مصر: هل من صنّع الأغلبية والمعارضة يستطيع أن يُصنّع شعبا؟
محمد عبد الحكم دياب
2010-12-10
يقول العارفون بأمر التاريخ وفلسفته، وأصول الاجتماع الإنساني وقوانينه؛ يقول هؤلاء ان التاريخ لا يكرر نفسه وإذا تكرر فإنه في المرة الأولى يأتي في صورة مأساة، وإذا ما عاد ثانية يكون في شكل ملهاة. وتاريخ الانتخابات دائم التكرار، ويعيد نفسه بشكل عقيم ورتيب طوال عقود ثلاثة مضت.
وتجاوز في تكراره طَوْري المأساة والملهاة بمراحل، وهذا التكرار حوله إلى فجور. واعتمادا على هذا القياس نستطيع أن ندعي بأن ما شهدته مصر في الجولة الأولى للانتخابات في الثامن والعشرين من الشهر الماضي وجولة الإعادة في الخامس من هذا الشهر؛ شهدت أقصى درجات ذلك الفجور، وتخطت كل صور التدليس والفساد والتزوير والترويع والغباء والعنف، وسوف يجد هذا الحال من يصفه يوم افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة؛ بكل ما تأكد فيها من بطلان، بأوصاف لا علاقة لها بالحقيقة والواقع.
وسوف يقف كبيرهم؛ سعيدا منتشيا؛ مدعيا أن مصر شهدت انتخابات هي الأكثر نزاهة في تاريخها، والأكثر تعبيرا عن شعبها؛ منذ أن عرف المجالس النيابية والتمثيلية. وقد يعود بنا إلى البدايات مع أول مجالس عينها نابليون بونابرت؛ فور غزو قواته واحتلالها لمصر؛ وهي المجالس التي عُرفت باسم دواوين الأقاليم في المديريات (المسمى القديم للمحافظات) والديوان العام في القاهرة، فيما بين 1798 حتى 1801، يعود بنا إلى ذلك الوقت حتى يومنا هذا. مع أن مقارنة ما يجرى اليوم بما تم إبان فترة الاحتلال الفرنسي، أو إبان غيرها من الفترات، كلها لا محل له من الإعراب السياسي والأخلاقي.
لنترك ما يمكن أن يقوله حسني مبارك خلال الأيام القليلة القادمة، ولا أريد أن أكرر كلاما تردد كثيرا عن بطلان مجلس الشعب القادم من عدمه، فما قرره القضاء بأحكامه الحاسمة والنزيهة يقطع كل قول. فكلمته فاصلة وأخيرة. وإذا كان مجلس الدولة بكافة درجاته قد أكد بطلان العملية الانتخابية برمتها، لم تكن الأحكامه مبنية على وقائع التزوير الثابتة، وبنيت على ما سبقها من عوار إجراءات وترتيبات سبقت العملية الانتخابية ذاتها، ومن خلل في الأسس والقواعد التي قامت عليها؛ من عدم قانونية وعدم دستورية إجراءات الإعلان عنها، وترتيبات التوقيت والعزل الأمني للمرشحين وشطبهم من قوائم الترشيح، وما تبع ذلك من أحكام صدرت تبطل ذلك العزل، وعدم إعادة قيد المستبعدين مرة أخرى بجداول المرشحين. وبدا ذلك منطقيا في ظل تشكيل لجنة عامة أوكلت لها مهمة الإشراف على الانتخابات، ورأسها أحد أقارب حسني مبارك، ومن أبناء قريته كفر المصيلحة بمحافظة المنوفية، وهي المحافظة التي حور الشباب اسمها، وجعلوها بديلا للجمهورية، فيقولون: 'منوفية مصر العربية'؛ بدلا من جمهورية مصر العربية؛ سخرية واستهزاء بما آلت إليه الأوضاع وتحول الحكم إلى حكم وراثي. انتهى فيه النظام الجمهوري عمليا.
المشهد العام لما بعد الجولة الثانية بدا مزريا ومخجلا، بما احتواه من مظاهر وظواهر ليست مألوفة، ناتجة عن إمساك جمال مبارك من خلال ذراعه الأيمن والأكثر بطشا أحمد عز؛ محتكر الحديد وأمين تنظيم الحزب الحاكم؛ إمساكه بمفاتيح إفساد العملية الانتخابية؛ الاستعانة بالبلطجية، والإشراف على توزيعهم بين الدوائر، وتمويل شراء الأصوات ورشوة الناخبين، وتوجيه قوات الشرطة وأجهزة الأمن ضد الخصوم، وبدا ضباط وجنود شرطة الداخلية، وعلى رأسهم وزيرهم موظفين تابعين له ويأتمرون بأمره. ولأني ركزت اهتمامي على معرفة رأي الشباب غير المسيس وغير المنتمي إلى أحزاب، وممن ليست لهم علاقة بحركات الاحتجاج والإضرابات المنتشرة في أنحاء مصر. ولفت نظري رأي شاب لم يصل الثلاثين بعد، وهو ممن بدأوا حياتهم العملية القصيرة ضابطا في الشرطة، وترك عمله البوليسي للعمل في واحدة من الهيئات القضائية، وحين أردت استطلاع رأيه قال: رأيي إن الانتخابات كانت مهزلة.
لذا لم تضع المعركة أوزارها؛ فما زالت نيرانها مشتعلة على المستويات السياسية والعائلية والقبلية والطائفية في طول البلاد وعرضها. خلفت وما زالت ضحايا عديدين، ومع ذلك تجد أن أهل الحكم سعداء بأعمالهم وفضائحهم، ونستطيع تلمُّس ذلك من ظواهر ومظاهر شاعت في أثناء الانتخابات؛ لم تشهدها مصر منذ ما قبل 1952، كظاهرة إحراق صناديق الانتخابات والسطو على مقرات اللجان الانتخابية وتحطيمها، وما تبعها من انسحاب كثير من المرشحين خلال إجراء الانتخابات، بجانب مظاهر أخرى متنوعة. والأكثرى لفتا للأنظار من كل هذا هو ما جرى للأحزاب؛ بدأت فيها انفجارات وانشقاقات بدت وكأنها تعبر عن عدم قدرة أعضائها على تحمل ضعفها الذي تفاقم أكثر من اللازم، حتى الأحزاب التي عادت إليها الروح، مثل حزب الوفد لم تسلم هي الأخرى من الانفجارات والتوترات.
ويجب ألا ننسى ما جرى لأيمن نور وحزب الغد ونعمان جمعة وحزب الوفد بعد انتخابات 2005 وما جرى لكل منهما لمجرد أنهما نافسا حسني مبارك على الرئاسة منافسة حقيقية، وكان الثمن اتهام أيمن نور بالتزوير والسطو على حزبه وإحراقه، وتفجرت الأوضاع بداخل الوفد وصلت حد استخدام السلاح وسقوط جرحى ومصابين بين الأعضاء وحرق المقر الرئيسي بالقاهرة، ومن المتوقع أن تكون الانفجارات هذه المرة على نطاق أشمل وأوسع، وامتدت إلى حزبي التجمع والناصري، ولا يُستثنى من ذلك الحزب الحاكم ولا الإخوان المسلمون.
وبالنسبة للحزب الحاكم فإن بعض ما يجري داخله يمكن استنتاجه مما نشر عن 'انقلاب قصر' داخل أروقته وبين قياداته لعماد الدين حسين في صحيفة 'الشروق' المصرية يوم الأربعاء الماضي؛ وكشف الكاتب خطة كان وضعها صفوت الشريف الأمين العام للحزب الحاكم؛ تضمن حصول الحزب على ثلثي مقاعد مجلس الشعب، دون إحداث هزات كبرى، وتسمح بنسبة مقاعد مناسبة لأحزاب المعارضة الرئيسية، ثمنا لرفضها مقاطعة الانتخابات وقبولها بالمشاركة فيها؛ وهي أحزاب الوفد والتجمع والناصري، وتقليص عدد مقاعد الإخوان المسلمين وليس إقصاؤهم بالكامل، لتكون المنافسة في انتخابات الرئاسة القادمة بين مرشح الحزب الحاكم وشخصيات مثل السيد البدوي ورفعت السعيد أو سامح عاشور، وليس أشخاصا من نوع محمد عبد العال وموسى مصطفى موسى ورجب هلال حميدة، كما أشار الكاتب.
وأضاف أن تيار لجنة السياسات، وهو يعني جمال مبارك وحاشيته، لم تعجبه تلك 'الهندسة الانتخابية' على حد تعبيره، وقام بـ'التطهير السياسي' اللازم بشكل كامل؛ كوصفنا لما حدث في مقال السبت الماضي؛ به أبيدت المعارضة، وأقيم على أشلائها مسخ تشريعي؛ مهمته تسمية الرئيس المقبل لمصر!!
والنتيجة تصنيع برلمان معقم بلا معارضة، ولما اكتشفت المعارضة مخطط 'التطهير السياسي' وسراب وعد حسني مبارك انسحبت، وتفتق ذهن عباقرة لجنة جمال مبارك المعروفة باسم لجنة السياسات عن مخطط مقابل، يرى أنهم ما داموا قد تمكنوا من تصنيع أغلبية فهم يستطيعون تصنيع معارضة بنفس الأسلوب، وهو ما قاموا به في الجولة الثانية، وزوروا لصالح عدد من عناصر المعارضة إنقاذا للموقف، وبدا العمل مضحكا وساخرا في نفس الوقت؛ صُنّعت معارضة من أحزاب صغيرة أو ورقية، وجلبوا إلى صفوفها من جرمه القانون وأدانه وصدرت ضده أحكام مخلة بالشرف، وبدأت برئيس حزب التكافل الاجتماعي، النائب الجديد لدائرة إمبابة القريبة من القاهرة في الجولة الأولى، وكذا مرشح حزب الغد المنشق، جناح موسى مصطفى موسى المناوئ لأيمن نور في دائرة عابدين بالقاهرة، وفي جولة الإعادة أختاروا مرشحي حزب الجيل وحزب السلام.
المسؤولية لا تقع على جمال مبارك وبطانته فقط، وتقع بنفس الدرجة على الأحزاب التي شاركت في الانتخابات وكسرت إئتلاف المقاطعة، أملا في صفقة لم تتم. وكان من المفترض أن تحصل بموجبها على نصيب من تركة الإخوان المسلمين، التي كانت في البرلمان السابق، وكشفت تصريحات وردت على لسان معارضين راهنوا على وعد حسني مبارك بالنزاهة، في ظروف لم تبد فيها بادرة واحدة على صدقه، وفي الوقت الذي كانت تُطلق فيه التصريحات عن النزاهة كانت الخطوات تجري على قدم وساق لإغلاق كل منافذ التعبير والرأي، وتجريم كل أنواع الرقابة السياسية والقضائية والقانونية والدولية، وبدت المؤشرات واضحة لمن له عين، لكن الصفقات الوهمية أًصابت أبصار الذين تعلقوا بها بالعمى، ودفعوا الثمن غاليا. وكان حديث قادة الوفد والتجمع الأكثر وضوحا على ذلك الوعد والوهم.
ومن تابع تصريحات السيد البدوي وبعض قادة حزب الوفد، واستمعوا إلى ما ورد في المقابلة التي تمت مع طاهر أبوزيد لاعب الكرة الشهير يوم الاثنين الماضي في برنامج العاشرة مساء على فضائية دريم 2، وقد كان مرشحا عن حزب الوفد عن دائرة الساحل القاهرية، وما صرح به رفعت السعيد يكتشف أنهم خدعوا أنفسهم قبل أن يخدعوا الآخرين.
وهذا يحمل شبهة تواطؤ بين فصائل المعارضة، التي قبلت المشاركة دون ضمانات تذكر، وحين شعرت بالخطر من مخطط 'التطهير السياسي' ولت الأدبار، لكن ذلك جاء متأخرا، وعزز فساد الحكم، ومنح انتخاباته شرعية ليست لها، على الأقل في جولتها الأولى، وأغرى تصنيع المعارضة بالاستغراق في تصنيع واقع سياسي وهمي، قامت به طبقة هي الأخرى صُنعت لتكون قاعدة اجتماعية واقتصادية مساندة لمبارك الابن؛ لا علاقة لها بالطبقات بمعناها الاجتماعي والسياسي السليم؛ امتصت دم المجتمع وألقت به خارجه. ولم تكن سوى فطريات وطفيليات طفت على جسد المجتمع المصري؛ ونشرت فيه العلل والأمراض.
ويبدو أن تصنيع أغلبية ومعارضة داخل برلمان فاقد الشرعية والمشروعية أغرى جمال مبارك ومساعده بقدرتهما على تصنيع شعب؛ يكون طوع البنان، ويستجيب لأطماع انتخابات الرئاسة القادمة. فهل هذا ممكن؟!