[
هذا المقال يعكس حالة الكثير من
مواطني أوروبا الشماليّة كالدنمارك وهولندا والسويد، حالة تغلب عليها
الحيرة والارتباك في كيفية التعامل مع الوضع الذي فرض عليهم من قبل
المتشددين الإسلاميين وتنامي حجمهم في هذه الدول (وعمليّة التفجير الأخيرة
التي قام بها تيمور عبد الوهاب في ستوكهولم مثال على هذا التشدّد العنيف).
فمن جهة تقدِّر هذه المجتمعات إلى حد التمجيد مبادئ الديمقراطية
والليبرالية وحقوق الإنسان – مبادئ كافحت كثيراً وطويلاً في سبيل نيلها
وتثبيتها، وهي ليست في وارد التنازل عنها مهما كانت الظروف. ومن جهة أخرى،
فهذه المبادئ نفسها تم استغلالها من قبل جماعات مهاجرة تحمل فكراً متطرفاً،
وهي في الأساس لم تمارس هذه المبادئ ولا تقدِّرها، وبالتالي فهي ليست ذات
قيمة بالنسبة لها؛ وهي إن نادت بها فليس إيماناً منها بهذه المبادئ وإنما
للوصول إلى غايات وأهداف خفية أحياناً ومعلنةً أحياناً أخرى. إن الأرقام
والإحصائيات التي وردت في المقال تبين بوضوح أن هذه المجتمعات لم تفقد روح
التسامح لديها، وأن نمو الاتجاه اليميني وما يمكن أن نسميه "شعور التعصب"
ليس إلا آلية دفاعية، ورد فعلٍ على ممارساتٍ وخطرٍ يهدد في الصميم مبادئ
العلمانية والليبرالية عندها، فحوادث مثل اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان
كوخ، وردود الفعل العنيفة على الرسوم الكاريكاتورية لمحمد والمسلمين قد
أصابت هذه المجتمعات بالصدمة والذهول، وبينت مدى اتساع الهوة بين الطرفين
من حيث الذهنية وأسلوب التفكير والممارسات. إن دول العالم الحرّ تجد نفسها
اليوم مهددة في علمانيتها وليبراليتها وديمقراطيتها في عقر دارها من قبل
جماعات تستغل هذه المبادئ أسوأ استغلال في سبيل أهداف هي في النهاية ستنسف
هذه المبادئ من جذورها لتنشر فكراً ظلامياً جامداً تعيد الإنسان عشرات
القرون إلى الوراء. لذا فهي تجد نفسها مضطرة للدفاع عن مبادئها وحريتها،
لكن ليس من خلال ممارسات استبدادية قهرية تعسفية – كما يحصل في معظم دول
العالم الثالث – وإنما من خلال تلك المبادئ نفسها المبنية على أساس الحرية
والمساواة واحترام حقوق الإنسان – ] المترجم إن دخول حزب الديمقراطيين السويدي إلى البرلمان بعد الانتخابات التي جرت
في 19 سبتمبر 2010 يعني سقوط آخر معقل للتسامح في أوروبا، فعندما كانت
الأحزاب اليمينية الراديكالية(1) تحقق مكاسب انتخابية هامة في ثمانينات
القرن الماضي وتسعيناته كان المصوّتون في الدول الليبرالية التقليدية في
شمال أوروبا (كالدنمارك وهولندا والسويد) يعارضون مطالبهم وادعاءاتهم، أما
الآن فالدنمارك وهولندا هما من ضمن الدول الأكثر مجاملة وتساهلاً مع التعصب
: فحزب الشعب الدنماركي (Pia Kjærsgaard) قد أصبح مؤيداً شديداً لحكومات
الأقلية اليمينية(2) في الدنمارك منذ عام 2001، بينما (حزب الحرية)
(PVV)(3) التابع لخيرت فيلدرز(4) بدأ يلعب دوراً مشابهاً في هولندا.
ولكن هل حقيقة أنّ معاقل التسامح السابقة قد أصبحت(5) متعصبة (وحتى أكثر
من متعصبة) من الدول الأوروبية الأخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا استغرقت
كل هذا الوقت لتصل إلى هذه الحالة أم أنّ هنالك أمراً آخر يجري على
الساحة؟
وبنظرة فاحصة إلى نتائج بحث في مواقف مواطني أوروبا نجد أنها تطرح صورة
أكثر تعقيداً وإثارة، فمعظم هذه الاستطلاعات تظهر أنّ الدنمارك وهولندا
والسويد لا تزال من بين أكثر الدول تسامحاً في أوروبا وحتى في العالم. وفي
استطلاع أجري قبيل المكتسبات الأخيرة التي حققها اليمين في أوروبا، وقبل
توسع الاتحاد الأوروبي لقياس مدى التعصب في أوروبا اتضح أن نسبة تصل إلى 14
بالمئة من الأوروبيين يصنفون كمتعصبين، وهذه النسبة أكثر بقليل من النسبة
الموجودة في هولندا (11 بالمئة) وفي السويد (9 بالمئة) إلا أنها تصل في
الدنمارك إلى (20 بالمئة).
إضافة إلى ذلك فهذه الدول قد سجلت نسباً أعلى من المعدل الأوروبي (60
بالمئة) في قائمة الدول الأكثر تسامحاً -فالسويد سجلت (76 بالمئة) لتأتي
ثانية بعد إسبانيا الأعلى في القائمة، والدنمارك سجلت (64 بالمئة)؛ كما أن
هذه الدول مستمرة في تأييدها لحقوق الشواذ ومساواة الجنسين.
مقابل هذا هنالك دليل على أن الدنمارك(6) وهولندا(7) على الأقل لا تبرزان
على مقياس المواقف السلبية تجاه المسلمين (رغم أنّه وللأسف توجد بعض
التقارير المتعلقة بموضوع كهذا تشمل الدول الثلاثة آنفة الذكر). وفي مسح لـ
(Pew) أجري في أيار عام 2005 صُنِّف الهولنديون من ضمن الأكثر عداءً
للمسلمين، كما أن المفوضية الأوربية ضد العنصرية والتعصب (ECRI)(8) والمركز
الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب (EUMC)(9) قد أبرزتا هولندا
(وبنسبة أقل الدنمارك) كدول ذات مناخ سياسي وعام يتصف بالخوف من الإسلام
((Islamophobic.
هذه النتائج تشير - جزئياً وباعتراف الجميع - إلى أن المعاقل السابقة(10)
للتسامح لا تزال متسامحة (لكن ليس تجاه المسلمين)(11). علاوة على ذلك وفي
حالة التعصب المعينة هذه تجاه مجموعة دينية فإنها تتفوق على الدول
الأوروبية الأخرى في كونها - وبشكل عام - أقل تسامحاً؛ وهذا يدفعنا إلى
السؤال : لماذا؟ إن التفسير الممكن هنا – على غير ما هو متوقع – هو أنّ هذه
الدول، وبسبب تسامحها الاجتماعي العام، قد أصبحت من بين الأكثر خوفاً من
الإسلام، معبِّرة عن ذلك بشكل علني.
عناصر التغيير: إن منطق النقاش في هذه القضية مضاعف ذو ثلاثة أبعاد تتعلق بالقومية،
والتجانس والامتثال للقوانين، والتسامح بحد ذاته. فالتسامح في الدول
الثلاثة ارتبط بشكل وثيق بالموقف السلبي تجاه القومية على أساس عرقي
والإحساس بالفرادة والتميز - (أمة اللاقومية)، وهذا يعود في جزء منه إلى
الطريقة التي تعاملت بها هذه الدول مع تجربتها في الحرب العالمية الثانية
حيث رُبطت النزعة القومية بالنازية والمحرقة؛ ومن هنا فإن الاتجاهات
والأفكار ذات الصبغة القومية العرقية تم تجنبها من قبل الجميع ما عدا
اليمين المتشدد المنبوذ. لذا وبينما ربطت أحزاب اليمين الراديكالية في دول
كالنمسا وبلجيكا وفرنسا صراعها ضد المهاجرين بمواضيع ذات صبغة قومية فإن
هذا الخيار لم يكن مطروحاً في الدنمارك وهولندا والسويد.
ثانياً، يقدّم معظم مواطني هذه الدول العاديين أنفسهم كمتسامحين بل
ويمارسون رقابة ذاتية على أنفسهم إذا ما اقتضت الحاجة، لكنّ نخبتهم امتلكت
سلاحاً خاصاً في صراعها للحفاظ على السياسة لتسير في الاتجاه الصحيح ألا
وهو الانسجام والامتثال للأعراف والمبادئ، ففي النتيجة فإن أروبا الشمالية
مشهورة كثيراً بتجانسها وانسجامها (الذي يتضمن تقليدياً ثقة عالية برجال
ومؤسسات الدولة) بقدر شهرتها بتسامحها. والنخبة المؤيدة لتعدد الثقافات
كانت قادرة في الغالب على أن تبقي قضية الهجرة خارج الأجندة السياسية؛ وفي
هذا المضمار ومن خلال تحليلهما لحالة هولندا بشكل خاص يقول بول سنيدرمان
ولوك هاغندورن في كتابهما "When Ways of Life Collide: Multiculturalism
and Its Discontents in the Netherlands" (عندما تتصادم أساليب الحياة:
التعددية الثقافية وخيباتها في هولندا) الصادر في 2007(12): "لأن الأشخاص
الأكثر تعصباً كانوا أيضاً الأشخاص الأكثر امتثالاً وانسجاماً مع الدولة
ومبادئها".
ثالثاً، كانت الدول مدار البحث (الدنمارك وهولندا والسويد)(13) وجيرانها
القريبون منها تقليدياً ولاتزال من ضمن الأكثر تسامحاً(14) في أوروبا وخاصة
في قضايا تتعلق بحقوق المرأة وحقوق الشواذ. بالإضافة إلى ذلك فإنها حالياً
من بين المجتمعات الأقل(15) تديناً في أوروبا مع أكثرية علمانية مسيطرة،
وجماعات دينية مؤثرة في السابق ولكنها مهمشة سياسياً في الوقت الحاضر. في
هذا السياق من السهل أن تبني ذهنياً إسلاماً كتهديدٍ للحياة الوطنية من جهة
وكتهديد للديمقراطية الليبرالية كما فُهمت في هذه الدول من جهة أخرى.
وفي هذه الجزئية فالقضية تحتوي على مسألتين هامتين : أولاهما أنه وبعد
عقود من العلمنة فإن الإسلام دين ينمو بسرعة كبيرة ما يهدد التوافق
والإجماع العلماني من خلال إعادته للقضايا الدينية إلى الأجندة العامة.
ثانيهما أن الإسلام التقليدي وما يسمى (المسلمون ذوو الصراخ العالي) يتحدون
علناً مبادئ وآراء تلك المجتمعات حول المساواة بين الجنسين وحقوق الشواذ
والتي تعتبر مظاهر أساسية للديمقراطية الليبرالية في هذه الدول، ولهذا
السبب فالديمقراطيون الليبراليون المتسامحون هم من يعارض المسلمين
المتعصبين.
المغزى هنا أن نمو الشعور ضد الإسلام مؤخراً في شمال أوروبا ليس
دليلاً على انتهاء التسامح في أوروبا ولا على أَوْرَبَة القومية العرقية؛
بل إنها بالأحرى تدفق لتعصُّب المتسامح والذي مارس رقابة ذاتية من خلال
ثقافة سياسية مستندة على التجانس ونبذ النزعة القومية. وحقيقة أنه
يمكن مواجهة المسلمين (التقليديين) من قبل الاتجاه الديمقراطي الليبرالي
بدلاً من الاتجاه القومي العرقي تجعل الأمر في النهاية مقبولاً سياسياً –
وحتى مناسباً سياسياً وأكثر صحة – للتعبير عن التحيز العرقي في هذه الدول.