الرابحون.. والخاسرون
عبد الباري عطوان
2011-02-13
من يريد تحسس ملامح العهد الجديد الذي بدأ في مصر يوم
الجمعة الماضي، بإجبار الرئيس حسني مبارك على الرحيل، فإن عليه ان يتابع
قنوات التلفزة المصرية ـ والانقلاب الكبير الذي حدث في برامجها ولهجتها
ونوعية ضيوفها.
فمن كان يصدق انه سيرى في يوم من الايام الاستاذ محمد
حسنين هيكل جالسا في استوديو محطة دريم 'ضيفا' في برنامج المذيعة اللامعة
منى الشاذلي، او يشاهد الزميل الاستاذ حمدي قنديل الذي هاجر الى محطات
عديدة على طول الوطن العربي وعرضه بحثا عن مكان 'لقلم رصاصه' يكون ضيفا على
قناة 'المحور' او الفضائية الرسمية؟
هذه القنوات المصرية كانت تدار من
قبل منظومة حكومات محور الاعتدال العربي، ووفق قائمة سوداء تضم اسماء عديدة
من الاعلاميين والكتاب المصريين والعرب، وبمجرد انهيار محور الارتكاز
الاساسي لهذه المنظومة في القاهرة، تغيرت الصورة بالكامل واصبحنا امام
مرحلة جديدة بوجوه جديدة، واعلام جديد سيغير الخريطة الفضائية ومن بعدها
السياسية العربية حتما، فالإعلام هو الذي يضع الاجندات السياسية هذه الايام
وليس العكس مثلما كان يحدث على مدى الستين عاما الماضية.
الثورة
الشعبية الكبرى التي اندلعت في مصر ونظيرتها التي سبقتها في 'تونس
الكرامة'، اعادتا صياغة المنطقة، ورسمتا خريطة جديدة، لشرق اوسط جديد ولكن
بعيون عربية، ترى المستقبل من ثقب المصالح الوطنية، وبمنظار عربي اسلامي،
وليس بعيون امريكية او ديكتاتورية توريثية.
زمن الاحكام العرفية، والدول
البوليسية، وافساد القضاء، ونهب ثروات الفقراء المحرومين، وحصر الوظائف،
والمناقصات، والمناصب العليا في اطر الأسر الحاكمة وبطانتها الفاسدة في
طريقه الى الانقراض وبسرعة قياسية، وفي اكثر من بلد عربي.
مصر تشهد
حاليا 'عملية تنظيف' تبدأ من ارض ميدان التحرير، وعلى ايدي شباب الثورة،
لتنطلق الى كل رموز الفساد المسؤولة عن 'تقزيم' مصر ودورها الريادي
الطليعي، في مؤسسات الدولة، في البرلمان المزور، في مجلس الشورى المفبرك،
في الوزارات، في الاعلام، في السفارات.. في كل مفاصل الدولة.
' ' '
الرابحون
من هذا الزلزال الاكبر في تاريخ المنطقة كثر، ابرزهم فقراء الشعب المصري
واحراره وشرفاؤه، الذين عانوا كثيرا على مدى السنوات الاربعين الماضية
تقريبا، ومعهم مئات الملايين من العرب الذين عاشوا الذل والهوان بعد انسحاب
مصر من المواجهة مع المشروع العدواني الاسرائيلي، والانتقال من المعسكر
التقدمي الى المعسكر الامريكي رافعة الراية البيضاء اسيرة لفتات المساعدات.
الخاسرون
كثر ايضا، وعلى رأسهم الغالبية الساحقة من الزعماء العرب الذين استمرأوا
احتقار شعوبهم، وحولوا بلدانهم الى 'عزب' لهم ولاولادهم واحفادهم وكل من
تفرع عن نسلهم، فهؤلاء يرتعدون خوفا وهم يرون الادارة الامريكية تنحاز
مكرهة الى الثوار في ميدان التحرير، وتتخلى عن زعيم (مبارك) كان خادما وفيا
لمصالحها، مشاركا بحماس في حروبها، حاميا مخلصا لحدود حليفها الاسرائيلي.
الولايات
المتحدة الامريكية خسرت في الرئيس مبارك ونظامه، الثقل الحقيقي لسياستها
الخارجية، ومشاريعها في الهيمنة على المنطقة، مثلما خسرت حليفاً قوياً في
حربها المقبلة ضد ايران والحالية في كل من افغانستان والعراق، فالحلفاء
العرب الباقون في المملكة العربية السعودية والخليج والاردن وشمال افريقيا
يظلون هامشيين بالمقارنة مع مصر، ولم يخوضوا حرباً واحدة بمفردهم ومن دون
الاستعانة بالقوات الامريكية (اخراج العراق من الكويت)، او التصدي للثورة
الايرانية الخمينية (من خلال النظام العراقي السابق).
النفوذ الامريكي
في المنطقة في حال انحسار متسارع، وهو نتيجة منطقية لسياسات جسدت النفاق
الامريكي الغربي في ابشع صوره، فكيف لامريكا الدولة التي تدعي قيادة العالم
الحر ان تدعم انظمة بوليسية تحت مسميات الاستقرار، ومحاربة وهم التطرف
الاسلامي؟
سماسرة السلام المغشوش لا يمكن ان يحققوا استقراراً، لان ما
يهم هؤلاء هو ملء جيوبهم بالاموال، والحصول على دعم وحماية الذين يسمسرون
لهم على حساب شعوبهم، وتعاليم دينهم وعقيدتهم، ومبادئ امتهم الاخلاقية
العريقة.
ولعل اسرائيل هي الخاسر الاكبر، ومعها السلطة الفلسطينية من
انهيار نظام الرئيس مبارك، فقد كان الحضن الحنون للطرفين، والدرع التي توفر
لهما الأمان والبقاء والشرعية.
' ' '
حجيج بنيامين نتنياهو وايهود
باراك وفؤاد بن اليعازر وتسيبي ليفني وشمعون بيريز وغيرهم الى منتجع شرم
الشيخ حيث السجاد الاحمر والاستقبال الحار، والضيافة العربية الاصيلة، هذا
الحجيج سيتقلص ان لم يكن سيتوقف نهائياً، ولن تستطيع تسيبي ليفني اعلان
الحرب على غزة وهي تقف الى جانب رئيس مصر العظيمة، ولن يتباهى وزير مصري
بتكسير عظام الشرفاء المحاصرين في قطاع غزة، فهذه السنّة غير الحميدة
انكسرت، وربما الى غير رجعة.
السلطة الفلسطينية في رام الله يجب ان تعود
الى ثوابتها، وتعيد النظر في كل مواقفها وسياساتها، فقد ذهب الرئيس المصري
الذي وفر لها الدعم والملاذ على مدى العشرين عاماً الماضية، ذهب الى
المجهول تطارده ارواح الشهداء الذين مزقت اجسادهم الطاهرة رصاصات امنه، ولن
تجد هذه السلطة رئيساً مصرياً منتخباً يقف في خندقها بعد ان يطلع على
مسلسل تنازلاتها في القدس المحتلة وحق العودة.
فعندما يرحب الرئيس
الامريكي باراك اوباما بانخراط الاخوان المسلمين في الحوار مع حكومة مبارك
في الدقائق الاخيرة من عمرها، فلا يوجد اي سبب لكي لا يرحب بحوار حكومته مع
حركة 'حماس'، ورفع 'الفيتو' المفروض عليها من قبل اسرائيل، ولن نستغرب ان
يتخلى اوباما وغيره عن هذه السلطة مثلما تخلى عن راعيها الابرز حسني مبارك،
فالمنطقة تتغير، والمنطق يتغير، وكذلك امريكا ايضاً.
الزحف الوطني
الديمقراطي انطلق من تونس الكرامة، وحط رحاله في ارض الكنانة، وسيقفز منها
حتماً الى محطة جديدة، ستكشف لنا الايام او الاسابيع المقبلة عن اسمها، وما
اكثر المحطات العربية التي تتلهف على استقبال هذا الزحف المقدس. فالمثل
الشعبي العربي يقول 'لقد كرّت السبحة' والايام المقبلة ايام عزة وكرامة
وتغيير انتظرته الشعوب طويلا، ألم نقل لكم؟!