>
جـورج لابيكـا أو تغــيير
العـالم بـلا معـلِّم وجهة نظر:
جـورج لابيكـا أو
تغــيير العـالم بـلا معـلِّم
15 نوفمبر 2009
ليس من المتيسر أن تُستعرَض أعمال
الماركسي الفرنسي جورج لابيكا في صفحات معدودات، وهو الذي كرَّس نحو خمسة
عقود من حياته، منذ الخمسينات من القرن الماضي وإلى أن توفي يوم الخميس 12
شباط/فبراير 2009 في لوبيك Le Pecq بضاحية باريس، للعمل من أجل تغيير
العالم بالممارسة السياسية والإنتاج الثقافي، عبر العديد من الكتب
والمقالات والندوات والأبحاث والمواقف والنشاطات والتدريس الجامعي في
الجزائر وباريس العاشرة (نانتير). هذا الإنتاج من الممارسات والأفكار الذي
يشكِّل اليوم جزءاً من تاريخ النضال من أجل التحرر الوطني والثورة
الاشتراكية في العالم، ويمتزج بالتاريخ الثقافي والسياسي لمسار الثورة عبر
العقود الأخيرة.
توفي لاببكا عن تسع وسبعين سنة إثر نزيف
دماغي وهو يخوض المعارك الإيديولوجية والسياسية دون أي تهاون في خدمة
القضايا التي شغلت عليه حياته، بالرغم من أن النكسات التي تتعرض لها
الثورات، شيوعية كانت أم وطنية، وفي مقدمتها ثورة التحرر الوطني الجزائرية
والفلسطينية، وثورة أكتوبر، وإن كانت نالت من شيوعيين كثر، فإنها لم تنل من
عزيمته وتصميمه على النضال من أجل انتصار الثورات في جميع أنحاء العالم.
عندما وصل جورج لابيكا إلى الجزائر في
منتصف الخمسينات وهو في منتصف العقد الثالث من عمره لتدريس الفلسفة في
مدارسها الثانوية، شارك بصورة سرية في النضال الثوري لجبهة التحرير الوطني
الجزائرية. ولم يغادر الجزائر إلا في نهاية الستينات، وذلك بعدما كان
مَثَّل صحيفة "المجاهد"، لسان حال جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والتي
كان يشارك سريا في تحريرها من حي القصبة أثناء الاحتلال الفرنسي، في مؤتمر
هافانا، وبعدما أمضى أكثر من عشر سنوات في تدريس الفلسفة في مدارسها أولا،
ثم في جامعتها بعد نيلها للاستقلال. وكانت منظمة الجيش السري OAS التي
ناهضت بالقوة استقلال الجزائر قد طلبت رأسه. بيد أن أمله برؤية جزائر
ديمقراطية واشتراكية لم يبارحه قط. وإلى هذه المرحلة من حياته يعود تاريخ
عمله "الدين والسياسة عند ابن خلدون. دراسة في إيديولوجية الإسلام"
Politique et religion chez Ibn /
Khaldoun. Essai sur l’idéologie musulmane. وعندما خيَّمت ظلال الحرب
الأهلية على الجزائر أسّ س في العام 1993 برفقة إتيين باليبار، وبيير
بورديو، وجاك دريدا، وجان ليكا، وجمال الدين بنشيخ، وآخرين "اللجنة الدولية
للتضامن مع المثقفين الجزائريين". وفي العام نفسه أسَّس لجنة تيقُّظ من
أجل سلام حقيقي في الشرق الأوسط Comité de Vigilance pour une Paix réelle
au Proche Orient. وتوجّه في العديد من المرات إلى الأراضي الفلسطينية
المحتلة للتضامن مع الفلسطينيين، وبوجه خاص عندما أََحكمت سلطات الاحتلال
الإسرائيلية تطويقها للقيادة الفلسطينية. وكان حتى أيامه الأخيرة يقود حملة
للتضامن مع الشيوعيين والثوريين الذين اختاروا العمل المسلح ضد النظام
الرأسمالي والبورجوازية، وفي مقدمتهم جورج إبراهيم عبد الله، وقادة منظمة
أكسيون ديريكت الذين يقضون في السجون الفرنسية منذ أكثر من عقدين اثنين
أحكاما بالسجن.
وفي هذه الأثناء، تصدى لابيكا لتخلي الحزب
الشيوعي الفرنسي في عهد أمينه العام جورج مارشيه في منتصف السبعينات عن
السياسة الثورية، وناهض اندماج الحزب ببنيات وأجهزة النظام السياسي
البورجوازي. الأمر الذي قاده إلى الانسحاب من هذا الحزب تحت ضغوط القيادة
التي كانت تُمارَس عليه وعلى عدد من رفاقه لحملهم على الانسحاب منه، أو
بالأحرى إلى طردهم من صفوفه. وكان أسَّس في تلك المرحلة مع عدد من رفاقه
شبكة تُعْرَف باسم "من أجل الوحدة عبر النضال" Pour l’union dans les
luttes. ويقول إتيين باليبار في هذا المعرض: "وإني ما أزال أرى لابيكا، وهو
ممن يصعب إسكاته، والذي يتمتع برباطة جأش في مواجهة كل الامتحانات
القاسية، وهو يواجه الأمين العام جورج مارشيه، سريع الغضب، في اجتماع عاجل
دَعَت إليه قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي من أجل إرغام المثقفين الشيوعيين
الذين كانوا يتجرؤون على انتقاد سياسته الانتهازية، وتفكيره الضيِّق، على
الخضوع له". ويعود تاريخ هذه الواقعة إلى العام 1979، وهو تاريخ صدور عمل
مشترك ساهم فيه لابيكا إلى جانب إتيين باليبار، وجان بيير لوفيفر، تحت
عنوان: "لنفتح النافذة يا رفاق" Ouvrons les fenêtres camarades، وفيه
يوجِّه عدد من المثقَّفين الشيوعيين انتقادات للأداء الوظيفي للحزب
الشيوعي، واندماجه في سلطات الدولة.
وإلى هذه الفترة أيضا يعود تاريخ الإعداد
للمعجم النقدي للفلسفة، والذي صدر في طبعنه الأولى في العام 1983 قبل أن
يُترجم إلى العديد من اللغات، منها اللغة العربية (معجم الماركسية النقدي،
جيرار بن سوسان، جورج لابيكا، صفاقس-بيروت، دار محمد علي للنشر-دار
الفارابي، 2003). ويَسَبق هذا العمل من حيث توقيته "قاموس التاريخ النقدي
للماركسيات" Historisch-kritisches Wörterbuch des Marxismus. قيد الإنجاز،
والذي يصدر تباعا في ألمانيا تحت إشراف صديقه فولفغانغ فريتس هوغ
Wolfgang Fritz Haug. هذا المعجم يَستحق اليوم، كما يقول لابيكا نفسه
مخاطبا فولفغانغ بلهجة ممازحة، اسم قاموس لاببكا، أسوة بلاروس، وليتري،
طالما لم تُنشر مواده إلا بعد مراجعات ومناقشات مطولة في بعض الأحيان ما
بين كاتب المصطلح ولابيكا الذي يتحمَّل مسؤولية الدفاع عن كل مضامينه بصورة
كاملة، من حيث هي تنسجم مع تحليله ونقده للأعمال الماركسية. وقد ساهم هذا
المُعجم، الذي كان يُعتبر رجعيا وتحريفيا في الدوائر الرسمية بموسكو وغيرها
من بلدان "الاشتراكية الواقعية"، في إحداث تغيير جذري لقراءة أعمال ماركس
وإنجلز وغيرهما، ولفهم تاريخ الماركسية والحركة الشيوعية، وذلك باعتراف
مثقفين شيوعيين وماركسيين كثرٌ.
ينتقد لابيكا في أعماله الماركسية في
أنماطها الأكاديمية والتحليلية والاقتصادية والفلسفية والمنطقية. ويرى أن
الماركسية المدفونة حيَّة تحت الأرض under grund، أو تحت أثقال مكوَّمة من
الفلاسفة الماركسيين والجامعيين وغيرهم، بما في ذلك الستالينية، قد حَجَبت
عن الحركة الثورية ما يربط أعمال ماركس وإنجلز أو الماركسية بالشيوعية من
رباط وحدة. كما شوهَّت الحيز المركزي للممارسة أو لفعل الإنسان في الطبيعة
والمجتمع والتاريخ في بلورة الوعي والنظرية، ورجَّحت كفة النظرية والأنساق
الفكرية والمنطقية على التاريخ وما يحمله من تطور وتغيير. ذلك أن الشيوعية
على حد قوله، من حيث هي أعلى درجات الوعي النظري وقد تحوَّل إلى ممارسة
سياسية منسجمة مع المعطيات المادية للتاريخ، هي هدف الماركسية. إذ إن
المادية التاريخية توحِّد ما بين الذات والموضوع. النظرية الواعية ومادة
التاريخ ومكوناته. فالنظرية هي من طينة الفعل، والمفهوم هو نفسه الفعل.
ويَنتَقل الوعي، حسب ما يوضِّح لابيكا، مع المادية التاريخية التي تُسجِّل
لثورة إبستمولوجية، من حيِّز الأنساق الفكرية والنظرية إلى المجتمع، والقوى
المنتجة، والطبقة العاملة، والحزب؛ وهي التي تُنتِج المعرفة. والشيوعية،
كما يرى، هي اليوم الحل للخروج من هذه الكثرة المتضاربة والمتنازعة من
القراءات الماركسية. وقد انتقد ما بعد سقوط حائط برلين أعداء لينين مبيِّنا
أن فلاديمير إيليتش أبعد ما يكون عن الجمود اليقيني الذي لحق به تحت تأثير
الستالينية. وثابر عهده في نهاية الستينات، على العمل من أجل استعادة
المادية التاريخية من المثاليين والماديين الآليين والاقتصاديين، وانتقد
فلسفة البراكسيس، كي يبيِّن أن الأولوية في المادية هي للتاريخ وللممارسة
حسب ما يبيِّنه في عمله "كارل ماركس. أطروحات عن فويرباخ" Karl Marx.
Thèses sur Feuerbach، أي لتدخل الإنسان في الطبيعة، والمجتمع والتاريخ
الذي يفرض صراعاته وتناقضاته على السياسة. حتى أن نقاد لابيكا خلطوا ما بين
لابيكا وألتوسير واعتبروا أن الأول كالثاني ينحرف بالماركسية في انحراف
سياسي. إلا أن مثل هذا النقد وإن كان يصح في ألتوسير، طالما يَعتبر هذا
الأخير أن الصراع الطبقي ذا طبيعة ثقافية وإيديولوجية، فإنه يُغفِل أن
السياسة لدى لابيكا هي نفسها المادية التاريخية، من حيث هي نمط الإنتاج،
وصراع الطبقات، وموازين القوى، والتجديد، والوعي المزيف أو نقد
الإيديولوجية البورجوازية، والتطور، وغير ذلك من حدود مادية متغيِّرة
الأشكال عبر الزمان والمكان.ويشرح لابيكا في أعماله كيف تُسَجِّل أعمال
ماركس وإنجلز للقطيعة مع الفلسفة، ومخرجا منها إلى السياسة، حيث تَحتل
المعرفة مكانها في قلب السياسة والعمل أو الممارسة.
وإلى هذه الثورية في نشر الماركسية
والشيوعية في طريق مخالف للجامعيين وغيرهم من أكاديميين وقادة أجهزة حزبية
وثقافية ونقابية، يعود السبب في مقاطعة أجهزة الإعلام الرسمية وشبه
الرسمية للابيكا وأعماله، لاسيما وأنه يدعو إلى ديمقراطية جذرية يُطلق
عليها اسم ديمقراطية العدل حسب ما يظهر في عمل له تحت عنوان "الديمقراطية
والثورة"Démocratie et révolution، والعنف الثوري في مواجهة كل أشكال العنف
الأخرى يتقدمها نمط الإنتاج الرأسمالي، كما جاء في إنتاجه الأخير تحت
عنوان "نظرية العنف" Théorie de la violence. ويفنِّد ديمقراطية السوق
ونظامها الانتخابي في فرنسا (على سبيل المثال: "في قبو الأعمى"، الحوار
المتمدن، العدد 1889). ولما كان لابيكا يَنبش – إن صح التعبير - في ماركسية
مدفونة حيَّة تحت أرض الجامعات والأحزاب الشيوعية وغيرها من المؤسسات
السياسية والثقافية، فإن أعماله لم تجد طريقها إلى الشهرة التي رافقت أعمال
غيره من الماركسيين والشيوعيين. لاسيما وأنه تبنِّى في وقت مبكِّر من
شبابه الثورة الجزائرية، ودافع عن أنصار العنف الثوري، وانخرط في النضال مع
الثورة الفلسطينية. وبيَّن في العديد من مقالاته ما تمارسه إسرائيل من
"إبادة" للشعب الفلسطيني. ومن أقواله في هذا المعرض أن السياسة الدولية
"تريد أن تتخلَّص من الشعب الفلسطيني، بما في ذلك السياسة العربية، بأي ثمن
كان". وإلى هذه الممارسات يعود السبب وراء حظر صحيفة لوموند، على سبيل
المثال، نشر اسمه على صفحاتها منذ منتصف الثمانينات. ولم تأت على ذكر
لوفاته وأعماله في مقال مختصر يعرض لسيرة حياته وإنتاجه إلا بعد مرور الشهر
الواحد على 12 شباط/فبراير 2009. ولم يُنشر، علاوة على ذلك، هذا المقال
في الصفحات الثقافية، أو منبر الآراء، وإنما نيشِر في صفحة الوفيات!!!
وامتنعت صحيفة ليبراسيون اليسارية (كذا) عن التنويه بوفاته. ولابيكا بالرغم
من أنه كان يقود مركز دراسات لتاريخ الأفكار في المركز القومي للبحث
العلمي CNRS، وهو أستاذ ذو كرسي في جامعة باريس العاشرة طوال ثلاثين سنة،
وأستاذ في إحدى أعلى المدارس العليا في فرنسا، المدرسة العليا للأساتذة
ENS، لم يَظهر على شاشة التلفزيون الفرنسي بجميع قنواتها الرسمية والخاصة
إلا مرة واحدة. إن هذه المقاطعة لإنتاجه تعود، بين أسباب أخرى، إلى تبنيه
لديكتاتورية البروليتاريا التي لم تجد طريقها إلى الواقع حتى اليوم بما في
ذلك في عهد لينين حسب ما يُبيِّن ذلك في أعماله، وإلى أنه يَعْتًبر العنف
الثوري الأسلوب الوحيد الذي يَفرض نفسه على المعذَّبين والمستغلَّين في
مواجهتهم لعنف نمط الإنتاج الرأسمالي وأجهزته الإيديولوجية. وقد دافع بقوة
عن حرب تموز/يوليو 2006 في جنوب لبنان كما يتضح ذلك على سبيل المثال في
مقال له تحت عنوان "لبنان"(الأخبار"بيروت، 6 تشرين الأول/أكتوبر 2006).
وحارب الغزو الأمريكي للعراق حسب ما يتبين ذلك من مقال له تحت عنوان
"العراق هو البرهان"، يحدوه في ذلك كله اعتقاد مؤداه أن الإسلام مناهض
للإمبريالية حسب الأنماط اللبنانية والفلسطينية والعراقية، وأن من السهل
على الإمبريالية أن تحارب الدين، لكنها لا تستطيع أن تأتي على المقاومة،
على حد قوله في حوار مطول مع كاتب هذه الأسطر يصدر قريبا باللغة العربية
تحت عنوان:"في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم".
لكن إنتاجه بالرغم من هذه المقاطعة قد
شقَّ طريقه في مجالي الثقافة والسياسة عبر الحركة الثورية بجميع امتداداتها
وأنماطها، من حركة التحرر الوطني إلى مناهضة العولمة مرورا بالأحزاب
الشيوعية الثورية. "كان جورج لابيكا من عظماء المدافعين عن شعوب العالم
الثالث، ويدعو إلى النضال بقوة وبجميع الأشكال ضد الأمبريالية"، على حد وصف
صحيفة التيار الأحمر في أسبانيا (كوريينتي روخا(Corriente Roja . "إنه أحد
أكثر الفلاسفة الماركسيين ابتكارا وموهبة في القرن العشرين"، كما تصفه
الصحيفة الشيوعية في البرتغال أُودياريو Odiario. "لقد توفي المفكر البارز
والمناضل المناهض للرأسمالية، الماركسي من الأصل القح. وكالمعتاد، فإن
الأجهزة الكبرى للإعلام قد خرست" حسب ما كتبت باكيتا آرماس فونسيكا Paquita
Armas Fonseca. وتقول من عاصمة فنزويلا كاراكاس منسِّقة شبكة المثقَّفين
والفنانين للدفاع عن الإنسانية Red de Intelectuales y Artistas en defensa
de la Humanidad كارمن بوهوركيز Carmen Bohorquez "كان جورج لابيكا الذي
يُعرَّف نفسه بوصفه مناضلا مناهضا للاستعمار والإمبريالية بمثابة الضوء
الذي يقود بأفكاره وأقواله ويُرشِد عبر هذه الأزمنة المرتبكة الحائرة إلى
الماركسية، ليس باعتبارها فقط الأداة الوحيدة الصالحة لتحليل المجتمع
الرأسمالي، وإنما من حيث هي أيضا تسمح باستيعاب وفهم الأسباب التي من أجلها
لحقت الهزيمة بالتجارب الاشتراكية".
إن الأصالة القحة في أعماله تعود إلى أوجه
الاختلاف عن غيره من الماركسيين، وفي مقدمتهم لويس ألتوسير. إنها تعود إلى
كشفه من جديد عن خفايا المادية التاريخية التي اندثرت تحت ساحة الصراعات
الإيديولوجية والسياسية. إن لابيكا شأنه شأن ألتوسير يقول بأن المادية
التاريخية تشكِّل مخرجا من الفلسفة كما يقول الأول، وقطيعة معها كما يقول
الثاني في عمله "الوضع الماركسي للفلسفة"Le statut marxiste de la
philosophie. وفيما يخرج ألتوسير من الفلسفة ليدخل إلى العلم بمعناه
الجامد، وليقيم فيه بصورة نهائية، فإن لابيكا يخرج منها ليدخل إلى نقد
الاقتصاد السياسي أو علم التاريخ، أي إلى العلم بمعناه المتحرك من حيث هو
تدخل الإنسان في عالم الطبيعة والمجتمع. ويترتب على ذلك، أن ألتوسير ينبذ
الإيديولوجية بصورة نهائية، ما يحمل لابيكا على انتقاده طالما تظهر
الإيديولوجية تحت شكل التيمية للبضاعة في نمط الإنتاج الرأسمالي، بما يؤكد
أن لا مناص منها. ويتحول العلم كما يرى لابيكا في أعمال ألتوسير إلى مذهب
يقيني يَزعم أنه يحوز على الحقيقة دوما. وإذا كان لابيكا يَعتبر أن الفلسفة
هي الجذر التربيعي للإيديولوجية، فإنه لا يَلغي بالمقابل الإيديولوجية
طالما يبقى الصراع الطبقي ملازما لنمط الإنتاج الرأسمالي وبنياته العليا.
وبخلاف ألتوسير الذي ينتهي به الأمر إلى تعريف الماركسية بأنها فلسفة علمية
بالمعنى الستاليني، طالما تأخذ أعماله بالتمييز ما بين المادية التاريخية
والمادية الدياليكتيكية، وتميَّز في الوقت نفسه ما بين الفكر والمادة، وهو
الأمر الذي يقود، كما يذهب لابيكا، إلى شتى أنواع الانحراف. كلا، إن
المادية التاريخية تناقضات مجتمعية وصراع طبقات تلازم الواقع، وليست منفصلة
عنه في نظام من المنطق. ولأنه يعطي هذه الأولوية للتاريخ وما يحمله من
تطور وصراع، وكان لا يميِّز ما بين الوعي والمادة، وما بين الذات والموضوع،
أو حتى ما بين المفهوم والممارسة، فإنه يدعو على هذا النحو إلى تغيير
للعالم بلا معلم يتربع على عرش الحركة الثورية ليملي عليها وصفاته الجاهزة،
لأن التاريخ هو وحده معلم الثورة، كما علَّمت الكومونة في فرنسا، وثورة
عمال النسيج في ألمانيا، كلاً من ماركس وإنجلز، بأن عهد الفلسفة قد انتهى
ليترك المعرفة والممارسة للمجتمع وقواه الثورية، أو كما علَّمت قبل ذلك
الثورة الفرنسية ماكسمليان روبسبيير أن السياسة والممارسة الثورية هي مصدر
المعرفة Robespierre. Une politique de la philosophie (سياسة للفلسفة،
بيروت، دار الفارابي).