...اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى...
د.سعيد إسماعيل على |
10-02-2011 00:10 هو
أمر ربانى وجهه المولى عز وجل إلى نبى الله موسى عليه السلام ، حيث كان
حاكمُ مصر فى وقته قد نهج نهجا يقوم على الاستبداد والقهر والطغيان .وأن
يوجه سبحانه وتعالى هذا الأمر إلى نبيه الكريم ، فهذا يؤكد أن رسالة النبى
لا تقف عند حد دعوة الناس إلى الإيمان بالله عز وجل ،,التى تعد فيصل
الإيمان بين الكفر والزندقة ،وإنما تمتد إلى ما يستتبعه هذا الإيمان بالله
،من دعوة إلى نشر العدل ،ورفع الظلم عن العباد ،لماذا ؟
ذلك أنه
فى الوقت الذى يؤمن فيه المؤمن بالقاعدة الأساسية فى الإيمان ،ومربط الفرس
فيه بأنه لا إله إلا الله ،ومن ثم فلا عبودية إلا له وحده عز وجل، لابد من
الالتزام بالنتيجة الأساسية ؛ألا وهى ألاّ سطوة لمخلوق على مخلوق إلا بالحق
.صحيح أن هناك تراتبية فى الكثير من مواقع الحياة ، بحيث يخضع كل مستوى
إلى ما هو أعلى منه، مثلما نرى الأبناء يحضعون لسلطة آبائهم ،والجند يخضعون
لسلطة قادتهم ..وهكذا ،وفى كل المستويات القيادية ، من أولها إلى أعلاها ،
إلا أن من المحتم الالتزام بالقاعدة الأساسية التى تلخصها كلمة واحدة ،
بسيطة المعنى ، قليلة الكلمات ، لكنها " مُجَمّع " لما يملأ صفحات طويلة من
المعانى والمضامين ، ألا وهى " العدل ".
وما دام السيد الأول هو
الخالق ،الذى لا إله إلا هو، فليس لأحد من المخلوقين ، مهما كان موقعه ،
ومهما كانت مرتبته ،أن يقهر ويستبد ويطغى ،وإلا فإنه يحيد عن أصول الإيمان
،ويصبح من الفرائض الأساسية للمخلوقين من بنى البشر أن يقاوموه ،وذلك بأن
يقفوا له بالدعوة والتنبيه والنصح والإرشاد أولا، فإن لم يرجع عن قهره
وطغيانه ، يتم تحكيم قوله صلى الله عليه وسلم بأن " أفضل الجهاد كلمة حق
عند سلطان جائر ".
وإذا كان نص الآية القرآنية الكريمة يشير إلى
أن الخطاب موجه إلى فرد بعينه ، هو نبى الله موسى عليه السلام ،والأمر خاص
بحاكم معين هو حاكم مصر زمن موسى ، إلا أن من القواعد التى اتفق عليها أهل
الاختصاص أن الألفاظ والمواقف قد " تخص " ، لكن الدلالة ،والمعنى لابد أن "
تعم " ،ومن ثم لا يصبح الأمر فى الآية الكريمة أمرا خاصا بنبى الله موسى
وحده ، وإنما هو أمر موجه إلى كل من يؤمن بهذا الكتاب ، بل هو أمر موجه إلى
كل إنسان ، مسلما كان أم غير مسلم .
ولأن هذا الأمر يكشف عن
أنبل المعانى وأعدل التوجيهات ، تجد ملايين من البشر ، فى الدول المتقدمة
تلتزم به ، دون أن يكونوا مسلمين ،وربما دون أن يكونوا قد سمعوا أو قرءوا
هذه الآية القرآنية الكريمة ، ذلك لأن الحق أحق أن يُتبع ،وقد تتعدد
المسالك ، لكنها ، إن أخلصت السعى ، وحكّمت العقل والبصيرة ، توصلت إلى
الحق الذى ينبغى أن يكون .ومنذ عدة عقود ، قال أحد قادة المجتمعات التى
كانت تنهج نهجا ماركسيا مقولة على درجة عالية من الذكاء ، حيث أكد أنه لا
يهتم بلون القط ، سواء أكان أحمرا أم أبيضا ، بقدر ما يهمه قدرته على
اصطياد الفأر !!
ولا تعجب أيها القارئ ، عندما تدقق النظر فى
قائمة الدول المتقدمة ،وتقارنها بقائمة الدول المتخلفة ، إذ سوف تلحظ
اقترانا مؤكدا بين التقدم ،وبين العدل ، الذى يتمثل فى النظم السياسية فى "
الديموقراطية " ...سمها ما شئت ، فالمهم :
أن يكون للمواطن الحق فى المشاركة فى صنع القرار ..
والمهم أن يكون للمواطن حق اختيار حكامه ..
والمهم هو أن يكون للمواطن حق مساءلة حكامه ومحاسبتهم ،وعزلهم..
والمهم أن تكون للمواطن كرامته ، لبيس من حق أحد أن يمسها بسوء ، على أساس أن المخطئ ، هناك القانون ،وهناك القضاء للفصل فى ذلك.
والمهم أن ينال كل مواطن حقه الإنسانى فى العمل ،والسكن ،والتعليم
،والمأوى ،والمحاكمة العادلة أمام قاضيه الطبيعى ،والمأكل ،وغير هذا وذاك
من حقوق الإنسان المتعارف عليها، على قاعدة التساوى بين الجميع ،والتى
تلخصها المقولة الإسلامية الشهيرة " لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى ".
ومن هنا تجد فى الحكام فى هذه البلدان المتقدمة يحظون بأقل قدر ممكن من
الحراسة ، ولا توقف لهم الطرق والمواصلات ،ويتم تعطيل المرور ،ولا تخصص لهم
مئات الملايين من الأموال، ذلك لأنهم جاءوا عن اختيار حقيقى من الناس
بصورة لا تحيطها شكوك تزوير أو بلطجة، وإذا أراد الناس لهم أن يذهبواعن
الحكم، فإن هذا يتم بسلاسة ويسر ،دون تحايل ،ولعب بالقوانين ،وتغيير فى
الدساتير، فلماذا يفكر أحد فى الاعتداء عليهم والسعى إلى زحزحتهم بمختلف
الوسائل ؟
فإذا ما وليت وجهك شطر الدول المتخلفة ، فسوف تجد
العكس تماما ، من حيث احتكار السلطة ، وتفصيل النصوص الدستورية التى تشرع
لما يفعلون ،فتمر السنون وراء السنون ،والحاكم ممسك بتلابيب السلطة ، التى
يرادف بينها وبين الحياة ، فتكون الحراسات الشديدة ،ويكون البطش بكل من
تسول له نفسه أن يُحدث تغييرا .
ولن أذهب بك بعيدا فى أعماق
التاريخ الإسلامى ، حتى لا نسمع المقولات المعتادة ، من حيث الاتهام بالسعى
إلى العودة إلى الوراء ، ولنتجه إلى يومنا المعاصر ،وفى دولة غير إسلامية ،
هى البرازيل..
فعندما قاربت ولاية رئيسها "إناسيو لولا دا
سيلفيا " على الانتهاء ، تكاثرت المطالبات له بأن يتم تعديل الدستور بحيث
يسمح له بأن يرشح نفسه لمرة ثالثة ، فِإذا بالرجل يرفض ،ويصر على الرفض ،
مؤكدا أن ولايته لمرتين تكفى ، على الرغم من أن عمره لا يزيد عن 65 عاما
،وأن حياته السابقة كانت مغموسة فى الفقر المدقع ، مما يغرى بالرغبة فى
استمرار عز السلطة وأبهتها ،وعلى الرغم من أن الرجل استطاع فى مدة وجيزة أن
يقفز باقتصاد البرازيل ليصبح ثامن أقوى اقتصاد فى العالم ! وعندما جاء وقت
تسليم السلطة لخليفته ،وقف الرجل مودعا الشعب الذى أحبه ، هو يزرف الدموع
،لا لفقده عزا وسلطة ، فهو كان يستطيع الاستمرار فيهما ،وإنما من فرط ما
لمسه من حب الجماهير الصادق له .
ومع ذلك ، فنحن لا ننسى أن مثل
تلك الدموع سبق أن زُرفت من عيون كثيرين آخرين، لكن لعلة أخرى ، ألا وهى
لأنهم حُرموا من مثل هذه السلطة، عندما يجبرون على تركها ، قهرا لا طواعية !
ومن هنا ، فإذا عدت إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
من حيث الدعوة إلى مقاومة الطغيان ، تلاحظ أنه يجعله فى فئة " الجهاد فى
سبيل الله " !ولا عجب فى ذلك ، فالله هو العادل، الرحيم ،الرحمن ، وبالتالى
فإن كل سعى إلى إقرار مبدأ العدل والرحمة فى المجتمع ، يسير فى طريق مرضاة
الله .
لكنك تلاحظ فى الوقت نفسه أن صورة المجاهدة تتمثل فى "
كلمة حق " ، أو كما نعبر فى زمننا الراهن بمقولة " الوسائل السلمية " ،
التى ربما يستهين البعض بها ،ويتصور أنها قد لا تجدى مع صنف من الطغاة
أدمنوا السلطة وتعودوا الطغيان ،وهم أنفسهم لا يتعاملون مع معارضيهم إلا
بالحديد والنار ،لكن الحقيقة تقول بغير ذلك ، إذا تأملنا جيدا المساحة
الواسعة لما يمكن أن يندرج تحت عنوان " كلمة حق " ،فالكلمة قد لا تعنى مجرد
جملة مقولة باللسان تطلق شفاها ، أو مكتوبة بالقلم تحرر على صفحات الورق
،وإنما كل ما يمكن أن يعبر عما يريد الإنسان ، بحيث لا ينتج تخريبا أو
تدميرا أو سفك دماء ،ويكفى أن نشير هنا إلى مفهوم " العصيان المدنى " ، فهو
تعبير عن معنى الرفض ،والرغبة فى التغيير ،وهو لا يدمر ويُخَرب ويسفك
دماء.
وفضلا عن ذلك ، فالمقاومة يمكن أن تتمثل أيضا فى كشف
العورات فى النهج الحاكم ،ورفض الامتثال لما يردد ويذيع كذبا وبهتانا ،وخلع
أردية منافقة أصحاب السلطة وتزيين ما يفعلون وزخرفته بالخيال المريض ،وكشف
هذا الفريق من كتبة السلطة وحارقى البخور ،وضاربى الدفوف .
إن
من أكبر مآسى التقدم العلمى والتقنى مع الأسف الشديد ، أنه ييسر للطاغية
اليوم أبواقا أكثر من أن تعد وتحصى ، يمكن أن تحيط بالمواطنين من كل جانب ،
تردد الأكاذيب ،وتكرر المقولات الزائفة ، وتبث المفاهيم المغلوطة :ليل
نهار ،وفى كل المواقع ، بحيث يقع فريستها ملايين البسطاء ممن لم تتح لهم
فرص الوعى المستنير بالقراءة المدققة ،والمعلومات الصحيحة ،والقدرة النقدية
،والجرأة القلبية ، فيصدقون ما يقال ،ويؤمنون بما لا يجب أن يؤمنوا به ،
فيطول عمر الاستبداد ،ويطول زمن القهر .
وعندما تقرأ – مثلا – عن
وزير ثقافة إحدى الدول قوله أنه نجح فى أن يُدخل جمعا كبيرا من " عتاولة "
المثقفين فى بلده " حظيرة الدولة " ، تشعر بالخطر الشديد ، الذى قد يفوق
خطر أن يدخل تاجر ما سلعا فاسدة ، أو لحوما مسممة ! ولو دققت النظر فى
صفحات كبريات الصحف ، وإذاعات الدولة وقنواتها التلفزيونية ،ومنتدياتها
،وحفلاتها ومهرجاناتها وجوائزها ، فسوف تلحظ أن الحظيرة كانت قد اتسعت لكل
من يُزَين ويُجَمل ،ويبرر للسلطة ما تفعل . إن المساحيق قد تتنوع ،
والألوان ، ربما تتوزع ، والمواقيت أحيانا ما تختلف ،والأنغام يمكن أن
تتبدل ..لكنها ، جميعا صبت فى نهاية احدة ، ألا وهى استمرار ما يؤدى إلى
الطغيان والتمكين له.
إن هذا الصنف من الكتاب والمثقفين هم أفدح
الأخطار التى تحيط بعقول جماهير الناس ، ذلك لأن الكثيرين منهم ، هم بالفعل
على قدر عال من المعرفة والثقافة ومهارة الكتابة والقدرة على استخدام
أساليب الإقناع ، مما يمهد لهم الطريق أمام الناس فى تصديق ما يكتبون
،والإيمان بما يرددون ،ومن ثم فإن مقاومة الطغيان ينبغى ألا توجه للطاغية
وحده ،وإنما ، كذلك ، إلى سكان الحظيرة ، من حيث كشف زيفهم ،والسعى إلى
بيان الكثير مما يحصلون عليه من مكافآت ومواقع وجوائز وسفريات ،وصور تلميع ،
أسكرتهم ، فأدمجتهم فى آلة البغى والطغيان ، فهم عندما يدافعون عنها ،
إنما يدافعون عن مصالحهم ،ويسعون بطريقة لا شعورية إلى " تنويم " ضمائرهم.
مرة أخرى : الأمر ليس أمرا موجها إلى موسى عليه السلام وحده ،تجاه
فرعونه الذى طغى ،وإنما هو موجه كذلك إلى كل ذى ضمير مسئول،وعقل منير ،وقلب
عطوف ..فى كل زمان ،وفى كل مكان..