رحلة إليسار المقلوبة: من قرطاج إلى بلاد الفينيق
امام الاسكوا في بيروت.. (مصطفى جمال الدين) |
أسعد ذبيان
19/01/2011
تقول
أساطير القدماء إنّ الأميرة الفينيقية عليسة (أليسار) هربت من مدينة صور
لتؤسس على سواحل شمال أفريقيا مدينة قرطاج (حسب النطق اللاتيني لكلمة قرت
حدشت: المدينة الجديدة). كان هذا أصل العلاقة بين الدولتين العربيتين
لبنان وتونس، والمتقاربتين نوعا ما في الحرية الاجتماعية ونظام القبلات
الثلاث أو الأربع على الخدين، وسلطات الأكل، والشطح (الرقص).
ولكن في التاريخ السياسي للبلدين مفارقات عديدة: تونس هي أول دولة عربية
ألغت الرق عام 1848، وكان لبنان في خلالها يكرّس أوّل مسمار في نعش
المساواة ويبتدع نظام القائمقاميتين (الدرزيّة والمارونيّة من العام 1842
حتّى 1860). في العام 1861، كانت تونس أول دولة عربية في وضع دستور، في
حين كان لبنان يتبع للمتصرفيّة العثمانيّة بمتصرف عثماني وتدخل أجنبي من
كل من هبّ ودب من إمبراطوريات القرن التاسع عشر. ألغي في تونس تعدد
الزوجات في العام 1956، في حين كان اللبنانيون يقفون بين ثورة بيضاء في
العام 1952، ونزاع مسلح في العام 1958. أمّا في العام 2011، فقامت تونس
بطرد دكتاتورها بقوة شعبية، في حين كان لبنان ينتظر تشكيل حكومة تجمع من
كانوا مختلفين سابقا، فتصالحوا، ثم اختلفوا اليوم مجددا، وربما يتفقون غدا
وفق بورصة المصالح الأميركية والسعودية والسورية والإيرانية.
هل يسمح التاريخ لأليسار المكللة «بالياسمين والصبار» (شعارات الثورة التونسيّة) أن تنطلق برحلة معاكسة صوب بلاد الحرف والحرب؟!
إحراق النفس مكلف
قبل أيام قليلة، أتاحت الوقفة التضامنيّة مع الشعب التونسي أمام مبنى
الإسكوا في وسط بيروت الفرصة للوقوف على الأحداث الأخيرة في تونس. دارت
نقاشات عمّا يجري في بلاد قرطاج. تصرّح فرح سلقا: «لطالما كنّا نفكر وندعم
زوال الأنظمة الطاغية، ولكن لم يخطر على بال أحد ماذا سيجري في ما بعد؟!».
بهذه الكلمات، وصفت فرح مشاعر التخبط والضياع التي تعمّ الموجودين فوق
المرج الأخضر مقابل الإسكوا. على مقربة منها مجموعة من الشبان وشابة
يناقشون «تداعيات» انتفاضة تونس. يدور الحديث حول هوية «البوعزيزي»
اللبناني المطلوب منه حرق نفسه لتأجيج حالة الثورة. يقول علي جمول: «لا،
لا.. لماذا نحرق فلانا؟ حجمه كبير، سيكلفنا أكثر من «تنكة» بنزين، وسعر
البنزين مرتفع الثمن في لبنان». يضحك الشباب ويكملون الحديث الجدي.
السؤال الخطير: «أين الثورة التالية؟»، يتكهّن البعض: «الأردن، أو ربّما
الجزائر، أم لعلّها مصر؟». يتفق المجتمعون على أمرين: أولهما أنّ مصر تشهد
تغييراً بارزاً في السنوات الماضيّة. والثاني أنّه سيكون لـ «ثورة
التوانسة» بلا شكّ القدرة على قلب الأوضاع والمشهد في العديد من البلدان
الناطقة بلغة الضاد، والمتشاركة في محنتي الجوع والقمع. يعرض الكل الأسباب
التي تدفعه لهذا الظن، مستعينا بمعلومات يمتلكها: «لديّ صديق أو رفيقة
هناك.. زرت البلاد منذ فترة..»، وكل ذلك في معرض الدفاع عن الفكرة الصائبة
التي يطلقها كل فرد منّا، نحن المحللين السياسيين.
يستمر استعراض الوضع العربي: «سمعتم ما الذي قاله معمر القذافي (مع حفظ
الألقاب لأنّ الدردشة ودية)؟» أو «شاهدتم الشاب الجزائريّ الذي كاد ينتحر؟
سيناريو تونس نفسه».. ويستكمل النقاش عن احتمالية الثورة في هذا البلد أو
ذاك.
العمال.. والحزب الشيوعي
ولكن لماذا لا يثور اللبنانيون كما فعل أهل تونس؟ «لأنّ وحدتهم ويدهم
الواحدة على عكس فرقتنا وتشرذمنا»، تتدخل سحر عند سماعها لمام الكلام.
يستلم محمد ترو دفة النقاش: «الأزمة في لبنان وطنيّة لا معيشيّة»،
وبالتالي لا تجمع المطالب بين كل ألوان الطيف. ويكمل الشاب تحليله: «أساس
الصراع في تونس اقتصادي، والذي حرّك الشارع في بداية التظاهرات هو أمر
مطلبي، وتلتها في ما بعد المطالبة بالحرية». تتدخل زينة لتعلن: «في لبنان،
لا وجود لما يسمّى تنظيماً شعبياً أو عمالياً.. لا وجود لأحزاب أو نقابات
يمكنها أن تضم تحت جناحها العمال، والفلاحين، والفقراء، بغض النظر عن
دينهم أو علمهم أو ثقافتهم أو حتّى أيديولوجيتهم..». يتبادر إلى الذهن
إمكانيّة لعب الحزب الشيوعي هذا الدور، تسارع زينة لنقض النظرية: «مشكلة
الحزب الشيوعي أنّه يجلس على الطرف، ويدعو الناس للانضمام إليه عوضا عن
ذهابه هو إلى الطبقات الكادحة.. تكمن المشكلة في فرض إيديولوجية معيّنة
على المنتسبين، في حين أنّ المطلوب هو أن يدعم الحركات العماليّة ويحاول
طرح أفكاره في هذه التجمعات المهتمّة بتحقيق التوازن الاقتصادي». لم
يتأخّر الرد عليها من قبل «الرفاق» الشيوعيين، فعمر الذيب، الأمين العام
لاتحاد الشباب الديموقراطي أعلن في الوقفة: «يواجه لبنان منذ سنوات وضعاً
اقتصادياً صعباً سببه سياسات أهل السلطة المتعاقبة بكافة تشكيلاتها، وضعاً
يستوجب تحركات شعبية مطالبة لا تقل عما حصل في تونس، لذلك نريد من محطتنا
التضامنية مع تونس اليوم أن تكون أيضاً وقفة تضامنية مع أنفسنا..»، قبل أن
يدعو للمشاركة في مسيرة «دافع عن لقمة عيشك» التي ستقام الأحد في 30 كانون
الثاني الحالي وتنطلق من الكولا حتى السرايا الحكومية.
ثورة.. أو استسلام
في لبنان أصوات أخرى كذلك. يسخر سليم من قرار قريبه المشاركة في الوقفة
التضامنيّة مع الشعب التونسي، يحلل الأمور على هواه: «أولاً، ما حصل في
تونس نتيجة عوامل خارجيّة، ولن ينجح الأمر في لبنان مهما فعلتم. في لبنان
العديد من الطوائف ويحدّنا من الشمال سوريا ومن الجنوب إسرائيل، لن يسمحوا
بقيام أي ديموقراطيّة». يعلّق جلال (اسم مستعار): «في تونس، يوجد حزب
سياسي حاكم واحد، بغض النظر إن كان شخصا ما أو عائلته، أما لبنان فبلد
عشائري مختلط وتحكمه الطوائف والعائلات المافياويّة».
ويضيف: «أنا من عائلة سنيّة في بيروت، عندما يتخرّج أخي من الجامعة مثلا
كيف تتوقّع أن يجد وظيفة من دون ارتباطات سياسيّة؟». وتزيد زينة المصري:
«في تونس دولة، ولكن في لبنان أحزاب تقوم بدور الدولة». أسباب يرى البعض
أنها تمنع قيام انتفاضة لبنانية ضد النظام. لكنها هي ذاتها الأسباب التي
توجب الثورة بالنسبة للبعض الآخر. يقول راني معقباً: «المشكلة هي في
اللبنانيين أنفسهم».
هذه المشكلة باتت واضحة حتى للتونسيين. يقول بلال: «أنا زرت لبنان العام
الماضي.. أنتم في لبنان ألف ملة وملة. عندما يزورنا سني في تونس نسأله إن
كان مع الحريري، والشيعي إن كان مع نصر الله.. أمّا نحن في تونس فقد كنّا
يداً واحدة». وتضيف أنوار بن شاهد: «في تونس لا توجد عندنا انتماءات
أخرى.. نحن كلنا تونسيون
الجمعة فبراير 18, 2011 11:27 am من طرف الكرخ