خلال الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين الأقباط أمس (أسماء وجيه ــ رويترز)«البقاء للأقوى»، قانون يحكم معارك مصر، من العثور على رغيف خبز إلى الفوز بمقعد تحت القبة، وحتى الاحتفاظ بمشاعر الأمان. لا أمان إلا للأقوياء القادرين على اقتناص مواقعهم بالنفوذ والمال والعنف. ثلاثيّة لن تفارق من يفكر في كيف يعيش المصريون اليوم؟
وائل عبد الفتاحالرصاص مخصص للصيد، لكنه قتل شاباً (١٩ سنة)، خرج يهتف «بالروح والدم نفديك يا صليب»، ويرشق قوات الأمن بالحجارة دفاعاً عن كنيسة «العذراء والملاك ميخائيل».
هي ليست كنيسة، لكنها مبنى خدمي، أراد سكان العمرانية الأقباط تحويله الى كنيسة. وحسب رواية الأهالي، توصلت مطرانية الجيزة الى اتفاق مع المحافظة على استكمال بناء الكنيسة، لكن قبل إتمام المبنى وصلت قوات البلدية لتمنع البناء. الرواية الأمنية، أو الرسمية، تختلف في تأكيدها أن الاتفاق لم يكن السير في البناء، ولكن على تقديم رسوم هندسية وطلب تعديل الرخصة لبناء كنيسة. المحافظ الدكتور سيد عبد العزيز، صاحب هذه الرواية، استكمل تفاصيلها بالقول «أجريت اتصالاً هاتفياً بقداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، لبحث تطورات الأزمة، إلا أن ظروفه الصحية حالت دون اللقاء به». لم يستطع المحافظ لقاء البابا، فانفجرت الأحداث بشكلها العنيف المتصاعد، من الهجوم على مقر المحافظة بتظاهرة ضخمة نسبياً، مقارنة بتجمعات مماثلة (التظاهرة حسب التقديرات الرسمية شارك فيها ٣٠٠٠ قبطي)، إلى قطع الطريق الدائري وتعطيل حركة السير من المتظاهرين أنفسهم، قبل أن تحيطهم قوات الأمن المركزي، وتضربهم بقنابل الغاز والرصاص والخرطوش، ليسقط مكاريوس جاد قتيلاً، إضافة إلى ٤٣ جريحاً، بينهم قادة في مديرية أمن الجيزة وضباط مباحث وجنود عاديون.
العمرانية، مكان الأحداث، أكبر أحياء الجيزة، مساحته ٥٠ كيلومتراً مربعاً، يمتد كأخطبوط بموازاة شارع الهرم، بتاريخه السياحي، وسكانه الأميل الى الطبقة الوسطى. وقلب العمرانية هو شارع الطالبية، مكان الكنيسة، وأحد أحياء تسمى الصين الشعبية توصيفاً لكثافتها السكانية الرهيبة.
سكان حي العمرانية هم غالباً من مهاجري الصعيد، تتمركز فيه عائلات كاملة، أشهرها الزمر، التي ينتمي إليها عبود الزمر أمير تنظيم الجهاد، قائد عملية اغتيال الرئيس أنور السادات. ويتذكر أهالي العمرانية حصار المدرعات الأمنية للحي من أجل القبض على عبود.
حرب الكنيسة تعيد العمرانية الى المناخ نفسه، وخصوصاً مع وجود ٣٠٠٠ جندي يحاصرون الحي، ويمنعون التجوال، رغم أن هناك من رتّب تظاهرة «تهدئة» شارك فيها مسلمون ومسيحيون هتفوا: «يحيا الهلال مع الصليب». الروايات الأمنية لخصت الأحداث في اسم تقليدي: الشغب. وألقت القبض على ٢٣ شخصاً، أطلقت عليهم وصفها التقليدي أيضاً: مثيرو الشغب. التظاهرات كما بدت في مسيرتها التصاعدية، عشوائية، وسمعت فيها أصوات تطالب بعدم إلقاء الحجارة، لم يكن لها قادة، واعتمدت على شحنات غضب مكبوتة، وعبرت عن مشاعر اضطهاد متراكمة، تنفجر في لحظات بلا عقل، ولا هدف سوى الدفاع عن الموقع.
الجديد في هذه التظاهرات أنها سابقة في تاريخ اعتراضات الأقباط، الخالي تقريباً من المبادرة بالعنف، والخروج من حرم دور العبادة الى الشوارع، ومواجهة الأمن لا الهروب منه. السر ربما في تحول قانون «البقاء للأقوى» الى الحل الوحيد للحفاظ على الموقع. لا التفات الى حل جذري لمشكل بناء الكنائس، ولا تزال الدولة تصر على استخدام الخط الهمايوني ولائحة وضعها وكيل وزارة الداخلية في منتصف الثلاثينيات، وتضع ١٠ شروط للموافقة على بناء كنيسة. والموافقة من اختصاص شخص واحد في الدولة هو رئيس الجمهورية. وبعد شكاوى متعددة من أن تصليح صنبور مياه في كنيسة يستلزم قراراً من الرئيس، فوّض المحافظون بقرارات ترميم الكنائس.
الحكومة تضع في أدراجها منذ ٢٠٠٥ قانون بناء دور العبادة الموحد، وترفض مناقشته، رغم أنه لا يلبي الصورة الأمثل عن المساواة بين المسلمين والمسيحيين.
تأجيل القانون، رغم انفجار قنابل الفتنة، يشير الى عدم الرغبة في الحل الجذري والاكتفاء بالمسكنات، وهو ما ينذر بانفجار الجسم من الداخل.
الانفجار ظهرت ملامحه الأولى في مشاركة عدد من المسلمين العابرين في مواجهة المتظاهرين المسيحيين، وكأنها ليست حرباً بين الأمن والسكان، ولكن بين مسلمين (أمن وشعب) ومسيحيين (هذا رغم أن هناك مسلمين تعاطفوا مع المسيحيين في مواجهة قصف القنابل الغازية). هناك أيضاً مؤشرات الى أن أحداث كنيسة العمرانية، ستكون ذريعة لفرض قبضة أمنية حديدية، يعاد فيها السيطرة على الشوارع باسم الحفاظ على الوحدة الوطنية.
ورغم أن المواجهات بين الأمن والغاضبين المسيحيين، شهدت دماءً، إلا أنها لن تحفز على استخدام أسلوب غير «التوازن» و«الصفقة»، وستنتهي الأزمة ربما ببناء الكنيسة، ليس من قبيل إعادة الحق، ولكن إرضاءً للبابا، في مقابل خدمات أخرى تتم في صناديق الاقتراع وفي تعميم مشاعر الارتباط بالنظام وحزبه (الوطني الديموقراطي) الحاكم.
الفتنة لم تعد نائمة، والشحنات العاطفية لدى كل طائفة تسير في انقسام نفسي، يسير فيه الفرد الى طائفته، لا الى مجتمعه، سير في الطرق الخطرة، لكن يبدو بالنسبة الى قطاعات مكبوتة ومحتقرة ومقهورة كأنه اكتشاف الذات، أو القفز في قطيع يحقق شعوراً زائفاً بالأمان وبالقوة. الاندماج في الطائفة لم يعد مستهجناً، ولا مرفوضاً، إنه الحياة خلف جدار الأمان، والدفاع عن موقع جماعي يثير السحر الغامض في نفوس المضطهدين. هل كانت الرغبة جاهزة لدى النظام في التصعيد مع الأقباط لاستغلالها في ترويج الاحتياج الى قبضته تلك؟ هل هي خطة نشر الفوضى، ليكون النظام هو اليد الإلهية لإنقاذ مصر التي يعرفها الحزب الوطني كما يعرف تفاصيل كف اليد، كما قال الأمين العام للحزب الحاكم صفوت الشريف؟ سؤال هام ستجيب عنه أيام، تعيش فيها مصر على صفيح ساخن.
حرب انتخابية بالأسلحة المحرّمة مصريون يمرون قرب لافتة انتخابية أمس (عمرو نبيل ــ أ ب)
خوض الانتخابات التشريعية في ظل الوضع القائم لا يقل خطورة عن معارك الشوارع، ولا سيما بعد لجوء النظام إلى «الأسلحة المحرمة» في حربه على الخارجين عن السيطرة «إنها معركة محسومة للأقوياء»، هكذا قيل لجميلة إسماعيل في إطار منعها من القفز الى المجهول في معركة أصبحت قوانينها معروفة على نحو مفرط، ويديرها من أسفل سماسرة أصوات (يقدر الجميع على الشراء) وبلطجية (هم أداة حسم هامة)، ولا مكان هنا ليوتوبيا من نوع «الناس تعرف مصلحتها» و«الجماهير ستصوّت للتغيير».
أوهام من هذا النوع تصبّ غالباً في مصلحة كتلة محترفة في السيطرة على الشارع، مثل الإخوان المسلمين. كتل تزرع قادة شبكات خاصة تلملم التصويت الرافض للحزب الوطني. تصويت عاطفي لا يجد أمامه سوى «كيان» يبني نفسه منذ سنوات على أنه «البديل». ليس هذا فقط، بل البديل الذي يلعب في المنطقة الروحية بشعاره «الإسلام هو الحل».
جزء كبير من التصويت العاطفي يدخل تحت خيمة «الإخوان»، وهو ما يغري الجميع، بمن فيهم أسماء كبيرة من الحزب الوطني (وزراء وقادة تنظيميون) لطلب التحالف، بشكل في غاية السرية، خوفاً من السقوط الذي يعني إغلاق الأبواب المفتوحة، وفقدان النفوذ، وتعليق السكين على الرأس الكبير.
المعركة فردية، وليست على أساس صراعات القوى، والحزب الوطني الحاكم اختار معركة «البقاء للأقوى» بين مرشحيه أنفسهم، وهو ما يمنح المنطق لفكرة «أنا ومن بعدي الطوفان». وهنا تستخدم الأسلحة المحرمة قانوناً: الأموال والدين.
القدرة على استخدام الأسلحة المحرّمة هي الطريق الوحيد، وهو ما كاد أن يربك حسابات جميلة إسماعيل أكثر من مرة، هي تعتمد على قوة ذاتية وشحن من سنوات «ربيع الديموقراطية».
رفضت جميلة «كوتة» المرأة، ودخلت وحدها تقريباً في معركة تثبت فيها أن التمييز، ولو كان إيجابياً، لعبة ضد السياسة. واختارت أيضاً دائرة جديدة عليها تماماً (قصر النيل) معروفة بأنها « قطعة الحلوى» التي تهدى لمرشحين مخصوصين في الحزب الحاكم.
الأسهل بالنسبة إليها كان اختيار دائرة «باب الشعرية»، ولها فيها رصيد وأرضية صنعتها من الوقوف القوي في معركة زوجها السابق أيمن نور. لكنها اختارت الأصعب، ما يعزز فرصة «بناء» شخصية سياسية مستقلة خارج مرجعية الأحزاب والقوى القديمة (الأحزاب التقليدية والسرية).
الجرأة الشخصية، وطموحها لتكون امرأة سياسي من طراز جديد، هما عناصر قوة من نوع مختلف، ربما يحفر لنفسه طريقاً، بعدما أصبحت عناصر القوة (المال والدين والتحالف مع الإخوان) مشاعاً للجميع، وفي متناول السائرين مع التيار السائد بنسبة ١٠٠ في المئة.
أحلام أم أوهام؟ سؤال يواجه جميلة، التي تنضج سياسياً بالمعارك، وتبتعد شعبويّتها عن الابتذال مع كل خطوة تحفر لنفسها طريقاً منفرداً، تختلط فيه المطالب الاحتجاجية بأشواق التغيير، والطموح الشخصي، بالتيار الذي ولد في الشارع، من دون أجندة جاهزة، ولا أوعية فكرية مكتملة، ولا حتى جهاز سياسي يدير حركة الشارع الى أهداف أبعد من كسر احتكار السلطة للشارع وكسر حاجز الخوف.
جميلة في معركتها تمثل نقلة ما لهذا التيار الى مكان آخر. وخصمها الأساسي (هشام مصطفى خليل)، رجل أعمال يحتل مقعده في الدائرة المقسومة بين مهمّشين يعيشون في أحياء منسيّة، رغم أنها في قلب العاصمة، وبين بورجوازية الزمالك وغاردن سيتي، وغالبيتها يمتنع عن التصويت احتجاجاً سلبياً على أحوال البلد أو اكتفاء باللعنات في مجتمعات مغلقة.
«التصويت الجديد» هو رهان جميلة، الحريصة على جولات في الشارع تجري تحت رقابة «أمن الدولة» ومراقبي مرشحي الأموال «السايبة»، وفي هذه الجولات يخفت الوعد بالخدمات، في مقابل أفكار عن التغيير ومقاومة الفساد والاستبداد.
المعركة خطرة في حضور الأسلحة المحرّمة، بداية من إغراق الدوائر برشى تصل الى البيوت، وليس نهاية بمحاولة التخويف المستمرة.
هي حرب بين وسطاء الخدمات ونواب السياسة، امتداد لحرب أوسع يحاول فيها الحزب الوطني الحاكم إعادة الشارع الى ما قبل التسيييس، باعتباره ملعب الغرائز الهائجة، ووضعه خلف من يلبي صرخات الجوع وطلبات الحياة الرئيسية: المسكن والتعليم والصحة.
التسييس يربط بين هذه الطلبات والاستبداد السياسي الأصيل في النظام، ويخرج الاهتمام بغريزة البقاء الى أفق يهتم فيها بكل كبيرة وصغيرة في إدارة البلاد، وهذا على ما يبدو السحر الباقي من الربيع.
«كل الناس بتتكلم في السياسة»، هذا ما لاحظه شاب في منتصف العشرينيات. حكى عن استغرابه من أن الناس بمختلف مواقعهم الاجتماعية مشغولون في أحاديثهم بالسياسة وبخريطتها الأوسع من صراع المرشحين في الدائرة.
هذا سر قلق النظام، بعد ضربات موجهة للإعلام والقوى السياسية، ورسائل تحذير الى الجميع بأن الحرس القديم عاد، ولا مجال للانفلات عن هامش الديموقراطية.