لا يعلمُ شيئاً.. لأنه غبيٌ
وجاهل. لا يستطيع أن يفكر بشكل جيد، ولا أن يدخل في نقاشات عقلية. لا
يستطيع أن يفكر في مصالح هذا البلد الّذي يعيش فيه. إنّه بلدهُ، ومع ذلك لا
يشعر بواجبات تجاهه. هل كلُّ هذا نتيجة قيامه بأعمال بسيطة للغاية؟ أعمال
لا تتطلب فهماً أو مهارة مّا. قطع يركبها ويركبها، وهكذا يبقى إلى أن يفرغ
من قطعه اليومية. وغداً نفس العمل ينتظره، قطعٌ أخرى يركبها.. خمس سنوات
مرّت وهو يركبُ قطعاً لا يملكها! أثناء العمل لا ينبس بكلمة، لا يضحك.. لا
يحزن، بل يحتفظ بجموده ولامبالاته.
هو رجلٌ وقع في الاغتراب. فقد القدرة على الخلق والإبداع والاجتهاد. كلّ
فضائله وخصوصاً العقلية منها قد تلاشت. لقد أعاق العمل نموه العقلي، لم يعد
قادراً على التأمل ولا على الانشغال بالحبّ أو بالحرّية. صار همه الوحيد
إشباع رغباته البيولوجية من أكل ونوم، هدفه صار حقيراً، يركض خلف غرائزه
ويسعى إلى إشباع شهواته.
عملهُ مفروضٌ عليه، يعمل كي يعيش، كي يحصل على ضروريات ماديّة تبقيه على
قيد الحياة. وأتساءل: أيُ حياة تافهة يعيشها صاحبنا؟ من يصدّق أنّه كان
يعتقد في الماضي أن العيش من أجل المتعة الجسدية يمثل أدنى مستويات الحياة
بينما تكمن السعادة في التأمل والتجريد.
يشتغل 10 ساعات في اليوم، ينجز 400 قطعة. رغم هذا التعب.. عليه أن يحمد
لله لأنه لم يولد في القرون السابقة حيث كان العُمال يشتغلون 14 ساعة
يومياً مقابل أجور زهيدة. حياة صاحبنا تبتدئ حين يجلس في مقهى شعبي، حين
يدخن تبغاً رديئاً، حين يقابلُ أصدقاءه المتعبين كحاله. حياته لا تتجاوز 4
ساعات في اليوم، تبتدئ بعد أن يستيقظ ويفرغ من عمله.
لماذا يعمل؟ هل ليحقق ذاته ووجوده؟ قطعاً لا.. إنّه يعمل لأنّه مجبرٌ على
ذلك. يذل نفسه بممارسته عملاً يفقده كرامته. من في حالته المزرية لا يمكن
أن يرى العمل مصدراً للملكية ولا مصدراً للثروة ولا حتّى ماهية خالصة
للإنسان. من في حالته رجلٌ غريب عن منتوج فاعليته، رجلٌ لا يثبت ذاته في
عمله بل ينفيها. خمس سنوات من العمل الشاق في ذلك المعمل الكئيب دمرّت فكره
وجعلته إنساناً مستلباً.
لقد تغير صاحبنا، كان رساماً، كان شاعراً، كان موهوباً في أيام شبابه.
والآن كل مواهبه اختفت. فكيف يستطيع أن يحتفظ بمواهبه مَن العمل يشرب كل
وقته؟ كيف يستطع أن يحتفظ بمواهبه مَن يعيش حياة فوضويّة لا راحة فيها؟ لا
يستطيع أن يتمشى في الهواء الطلق، لا يستطيع دخول متحفٍ، ولا قراءة كتابٍ.
في النهاية، تخامرني فكرة: هل من الممكن أن عيش صاحبنا هو عيشٌ من أجل
إعداد جنازة محترمة لنفسه؟ هل يعمل الإنسان ويغترب ويفقد ذاته و يتعب ويشقى
من أجل أن يشتري قبراً ومن أجل إنجاب أبناءٍ يذهبون في جنازته ويتذكرونه
أحياناً؟!
صحيحٌ إذن أن حياة العُمال تعيسة.