مصر.. وانتفاضة الخبز والحرية
مصريون يتظاهرون ضد نظام حسني مبارك الأسبوع الماضي.. (أ.ف.ب)
مصريون يتظاهرون ضد نظام حسني مبارك الأسبوع الماضي.. (أ.ف.ب)
كارول كرباج
20/01/2011
تداول الناس الخبر، والأكثر فقراً وتهميشاً بينهم نزل الشارع. مرهقون من أعباء سياسات الانفتاح الاقتصادي التي أُسقطت عليهم من "البنك الدولي" و"صندوق النقد". سياسات لم يختاروها، بل فٌرضت عليهم تداعياتها الاجتماعية ودفعوا ثمنها جوعاً وعوزاً. خرجوا من بيوتهم. لم يبقَ هناك مساحات سوى الشارع بعد أن ضاقت بهم الحياة نفسها. نزلوا بشعاراتهم العفوية، برومانسيتهم المُلهمة للعالم. يصرخون بأعلى حناجرهم ضد غلاء المعيشة والفروقات الطبقية التي أنتجتها تلك السياسات. أجاب النظام على المطالب الاجتماعية كالعادة مستخدماً أدواته القمعية. فأعطى الضوء الأخضر لأمنه بإطلاق الرصاص على المحتجين. والحصيلة 79 شهيدا و214 جريح.
المشهد أعلاه من شهر كانون الثاني / يناير نفسه. لكننا لسنا في تونس ولسنا كذلك في عام 2011. إنها انتفاضة الخبز الشعبية في مصر، يومي 18 و19 كانون الثاني / يناير 1977. شرارتها لم تكن مع الشاب الجامعي محمد بوعزيزي الذي احتجّ على ظروفه الاجتماعية كعاطل عن العمل بإحراق جسده، بل بقرار إداري صدر ليلة 17 كانون الثاني / يناير بإلغاء الدعم على الأرز والسكر والتبغ والدقيق و...
مع انتشار الخبر بين الناس، عمّت المظاهرات المناطق من الإسكندرية حتى أسوان، مروراً بالعاصمة التي شهدت حركات شعبية تطوّرت إلى مواجهة أقسام الشرطة وفيلات "الأثرياء الجدد" والملاهي الليلية، مرددين شعارات ضد التناقض الطبقي. ورغم طبيعة هذه الانتفاضة العفوية وغير المنظمة، سرعان ما اندمج الناس بـ"الطليعة التقليدية" في الحركة الطلابية اليسارية والحركة العمالية التي انطلقت من ثلاث بؤر أساسية: مصنع حرير حلوان، ترسانة البحرية في الإسكندرية وكلية الهندسة في عين شمس، لتمتد بسرعة إلى باقي المناطق جراء العدوى الثورية. إلا أن انتفاضة الخبز تم قمعها بالكامل في غضون يومين، ووصفها الرئيس السادات باحتقار بـ"انتفاضة الحرامية".
أسئلة كثيرة تراودنا في الذكرى الرابعة والثلاثين من انتفاضة الخبز في مصر، ولعلّ "ثورة الياسمين" في تونس (والتي ما زالت مستمرة ضد رموز النظام السابق) تقدم عناصر من الأجوبة على فشل ثورة الـ77.
"يا بطل العبور فين الفطور؟!" و"جيهان لابسة آخر موضة واحنا نايمين عشرة في أوضة"، هي بعض من الشعارات التي ردّدها الناس في 18 و19 كانون الثاني / يناير 1977 والتي بقيت شعارات اقتصادية - اجتماعية ولم تترجم إلى مطالب سياسية بإطاحة النظام القائم، على غرار ما حصل في تونس بعد أسبوعين على بداية الانتفاضة. لماذا رضخت الجماهير هنا للقتل والقمع ولم ترضخ في حالة تونس؟ كيف استطاعت الانتفاضة التونسية أن تصمد من دون أطر تنظيمية، أي قبل أن تقودها وتوجه مسارها الأحزاب المعارضة والنقابات والمؤسسات الحقوقية في الأسابيع الأخيرة، بينما قٌمعت انتفاضة الخبز في مصر خلال يومين فقط؟ المؤكد أن الأمد القصير لانتفاضة الخبز في مصر أعاق إمكانية تحوّل مطالب ارتفاع الأسعار إلى مطالب سياسية واضحة.
لكن، هل القمع الدمويّ والحكم البوليسي بحدّ ذاته عاملاً كافياً لتفسير عدم استمرار انتفاضة مصر لأكثر من يومين وبالتالي فشلها؟ هل تنازلات نظام السادات بعد إعلان حكومته سحب القرار الذي تم الاحتجاج عليه (وهو تنازلٌ بسيط.. على مستوى سقف المطالب) سبباً كافياً لوقف الاحتجاجات؟ لماذا على العكس لم يحثّ هذا التنازل المتظاهرين على رفع سقف مطالبهم؟ أسئلة تقودنا إلى السؤال الأهم: ما هي أبرز أخطاء الحركة الطلابية والعمالية التي كانت في أوجها في السبعينيات؟
يجيبنا الشاعر أحمد نجم من سجنه في شهر يناير الـ77 "(...) واسأليلي بالعتاب، كل قارئ في كتاب، حدّ فيهم، كان يصدق، بعد جهل وبعد موت، أن حس الشعب يسبق، أي فكر وأي صوت (...)" في إشارة عن أخطاء اليسار الاستراتيجية والتكتيكية في تلك الفترة. فرغم حجم الحركة الماركسية والقومية (الناشطة بشكل كبير في الجامعات) حينها، لم تجد "انتفاضة يناير" أطراً تنظيمية كافية لتحمل مطالبها والتدرج في شعاراتها إلى قلب النظام. وتفيد المراجع وشهادات القيادات النقابية والطلابية في تلك الفترة أنها أصيبت بالدهشة ولم تستوعب ما يحصل ولم تكن حتى مهيئة لحجم هذه الاحتجاجات. استراتيجياً لم يكن لديها أجندة اقتصادية وسياسية واضحة وتكتيكياً لم تعتمد سوى التظاهر وتجاهلت الإضرابات، رغم أن البؤر العمالية كان لها وزن كبير. ما سهّل على جهاز الأمن سرعة قمعها ومنعها من بلورة مطالب وقيادات تُمكنها من قيادة الثورة.
المؤكد أن الانتفاضتين لم تأتيا من فراغ ولم تكونا فقط نتيجة ظروف اقتصادية موضوعية. فمصر شهدت بدءاً من كانون الثاني يناير 1975 عامين من الإضرابات والاعتصامات في المصانع والجامعات. وتونس أثبتت أن لديها مؤسسات حزبية ونقابية (على رأسها الاتحاد التونسي للشغل)، تعمل رغم النظام البوليسي وتواطؤ العديد من قيادات هذه المؤسسات مع نظام بن علي. قيادات أُجبرت من قبل قواعدها على اتخاذ مواقف أكثر راديكالية، مستجيبةً لحركة العاطلين عن العمل (أو العمال غير النظاميين) والمهمشين. وهي فئة من الناس ليس لديها ما تخسره.
لكن الأهم في هذه المقارنة ليس تصنيف الثورات بالناجحة أو الفاشلة، أو القيام بمقارنة ساذجة بين واقعين مختلفين لا تعطي أهمية لكثير من العوامل المساعدة المهمة (كدور التواصل التكنولوجي والفضائيات الإعلامية.. الخ)، أو أخطر من ذلك تصنيف الشعوب بالقادرة على صناعة التغيير أو لا. أهمية إعادة قراءة هذه الانتفاضة ابنة السبعينيات بشكل نقدي قد يعطي دروساً مهمة لحماية "ثورة الياسمين" التي لم تنته بعد ولثورات عربية أخرى لم تقم بعد. قد تعطي "انتفاضة تونس" عناصر أجوبة لإخفاقات "انتفاضة مصر" والأهم أن تتعلم "ثورة الياسمين" من أخطاء "انتفاضة الخبز"، وأن تُراجع الشعوب العربية اليوم التجربتين بشكل نقدي وعميق.. لأن الثورات لا تقوم من فراغ ولا باستنساخ تجارب الآخرين