ينزع بعض المثقّفين العرب إلى اعتبار الإصلاح الدينيّ مدخلاً ضروريّاً إلى النهضة العربيّة التي تعود المحاولات المتعثّرة لإنجازها إلى حوالي قرن مضى، وتتقدّم فكرة الإصلاح الدينيّ كفكرة ملحّة كلّما ازداد تعثّر المشروع النهضويّ، أو تناهبته الأصوليّات كما حدث في العقدين الأخيرين. وتأخذ هذه الفكرة جاذبيّة إضافيّة من حيث ترافق ما عُرف بالإصلاح الدينيّ مع النهضة الأوربيّة وعُدّ واحداً من ركائزها الأساسيّة، وبما أنّ الحداثة الغربيّة بمثابة المهماز لمشاريع التنوير العربيّة، وأيضاً بمثابة المهماز السالب للمشاريع المضادّة، فإنّ الاشتباك الفكريّ حول فكرة الإصلاح لم ينجُ من تأثير العلاقة مع المركز الغربيّ سلباً أو إيجاباً. إلا أنّ القياس على ما حدث في أوربا قد يكون مجحفاً لا لخصوصيّة نجعل من الإسلام عصيّاً على الإصلاح بالضرورة، ولا لتغيّر في المعطيات الزمنيّة التي تمتدّ لقرون وحسب، وإنّما بسبب الاختلافات الواقعيّة التي تجعل من فكرة الإصلاح الدينيّ في الإسلام فكرة واهية الصلة بطبيعة الإسلام الراهن، وفكرة متقادمة بالمعنى التاريخيّ.
لقد كان الإصلاح الدينيّ في الغرب ضربة للكنيسة الكاثوليكيّة لأنّه أدّى إلى الانشقاق عنها، وهذا طابع الحركات المذهبيّة عموماً، وهذا أيضاً ما تعرّض له الإسلام تاريخيّاً؛ فكلّ محاولة للتغيير ضمن الدين تؤدّي بطبيعة الحال إلى التشظّي المذهبيّ، ولولا ذلك لتمّ التغيير ضمن الكاثوليكيّة نفسها، أو ضمن مذهب بعينه في الإسلام، ولم نكن لنشهد ما نعرفه الآن من تعدّد في المذاهب. إنّ الزعم بتغيّر جذريّ في الكنيسة الكاثوليكيّة يفتقد الموضوعيّة، بما أنّها ما تزال متمسّكة باليقينيّات الإيمانيّة الكبرى، وفي الواقع لا يسع هذه الكنيسة أن تبدّل من يقينيّاتها وإلا فقدت الأساس الذي ترتكز عليه، مثلما لا يسع أيّ دين أن يتخلّى عن ثوابته الأساسيّة وإلا لم يعد الدين ذاته. ما تخلّت عنه الكنيسة الكاثوليكيّة ينحصر في الممارسات القروسطية التي لا تلائم عصر النهضة الأوربيّ، وهي وإن فعلت ذلك مُكرهة إلا أنّها حافظت على الغيبيّات الرئيسيّة فيما يخصّ شخصيّة المسيح ومن بعده بعض القدّيسين، مثلما حافظت على الاعتقاد الجوهريّ بأنّ للمسيح طبيعة ثنائيّة "بشريّة وإلهيّة".
تنطلق فكرة الإصلاح الدينيّ في الإسلام من ضرورة مواءمته مع العصر الحديث، وهي فكرة تطمح إلى الجمع بين نقيضين لا يلتقيان؛ فالأديان عموماً، ومنها الإسلام، تنتمي إلى قراءة وفهم للوجود ولّى زمنهما، ولهذا لم نعد نشهد ظهور أنبياء جدد وديانات جديدة. بهذا المعنى لا يمكن لأيّ دين أن يصبح حديثاً وأن تُعاد أقلمة مفاهيمه ضمن المنظومة المعرفيّة الحديثة أو وفق منهجيّاتها، وهذا يختلف عن قراءة النصّ الدينيّ وفق المناهج الحديثة لأنّ القراءة الأركيولوجيّة المعاصرة تختلف في المنطلقات عن القراءات الإصلاحيّة. إنّ أيّ محاولة لأقلمة الإسلام ضمن المنظومة المعاصرة ليست إلا من باب التلفيق، وغالباً ما ترتكز إلى عناصر أخلاقيّة أكثر من إيغالها في العمق المفهوميّ، ولعلّ من التناقضات الجوهريّة بين الدين والحداثة أنّ الأوّل يستند إلى التسليم المطلق فيما يخصّ قضيّة الوجود، بينما ترتكز الحداثة على الشكّ ونفي اليقينيّات، بما فيها ما قد يتسرّب إلى أذهان البعض كيقينيّات حداثيّة!. ولكي لا نبخس الأديان قيمتها فهي كانت بلا شكّ طريقة لوعي الوجود صالحة في زمانها، قبل أن يتخطّى العقل البشريّ طفولته، والدين كمنظومة شموليّة احتوى على عناصر عديدة تلخّص الخبرة البشريّة المتوافرة حتى زمنه، لكنّ الخبرات الإنسانيّة لم تتوقّف عند ذلك الحدّ، كما أنّ العقل البشريّ لم يتوقّف عند طفولته، وليس من المنطقيّ أن يعود العقل إلى مراحل تخطّاها كرمى لنصوص أُنجزت في لحظة تاريخيّة فات أوانها. في هذا السياق قد يبني البعض على ظواهر النكوص والارتداد التي يشهدها الغرب بين الحين والآخر، لكن من المعلوم أنّ الأصوليّة التي تعاود الظهور في الغرب بين الحين والآخر لم يكن لها تأثير كبير على مسيرة العقل، ومن الوهم الاعتقاد بأن تاريخ العقل يسير بطريقة دائريّة، مثلما من الوهم الاعتقاد بأنّه يسير بطرقة خطّية بلا تعرّجات.
لماذا فشلت محاولات الإصلاح الدينيّ في الإسلام؟ لطالما طُرح هذا السؤال دون النظر في محاولات الإصلاح ذاتها والتفكّر في جدواها ومنطلقاتها، ولا بأس من التنويه بأولئك الذين حاولوا تنظيف الإسلام من بعض مظاهر التخلّف، مع أنّهم في النهاية اصطدموا بنصّ مقدّس لا يملكون حياله إلا التسليم به أو رفضه، ومن شأن التسليم به أن يعيدهم إلى القاعدة الإبستمولوجيّة التي يقوم عليها الإسلام وغير القابلة للتغيير، أمّا في حال رفض النصّ المقدّس أو فكرة المقدّس ككلّ فهذا كفيل بإخراج المسألة من دائرة الإصلاح الدينيّ. يمكن على سبيل المثال المجادلة في الحالات التي اتخّذت بعداً أسطوريّاً أو خرافيّاً مفارقاً للنصّ الأصليّ، أي استخدام النصّ المقدّس كحجّة لدحض بعض المعتقدات التي اكتسبت سمة التقديس مع الزمن، لكنّ النصّ الذي يُحاجج به في مكان يصبح حجّة مضادّة للعقل في مكان آخر خاصّة بما يحتوي عليه من تناقضات داخليّة، وهذا يقودنا إلى نوع آخر من المحاولات الإصلاحيّة الانتقائيّة التي سرعان ما تفقد تماسكها المنطقيّ أمام تشعّب النصّ القرآنيّ وافتقاره إلى التماسك. ولا يسعفنا البحث في تاريخيّة القرآن كثيراً في قضيّة الإصلاح، على أهمّيّة هذا البحث النقديّة، لأنّ القداسة، من وجهة النظر الدينيّة، تنتمي إلى المطلق وتعلو على كلّ الأزمنة.
ما يُقصد تحديداً بالحديث عن الإصلاح هو الإسلام السنّيّ باعتباره مذهب الأكثريّة، وثمّة سمة فقهيّة أساسيّة في الإسلام السنّيّ هي عدم وجود مرجعيّة واحدة لعدم وجود الإمامة كما في المذهب الشيعيّ مثلاً، أي أنّ الإسلام السنّيّ خارج المأسسة بحدودها الدنيا وهذا اختلاف آخر عن الكنيسة الكاثوليكيّة التي تأخذ طابعاً مؤسّسيّاً هرميّاً عابراً للحدود السياسيّة، وهذا ما دفع بعض المنادين بالإصلاح إلى طرح فكرة إنشاء هيئة جامعة للمذهب السنّيّ تكون مسؤولة عن قضايا الإفتاء، وربّما تنهض بمهمّة الإصلاح المرتجاة!. تتقاطع هذه الفكرة مع محاولات بعض رجال الدين إنشاء تجمّعات عالميّة تكون بمثابة نواة لفاتيكان إسلاميّ، إلا أنّ مأسسة الإسلام السنّيّ تلاقي صعوبات جمّة ومنها صعوبات فقهيّة بسبب غياب مفهوم الإمامة كما أسلفنا، ومن المعلوم أنّ المذهب السنّيّ ارتبط بالخلافة التي شكّلت بديلاً موضوعيّاً عن الإمامة، فالخليفة كان بمثابة الحاكم السياسيّ والدينيّ في آن، لكنّ الخلافة انتهت إلى غير رجعة، وظلّت في إطار الحلم الإمبراطوريّ لبعض المسلمين، وليست أكثر من وهم يدور في أخيلة بعض من يطرحون عودتها بتنظيرات لا يُعتدّ به ولا تمتّ بصلة إلى الواقع السياسيّ والدينيّ، وضمن حركات إسلاميّة هامشيّة.
إنّ فكرة مأسسة الإسلام السنّيّ، ومن ثمّ إصلاحه عبر مؤسّسته، ليست أكثر واقعيّة من فكرة الإصلاح ذاتها، لأنّ الأساس الفقهيّ لها، وهو الإجماع، لم يعد له وجود منذ زمن بعيد مع تشظّي المذهب السنّيّ نفسه، ويجوز لنا القول إنّ انتقال الخلافة إلى العثمانيّين وسقوطها فيما بعد هو علامة فارقة في تاريخ تشظّي المذهب وتكريس عدم وجود مرجعيّة يُعتدّ بها. مع سقوط الخلافة انتهت إلى غير رجعة السلطةُ المركزيّة للسنّة، وإذا كانت السلطة لم تلغَ فقد تدنّت في المرتبة إلى وظيفة المفتي الذي يخضع للسلطة السياسيّة على نحو مباشر أو غير مباشر، ومع وجود مفتٍ في كلّ بلد اختلفت الفتاوى وتضاربت، إلا أنّ الملمح الأهمّ هو عدم وجود اعتراف شعبيّ بدور الإفتاء الرسميّة في تعبير واضح عن عدم وجود اعتراف شعبيّ بالسلطة السياسيّة القائمة، ما يفتح الباب أمام تشظّي الاجتهادات في كلّ بلد على حدة.
في الواقع يصعب تصوّر وجود كهنوت منظّم في الإسلام، ولا يمكن لأيّة هيئة أن تحتكر لنفسها باب الاجتهاد، ويستحيل إجرائيّاً إنشاء فاتيكان إسلاميّ يحظى بشرعيّة وقبول من عموم المسلمين على اختلاف أرائهم وأهوائهم. وإذا شئنا المقارنة مع الكنيسة الكاثوليكيّة فإنّ دولة الفاتيكان الحاليّة هي مجرّد فولكلور باقٍ من سطوة زمانيّة ودينيّة قديمة، وجلّ ما تحاوله الكنيسة هو الحفاظ على مكانتها الرمزيّة في ما يُسمّى "العالم المسيحيّ"، دون أن تسعى إلى فرض رؤيتها للوجود على العالم. لقد تمّ تحييد الكنيسة عن الحياة العامّة وعن السلطة السياسيّة، بينما لم يتمّ تحييد الإسلام عن السلطة السياسيّة، وما تزال أفكار ما يُسمّى بالإصلاح تراوح جهراً أو ضمناً بين تحرير الإسلام من السلطة السياسيّة أو مأسسته في سبيل إخضاعه للسلطة بشكل تامّ، أي أنّ غالبيّة المحاولات ما زالت دون فكرة الفصل بين السلطة الروحيّة والسلطة الزمانيّة، وما زالت دون جرأة الإعلان عن نهاية الإسلام بالمفهوم الزمانيّ.
يكاد كاتب هذه السطور أن يذهب إلى القول بأن محاولات الإصلاح الدينيّ، دون التشكيك بنوايا الأشخاص الذين قاموا ويقومون بها، ليست سوى تسويف للتهرّب من الاستحقاق الأساسيّ الذي يواجه المجتمعات "الإسلاميّة"، إذ تضمر فكرة الإصلاح أنّ المجتمعات العربيّة غير قابلة للدخول إلى الحداثة بسبب الإسلام، وبالتالي فإنّ الأولويّة هي لإصلاح الإسلام، فيتحتّم علينا انتظار إسلام حداثيّ ليكون بوّابة العبور إلى التنوير!!. هنا يغيب الاستلهام من المركز الغربيّ، ويتجاهل الكثيرون أنّ الحداثة الغربيّة والإصلاح الدينيّ في الغرب أقصيا الكنيسة عن المجال العامّ وعن السلطة الزمانيّة، لكن لا الإصلاح الدينيّ ولا الحداثة ألغيا من الأفراد حقّهم في الاعتقاد كما يشاؤون، بما في ذلك مختلف أنواع الغيبيّات. لقد فضح الإصلاح الدينيّ في الغرب سطوة الكنيسة على العموم وحاول تجريدها من سلطانها المقنّع بالدين، إلا أنّ الانشقاق الذي أحدثه الإصلاح سرعان ما تحوّل إلى كنيسة أخرى متخفّفة من الإرث السلطويّ للكاثوليكيّة لكنّها بالطبع غير متخفّفة من الإرث المفهوميّ للدين، ولن يغامر أحد بالقول إنّ أتباع الكنيسة الجديدة أكثر عقلانيّة من أتباع الكاثوليكيّة. بمحاولات التوفيق بين الإسلام والمفهوم المعاصر للدولة تتجاهل محاولات الإصلاح أهمّ عناصر النهضة الأوربيّة وهو إقصاء الدين عن المجال العامّ، وتعد بمشروع لا ينتهي من إعادة قراءة النصّ الدينيّ قراءة معاصرة، فتتجلّى المسألة كما لو أنّنا بحاجة إلى تغيير غالبية المسلمين لقناعاتهم الإيمانيّة ثمّ قيامهم بالتغيير المنشود في المجال العامّ. وإذ تتجاهل المحاولات الإصلاحيّة مسألة فصل الدين عن المجال العامّ فهي تتدنّى إلى مجرّد اجتهادات فقهيّة ضمن النصّ الدينيّ، هذا إن وجدت آذاناً صاغية في زحمة الفقهاء، وربّما بات من الضروريّ توضيح الحدود الفكريّة بين الكتابات التي تُدمج عادة ضمن مشروع الإصلاح الديني؛ فهناك كتابات تندرج في إطار الاجتهاد الفقهيّ، وهناك كتابات تندرج في إطار نقد الفكر الدينيّ، أمّا الإصلاح الدينيّ، كما يراه كاتب هذه السطور، فهو ليس سوى فكرة غامضة ومتهافتة. نعم؛ تحتاج مجتمعاتنا إلى إصلاح، لكنّه ليس ما يُسمّى بالإصلاح الدينيّ، هو بالضبط الإصلاح الذي يعني تحييد الدين عن المجال العامّ بغضّ النظر عن آفاق التطوّر في الدين نفسه، لأنّ الدين لن يكون في أحسن حالاته القاطرة التي تجرّ المجتمع إلى الأمام.