من
الواضح أن الأمور تتجه إلى التعقيد أكثر في الموقف الرسمي تجاه ثورة الشعب
المصري وموقف الشعب من السلطة الحالية ، ليس فقط بسبب عناد مرضي للرئيس
مبارك تجاه مطالب شعبه بالتنحي أو التفويض ، وإنما أيضا بسبب الصورة شديدة
السلبية التي ظهر بها نائبه اللواء عمر سليمان ، ففي حواراته الداخلية
والخارجية بدا الرجل أسيرا لثقافة رجل الأمن المحترف والضبابي أكثر منه رجل
سياسة ، واللحظة الحالية كانت مصر بحاجة إلى رجل سياسة أكثر منه رجل أمن ،
كما أنه تحدث باحتقار شديد لأبناء وطنه الذين من المفترض أنه أتى لكي
يبشرهم بالإصلاح .
تحدث عمر سليمان للصحافة الأمريكية قبل أيام قائلا أن الشعب المصري لا
يناسبه نظام ديمقراطي وأن ثقافة المصريين لا تتفهم الديمقراطية ، وإذا كانت
هذه هي قناعات الرجل الذي يقولون أنه يدير حزمة الإصلاحات التي يطالب بها
الشعب المصري للانتقال إلى حياة ديمقراطية حقيقية ، فهل لدى أحد أدنى شك في
أن ما يحدث الآن محض تهريج وخداع ومجرد محاولات التفاف على ثورة الشعب
المصري ، ومحاولة تفتيت زخم الثورة من أجل إنهائها ثم يستمر النظام القمعي
الديكتاتوري بنفس سياساته وإن كان بوجوه جديدة .
على جانب آخر وفي حديثه إلى رؤساء تحرير الصحف المصرية تحدث اللواء عمر
سليمان بنفس لغة رجل الأمن ، عن التمويل الأجنبي لهذه الثورة والعناصر
المندسة ، كما تحدث عن جماعة الإخوان بأن لهم أجندة خاصة جدا ، ورفض أن
يعترف بأي حق لهم في الحياة السياسية ، وقال أن وضعهم موكول إلى الرئيس
القادم لمصر ، فحتى مجرد الوعد بالقبول السياسي في المنظومة الرسمية رفض أن
يجري على لسانه ، مؤكدا دقة تلك المعلومات التي سربتها الوثائق الأمريكية
عن عدائه الشديد للإخوان والتيار الإسلامي بشكل عام ، وأنه يرى باطن الأرض
أنسب لهم من ظاهرها .
تحدث عمر سليمان عن مطلب تنحية الرئيس بوصفه يتعارض مع أخلاق المصريين ،
ولا أفهم ، ما دخل الأخلاق في طلب شعب من ديكتاتور أن يترك قيادة الدولة
التي فشل فيها وأهان شعبها طوال ثلاثين عاما ، ثم من الذي فوض عمر سليمان
لكي يتحدث نيابة عن المصريين وأخلاقهم ، هو يمكن أن يتحدث نيابة عن الرئيس ،
ولكنه ليس مفوضا للحديث كوصي على المصريين وأخلاقهم ، وأما حديثه عن أن
مبارك كأحد قادة حرب أكتوبر لا يليق إهانته ، يتجاهل أنه هو ومبارك أهانوا
أبطال أكتوبر بكل برود عندما قرروا سجن البطل الفذ ، رئيس أركان حرب
القوات المسلحة في ملحمة العبور الفريق سعد الدين الشاذلي ، فهل سجن أبطال
وقادة ملحمة العبور مشروع وأخلاقي ، بينما تنحية الديكتاتور إهانة .
اللواء عمر سليمان عندما تكلم عبر تليفزيون الدولة الرسمي صباح أمس عن
تطورات الأزمة ، قال أن الرئيس مبارك طلب عدم تعقب المحتجين ، وهو كلام
دعائي يكشف عن هيمنة ثقافة التعالي والقمع على مؤسسة الرئاسة ، لأن الذين
خرجوا إلى الميادين يحملون أرواحهم على أكفهم ودفعوا ضريبة الدم ثلاثمائة
شهيد وآلاف الجرحى لا يعنيهم كثيرا أن يلاحقهم شرطي أو لا يلاحقهم ، ليست
هذه قضيتهم ولا هذا في أولويات مطالبهم بأي وجه ، كما أنه من غير اللائق أن
يتحدث "المبشر بالإصلاح" عن أنهم لن يلاحقوا ثمانية ملايين مواطن مصري
احتجوا في الشوارع على نظام مبارك وفساده ، العقل السياسي يأبى مثل هذا
الخطاب ، والعقل المحض ينفر من هذا المنطق الكئيب .
يوما بعد يوم يثبت النظام السياسي إفلاسه الكامل ، على مستوى المشروعية
وعلى مستوى الثقة ، ويكفي أن أحد أركان الأزمة الآن يتمثل في فقدان الثقة
التام في شخص الرئيس مبارك ، ومع ذلك يرفض أن يترك السلطة ، والحقيقة أن
حديث اللواء عمر سليمان عن رفض تنحية مبارك ، لا يتصل بالأخلاق من بعيد أو
قريب ، وإنما يعود إليه هو شخصيا ، لأن تنحية مبارك يعني تلقائيا انعدام
الوضع الدستوري لنائبه ، وبالتالي تنحية سليمان عن المرحلة المقبلة ، وهذا
ما يزعجه ويتحاشى التصريح به .
استمرار الثورة ، وتطوير ضغطها السياسي ، هو خارطة طريق مصر الحقيقية
والوحيدة حتى الآن نحو الديمقراطية ، هذا هو ملخص المشهد السياسي في مصر
الآن .