1
غالباً ما يشكّل الآخر سياجه حول ممتلكاته، حول ما يتعلّق به، بشخصه،
بأحلامه الأشدّ سريةً وشراسةً وإبهاماً، حيث السياج يقي من الثرثرة العالية
والضحك المتدفّق والرقص المتفلّت من سكون اللحظات المعلّبة…
هكذا يعيش المسيّجون جنباً إلى جنب.. حيث كلّ منهم يرى العالم من بين
أسلاكه الشائكة… الأفراد والكيانات الكبرى والصغرى، الدول والممالك
والجمهوريات والثقافات والمذاهب…
كلّ منهم يريد أن يقضي أيامه في حدود ما صنعت يداه وأيدي أسلافه
المغلوبين على أمرهم.
رغم الأدب… والفنّ… والموسيقا.. لا زال ذلك المسيّج في حلٍّ من النظر إلى
الأفق حيث ترقص أيامه القادمة في اتّساع لا متناه…
يضيق السياج….
يضيق….
حتى يلتصق السلك الشائك بجسد الكائن المسيّج… يدخل به… يحيط عزلته
البيضاء المحفوظة في قلبه المنهك…
أشدّ عزلة من معنى العزلة…
هكذا حال الفرد من الجماعة… المسيّجون… حيث يفتك النسيان بهم… بنا… وسوف لن
يظلّ من أثر على هذه الأرض للمسيّجين… سوى أسلاكهم الشائكة التي تصفر
حولها رياح حزينة.. حزينة.
2
نحن المسيّجون
نحن الذين نتساءل عن تلك الكائنات التي تسكن أحداقنا
يكفي أن نصغي لكلّ من أودعناهم مستودع الجثث الذي نحمله في زاوية القفص
الصدريّ اليسرى، حتى نراهم، كائنات تحاول الإصغاء هي أيضاً لوقع الرياح
القادمة من بعيد…
وغالباً ما يغادرون أجسادنا في الليل.. حيث يتسلّلون عبر أحلامنا..
ويخرجون تباعاً.. ليصطفّوا على شرفات بيوتنا، غير مرئيّين، يقرعون أجراساً
لا نسمعها.. ويصطفّون بأجسادهم المتلهفة للريح لكي يكتبوا عبر الرياح
المسافرة قصصاً لا نستطيع نحن البوح بها، أو أننا دفعناها إلى هاوية
النسيان..
إنّه إذاً تاريخ الريح الذي يكتب الغائبين.. أولئك الذين أجّلناهم فذبلوا..
كما تذبل المعاني حين تغتصب..
تاريخ الغياب، غيابنا وحضورهم.. ولو حاولنا التمعّن في دهاليز النسيان،
لرأيناهم..
إنهم أشخاص ورغبات وتنهّدات وقيم.. مدن وأوطان وبلادٌ بأكملها.. ما الذي
يحدث حين تكون بلادٌ بأكملها في عداد المؤجّلين الذين يكتبون سيرتهم على
صفحة الرياح الراحلة إلى الأبد.
أين نحن إذاً…
بماذا نلثغ صباح مساء، وأيّ تاريخٍ هذا الذي نلقّنه لأطفالنا!!!
من منّا يستطيع اللحاق بالريح لكي يبحث عن حبّ ضائع.. أو ألم غائب.. أو
صرخة مؤجّلة..
من منّا يلاحق الريح لكي يتعفّر بالمطر وبرائحة الزواريب والأزقّة والأرصفة
التي مسّتها أقدامنا وقلوبنا..؟!
لا أحد.. لا أحد حقاً..، حيث، تعبر الريح ولا تنتظر أحداً
ها نحن إذاً.. وكما كنّا منذ زمن سحيق نسير في قوافل السلالات الصامتة
بعكس اتجاه الريح، حيث كلُّ ما ينبض فينا، يغادرنا مع الريح.. حتى الألم..
حتى الرغبة في الموت.. كأشباح مفرغة من كلّ شيء، سوى من القبور …
نحن القبور الراجلة، نقول:
سلاماً أيتها الريح..
سلاماً أيتها البلاد الراحلة لتكتب تاريخها في عويل الريح وعبورها.. وتترك
لنا قبورنا الشاسعة.. الشــــــــاسعة.