1- ماذا ترى في الغد المرتقب؟
ظلّ هذا المساء؟
وماذا في هذا المساء؟
ظلّ الأمس البعيد؟
وماذا في الأمس البعيد؟
ظلّ الموت؟
وما الموت؟
الموت موتان : واحد تقودك إليه أحلامك، وواحد يدفعك إليه أعداؤك.
وما هي أحلامك؟
مثل الفراشة : أن أطير بلا ترخيص، وأن أحطّ في الحقل الدّلاليّ الّذي
أريد، وأن أستنشق هواء نقيّا من الجواسيس والأكاذيب، وأن أنام على رقرقة
الجداول وحفيف الغصون لا على فرقعة القنابل وفحيح اللّصوص وآهات
السّجون…فإن متّ بعدئذ يؤويني جيل بعد جيل.
ومن هم أعداؤك؟
كثّر لكنّ شكلهم وحيد : أولئك الّذين ما انفكّوا يردّدون : "استرح في خوفك
الأبديّ، نحن عنك ننوب في الحلم واليقظة، نحن السّلطة الّتي في كلّ نقطة،
نحن آلهة القرار والمصير!".. فهل إذا متّ مقهورا تبكيني عيناي؟؟
2- أطلال الماضي قد تحرّك ساكنا فينا.
قد تشرحنا وتشجينا.
قد تفرحنا هنيهة أو تبكينا…
لكنّها لا تفعل ما يفعل الغروب فينا، في كلّ أمسية صيفيّة، حين يأخذنا إلى
ما ليس بعد يجلينا.. إلى ما يجعل النّفس تذوب شوقا لرؤية ما يظلّ يحيينا..
عندما تحملنا الرّعشة المفاجئة في الجسد المشظّى إلى ما وراء النّظرة
المنبثقة توّا من حدقة اللّيل في اتّجاه مرقد الآتي..
ذاك هو الحلم : برق يقايضك الوجود بلحظة نادرة فالتة!
معين أحلامي لا ينضب، وفي قلبي من الأنهار الّتي تراودني سباحة، كثير من
الدّوائر.
إنّي أرى الأحياء قليلا وأحلامي بلا عدد : بعضهم إرب من جسدي..بعضهم أشباح
ذاكرتي..وبعضهم لم يولد بعد!
وحدها نافذة القطار الّذي يأخذني الآن إلى المحطّة المجهولة بعدَ الغروب
مشرَعة أضلاعها على الحياة في "انخلاقها" المستمرّ : الغابات لاهثة خلف
وعدها، السّهول تتعرّى في شبق المحبّين لغيمة صيف طارئة، الطّيور تتسامر في
أعشاشها غير عابئة بما يعدّه صيّادو الوقت ليوم الغد…
لِمَ لم أكن شجرة أو أجمة أو قبّرة؟؟ يا ليتني كنت!
3- في المدينة الّتي تركتها، في المدينة الّتي خذلتني وما تركتني، ركام على
ركام من الأجداث، روائح الموتى الّتي عمّت بأرجائها عالقة بأنفي
وذاكرتي..كلّ الميادين صارت رموسا، وكلّ الرّموس صارت ميادين :
في قلب المدينة مقبرة الحديث والحكاية، في اليمين مقبرة الفجر الوليد، في
اليسار مقبرة الفعل وما يريد، في غربها مقبرة الحقوق، في شرقها، حيث يرقد
الشّهداء، مقبرة الأناشيد، وفي أطراف المدينة القرطاجنّيّة تبكي أكبر مقبرة
في تاريخها المعاصر حسب بعض المؤرّخين الجدد، هي مقبرة الموازين!
وهذا أنا… واحد من نفر قليل يفرّ من عدوى الموت الرّخيص. ولكن…حتّام تدوم
نجاتي؟ وما لذّتي، وأولئك أهلي وخلاّني ورفقتي، يكابدون طاعون الصّمت
المميت موتا لا نكهة فيه؟ وهل المدينة الّتي يأخذني إليها القطار
الافتراضيّ هذا ستنجو من براثن الطّاعون، من مخالب التّيه؟
لكم ضحكت ضحك المقهور حين توهّمت وجود مدينة عربيّة واحدة لم ترتع فيها
وحوش المعاني ولم تكتسح تفاصيلها قبور الأحلام!
ضغطت بداخلي جرس الإنذار..توقّف القطار..نزلت..وولّيت وجهي خنجر المدينة
الّتي ذبحتني.
4- ذا الحزن الّذي يجلّل نظرتك الآن وخطواتك الآتية، يشتّت أعضاءك وينغّص
عليك المتع..
ذا الحزن الّذي يزعج الأحباب ويدهش الأغراب..
ذا الحزن الّذي يؤنس وحدتك ويؤثّث غربتك..
ذا الحزن الّذي يصبغ بلون الحداد نهارك، ويغرق في بحار الرّماد أشعارك..
ذا الحزن الّذي يقاسمك الوقت والبيت، اللّغو والصّمت، الّذي تراه في كلّ
الفصول والحقول، وتسمع أنّاته في الأحياء والأكواخ وأعماق الصّدور، وتلمس
نبضه الحيّ في ورقاتك وأقلامك وكلمات لا تثور، وتشمّه في نسيم الصّباحات
العليلة والمساءات الكليلة، في عطور الشّريفات والمومسات، وترتشفه في رضاب
حبيبتك وقهوتك السّوداء بلا سكّر.
ذا الحزن الّذي تقرؤه في عيون المسافرين وزفرات الكادحين والحارقين،
واحتراق أرض أجدادك العطشى…
ذا الحزن الشّامل الدّائم.. هو معلّمك الواحد الأعظم، يعلّمك ما لم تعلم،
يعلّمك أنّ الحلم نور العالم الّذي لا يضيء إلاّ في القلوب الكبيرة!
5- هناك حلّ مّا؟
حذار، قد يخفي القطار قطارا!
هناك حلّ مّا؟
لا تنظر إلى الخارج وتمعّن في ما فيك :
هناك فتنة الفجر الحقيقيّ، روعة الفضاء الممدود بلا حدود..
هناك المنبع والمرتع..السّرّ والسّحر..
هناك الائتلاق والانطلاق..
الانولاد والاعتداد..
عظمة الحرف فيك وقوّة البقاء الّتي تبقيك..
فيك السّبيل والسّلسبيل..بداية الخلق وخلق البدايات..
لا تنظر إلى الخارج وتأمّل في ما فيك :
تجد أجنحة وأحصنة.. وجيشا بأكمله في شكل أخيلة..
سيأتيك حينها القاتل صاغرا، وقد تبدّت قوّته الزّائفة عن ضعف العقل وخواء
الضّمير..
ستنكسر الحواجز وتسقط الأقنعة عن حماة اللّصوص ومحرّفيّ مجرى النّهر
الإنسانيّ..
سيرحل الطّاعون عن المدينة حينها، ويكبر في قطار الحياة الحلم…
لأنت الحلم والحلم أنت!!