هل
تهزم إسرائيل نفسها؟
الفضل
شلق
تبحث كل الدول عن خرافة الأصل. تنشأ الخرافة بعد
التأسيس أو قبله. لكنها تساهم في جميع الأحوال في تطور الأمة - الدولة، في
تكوين الشعب وتوحيده. لعبت الخرافة هذا الدور في نشوء وتكوين دولة إسرائيل
إلا أنها خرجت عمّا يمكن ضبطه، فهي مشكلة كبرى للدولة الآن.
تأسّست
إسرائيل على خرافة صاغها كتّاب وصحافيون يهود في القرن التاسع عشر حول
الطرد والميعاد والعودة إلى أرض بلا شعب هي فلسطين.
انطلقوا من التوراة،
واعتبروها كتاب تاريخ، بالأحرى سجلاً عقارياً، يدلّهم على الأرض التي
توهّموا أنهم وُعدوا بها. التوراة ليست كتاب التاريخ. التاريخ يجد مصداقية
في الآثار المادية أو الآثار المكتوبة. لم يجدوا آثاراً مادية على وجود
يهودية في فلسطين ولم يستطيعوا الإثبات أنهم طردوا أو نفوا (أي حصل نفيهم)
من الأرض لا في مرحلة هدم الهيكل الأولى ولا الثانية. هم انتشروا في أماكن
عدة في العالم في جنوبي شبه الجزيرة العربية وفي شمال أفريقيا وفي بلاد
الخزر. وذلك نتيجة التبشير، إذ كانوا في مراحل أولى ديناً تبشيرياً. قضي
على مملكتهم في حِمْيَر قبل الإسلام، وقضى الإسلام على مملكتهم في شمال
أفريقيا. وفي القرن الثالث عشر قضي على مملكتهم في بلاد الخزر. ومن هناك
انتشروا في أوروبا الشرقية. وتكونت لغة الياديش التي تكلمها يهود أوروبا
الشرقية، لا يهود ألمانيا أو أوروبا الغربية أو بقية اليهود في العالم. هم
شعوب مختلفة في بلدان مختلفة، يجمعهم دين واحد. قامت بينهم حركة في القرن
التاسع عشر، نجحت منذ بداية القرن العشرين تنظيمياً واستطاعت إقامة دولة
إسرائيل عام 1948.
طلبت منهم وزيرة الخارجية الأميركية السيدة كلينتون،
مؤخراً، ترسيم حدود دولتهم. وجدوا أنهم لا يستطيعون ذلك، لأن معظم الأرض
التي يعتبرونها تاريخياً إسرائيلية هي أراضٍ محتلة عام 1967، وهي لا تقع
داخل إسرائيل المعترف بها عام 1947. مع ترسيم الحدود تبرز قضية المستوطنات.
المستوطنون الذين ربّتهم الدولة على أن أرض الميعاد هي فلسطين، وأن فلسطين
تمتد من النهر إلى البحر، يجدون أنهم يبنون خارج إسرائيل إذا تم الاعتراف
بحدود 1967 على أنها حدود نهائية. طبعاً ستزداد المسألة حدة إذا طُبّق حق
العودة لكل يهود العالم. فإذا عادوا جميعاً فإن أرض إسرائيل «الماضية
والحالية والمستقبلية» لن تكفيهم. لا تستطيع إسرائيل ترسيم حدودها. إذا
اكتفت بأرض ما قبل 1967 فإن لديها مشكلة مع جمهورها الذي يؤمن بخرافة الأرض
الموعودة بين البحر والنهر؛ وإذا ضمت الأراضي المحتلة عام 1967 فإنها
تتعارض مع ما يسمى الشرعية الدولية ومع «رغبات» داعميها؛ والأهم من ذلك،
سيصير اليهود في الدولة الواحدة مساوين تقريباً لعدد العرب الفلسطينيين. إن
ترسيم حدود إسرائيل يطرح أمام جمهورها وحكامها مشكلة عويصة تجعلهم يرفضون
حل الدولتين، واحدة للعرب وواحدة لليهود، وتجعلهم يرفضون حل الدولة الواحدة
لليهود والعرب سوية.
هناك تناقض بين الصهيونية وإيديولوجيتها. هم لم
يطردوا من أرض ما ولم يُنفَوا منها وهم لا يشكلون أصلاً واحداً، للادّعاء
بأن هذا الأصل كان فلسطين في مرحلة من مراحل التاريخ القديم. توسعت
اليهودية قديماً ليس بانتقال قبائلها قسراً من فلسطين إلى مناطق أخرى بل
بالتبشير وانضمام جماعات جديدة لليهودية، كما يحدث لكل الأديان. لكنه عندما
ظهرت المسيحية ونجحت في التبشير والتوسّع منطلقة من العهد القديم والجديد،
انكفأت اليهودية على نفسها ولم تعد دينا تبشيرياً وأصبحت ديناً منغلقاً،
استبعادياً، لا يقبل جديداً في صفوفه إلا على أساس الدين الذي اعتبره
عرقاً. تضطر إسرائيل، أن تكون دولة عرقية برغم ادّعاءاتها الليبرالية
والديموقراطية إلا أن الليبرالية والديموقراطية فيها محصورتان باليهود.
يحرم أهل البلاد العرب المقيمون من الديموقراطية وحق الملكية، وحتى حق
العودة بعد سنوات التهجير؛ في حين يُعطى حق العودة والتملّك لمن يدّعي أنه
هُجِّر منها منذ ألفي عام، علماً بأنه لم يهجّر أصلاً.
لا تستطيع
إسرائيل إلا أن تكون دولة عنصرية، فهي قائمة على مجتمع مغلق، وهي استبعادية
لغير اليهود، وهي تميّز بين من هو يهودي ومن هو غير يهودي على أرض فلسطين
المحتلة؛ وهي جاهزة للحرب دفاعاً عن خرافاتها التي تعتبرها أساس وجودها (لم
تستطع تحويل الخرافة إلى وقائع ليبرالية أو ديموقراطية، كما حصل عادة في
الدول – الأمم الأخرى)؛ هي دولة عنصرية إمبريالية: عنصرية في التعامل مع
الذات والآخر، وإمبريالية في احتلال أرض الغير واغتصاب خيراته.
ما ترسيم
الحدود إلا مسألة تقنية شكلية، في غالب الأحيان، في الدول الأخرى. إلا أنه
في إسرائيل، يظهر حقيقة الدولة العنصرية ويطرحها على بساط البحث. ليس طرح
ترسيم الحدود أقل أهمية ومفاجأة من تسريب الويكيليكس. كلاهما يعبر عن
محاولة إمبراطورية بائسة في سبيل إيجاد نوع من العقلانية لإرساء السياسة
الأميركية عليها.
ربما اعتبر الأميركيون أن المفاوضات سوف تؤدي إلى قبول
إسرائيل والدول العربية بحدود يجري ترسيمها، وربما كان ذلك سهلاً على
العرب؛ فالمبادرة العربية لعام 2002 تشير إلى ذلك. لكن المشكلة الكبرى هي
بين الأميركيين والإسرائيليين، وبين الإسرائيليين أنفسهم؛ المشكلة هي بين
أبناء الصف الواحد الإسرائيلي - الإمبراطوري. لم ينجح اتفاق أوسلوا لأن
إسرائيل (ومن وراءها الإمبراطورية) أفشلته عن قصد بعد أن قبل به العرب
الفلسطينيون؛ ومن المشكوك فيه أن تنجح مرحلة المفاوضات التي تحدث الآن ما
لم يغير الإسرائيليون ما بأنفسهم.
لقد نشأت إسرائيل ومضى على وجودها
حوالى ستين عاماً وهناك دائماً أجندة خفية وراء كل المفاوضات وكل الحروب
بينها وبين العرب، وبين العرب والولايات المتحدة. الأجندة الخفية هي أجندة
كل الأرض لليهود سواء كانوا مقيمين أو خارج إسرائيل؛ وهي أجندة اعتبار
العهد القديم أساس الدبلوماسية والعلاقات الدولية في القرن العشرين؛ وهي
أجندة تعتبر فيها الإمبراطورية أن العرب ليسوا كأمة تستحق الاحترام بل
منظومة دول مقطوعة الصلة بشعوبها وقابلة لكل ما يعرض عليها.
لم يعد لدى
العرب ما يقدمونه؛ كانت المبادرة العربية آخر ما يمكن تقديمه ولم يعد أمام
الأميركيين سوى العودة إلى حدود 1967 وإجبار إسرائيل على ذلك. وذلك يتطلب
«إقناع» الشعب الإسرائيلي أو إجباره على تغيير إيديولوجيته، والإقلاع عن
خرافاته. ذلك يتطلب أيضاً إقناع الكثير من الأميركيين، ممّن يقلّدون
الإسرائيليين بشأن العهد القديم، بغير ما يؤمنون به. فهل هذا ممكن؟ إذا كان
ذلك ممكناً تنجح المفاوضات.