خصت الجماهير العربية الثورة المصرية بقدر مضاعف من الفرح لم تقابل به
الثورة التونسية التي فجرت شرارة التغيير، بسبب الوعي المترسخ بمحورية دور
مصر في الصعود والاضمحلال. ومن يراجع هذه الحقبة الآفلة سيدرك أن اتفاقية
كامب ديفيد كانت السبب الأساسي وراء استقرار السلطة العربية وتحويل بُنى
الدول إلى بُنى العصابات.
' ' '
بلا أدنى شك، كان زرع اسرائيل في
المنطقة العربية عاملا أساسيا في تأخير التحول الديمقراطي، حيث لا صوت يعلو
على صوت المعركة. لكن ما لا تغيره الديمقراطية في البلاد المحاربة تغيره
الحرب.
قامت حركة الجيش بمصر عام 1952 بجهود الضباط الذين واجهوا الموت
في الفالوجا لأنهم أدركوا أن هزيمتهم سببها فساد النظام، ثم أوشك عبدالناصر
على التنحي بسبب النكسة وعندما عدل عن التنحي أطاح ببنية نظامه العسكري،
كما كان نصر 1974 سببا آخر للتغيير بتقدم بعض القيادات المنتصرة إلى الصفوف
الأمامية من بنية السلطة وإزاحة غيرها.
وجاءت كامب ديفيد لتوقف شريط
الصورة؛ فلا ديمقراطية أقامت ولا حربا أوقفت. عطلت الاتفاقية الامكانية
العملية للحرب ولم تعد كامل الأرض فأبقت على المجتمعات العربية مرهونة لخطر
الحرب في أية لحظة، فركدت السلطة في سائر الدول بينما عبر الموات عن نفسه
لبنانيا بتقدم حزب الله نائبا عن الجيوش النظامية المعطلة وبالعا للمجتمع
اللبناني.
أخذت الدولة العربية تتطور في اتجاه العصابة وقيمها المعروفة
وهي التضامن المطلق والرفض الكامل لوجود كل الأغيار وعدم الاستعداد للتفاوض
أو الشراكة.
هي بالمناسبة حالة الدولة الاسرائيلية في مواجهة العرب،
وهي حالة العصابة المصرية التي كان تفكيكها وفضح بنيتها مهمتي الأساسية هنا
في 'القدس العربي' التي احتضنت مقالاتي منذ أكثر من عشر سنوات ومقالات من
أعتز بسبقهم لي مثل الأستاذ محمد عبد الحكم دياب. وعلى الرغم من منع النسخة
الورقية من دخول مصر إلا أن تصفح المصريين لـ' القدس العربي' حقق أعلى
المعدلات وكان من يناقشونني فيما أكتبه هنا لا يقل عن عدد من يتابعونني في
'المصري اليوم' المصرية.
وقد كتبت مرارا عن أسلوب العصابة الحاكمة في النهب الذي لا يشبه حالات نهب الأوطان، بل طريقة قاطعي طريق يفرغون شاحنة سطوا عليها.
هذه
الحالة من بنية التشكيل الاجرامي الذي صارت إليه الأنظمة العربية لم يكن
لها أن تتفكك إلا بفضل تحول معاكس في بنية المجتمعات نحو الفردية وحرية
الأفراد في مواجهة سلطة العائلة بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا هو
دورها الأهم من دور التعبئة، الذي تنسبه اليها كل التحليلات.
الحرية
الفردية التي أنتجها الانفتاح على العالم تشمل حرية اتخاذ القرار الفردي،
والأهم من ذلك الوعي بمستويات أعلى من التطلع الانساني الذي يتخطى مطلب
الخبز. وقد كانت الفئات التي فجرت الثورة هي الأبعد عن الاحتياج المادي
القاهر، لكنها تعرف معنى الاهانة في أن تقف رهينة في الشارع لكي يمر موكب
تافه من التوافه أو أن تزور الانتخابات غصبا وبشكل علني ولا يتم التراجع أو
التصحيح. بعد ذلك انضمت إلى صفوف الثورة الفئات الأفقر.
ورغم أن الحالة
المدنية قديمة وعميقة في المجتمع المصري بأكثر مما هي في أي مجتمع آخر،
إلا أن تناغم العائلة في الرأي والتوجهات كان موجودا حتى وقت قريب؛ فكانت
هناك عائلات اخوانية تلتزم في تصويتها واقتصادها وزيجاتها بنفسها
وبالعائلات الاخوانية الأخرى، وكانت هناك عائلات يسارية وأخرى ليبرالية
وهكذا، لكن في هذه الثورة برزت ظاهرة مشاركة عدد من أبناء الفاسدين في
الصحافة والحزب وأجهزة الأمن في صفوف الثورة.
لم يشمل الخروج على قرار
العائلة بيوت الفساد فحسب، لكن جدل القديم والجديد شمل المجتمع كله.
باستثناء الأسر الشابة التي اندمج فيها الأب والأم مع الأبناء رؤية وتفكيرا
كانت الأغلبية من الآباء المقرة بالمظالم ضد مشاركة الأبناء بدافع الخوف،
لكن ارادة الشباب كسرت خوف العائلة وخرجت لتسحب الآباء والأمهات خلفها، ولو
من باب القلق على الابن والبنت خصوصا عبر الهدية التي منحها النظام للثورة
من خلال قطع الاتصالات.
وقد تجلى التصادم بين القديم والجديد في اللغو
الصلف لعمر سليمان حول مبارك الأب، وتقاليد المجتمع المصري التي لا ترضى
باهانته، وهو ذات الخطاب الذي صاحت به النساء المأجورات أو نساء العصابة في
اتصالات مع التليفزيون المصري، وقد أثر هذا الخطاب في المنظومة القديمة
التي لم تزل تؤمن بسلطة العائلة بينما لم ينطل على الواقفين في ميدان
التحرير، وهم عقل الثورة الجديد الذي أطاح بسلطة العائلة قبل الاطاحة بسلطة
العصابة.