ختم ما لا يختم.. مستقبل فكرة التقريب إلياس بلكا -
ilyassbalka@almassae.press.ma
مرّت قضية التأليف بين الأمة منذ زمان الشيخ القمي ودار التقريب إلى أيامنا هذه بمراحل ومصاعب.. لكن شتان بين تلك البداية التي كان يرى أصحابها أن مهمة التقريب نجحت أو في طريقها إلى النجاح، وبين هذه النهاية التي أصبح فيها المشروع كله مهددا وعلى المحك، كما قال القرضاوي، بل إن بعضهم يتحدث عن نكسة للفكر الإسلامي الحديث الذي كان قد قطع أشواطا في التجديد وإبراز الوجه الحضاري للإسلام، إذ أطلت الطائفية علينا بوجهها القبيح.. وأصبح التخلي عن فكرة التأليف والانقلاب على أمل التقريب من أبرز مظاهر هذه الأزمة الطائفية.. إنها ردة، بتعبير زكي الميلاد، وأخطر محنة في حياة فكرة التقريب.
لكن هذه الأزمة اليوم سبب إضافي للتشبث بالفكرة ودافع إلى تجديدها وتطويرها، وليس لأحد من الأطراف أو الفرق خيار آخر.. فإن الصراع مدمر للجميع بلا شك.
على أن بعض العلماء والمفكرين لا يعترف بفشل الفكرة، بل يقول: إن مشروع التقريب لم يفز فوزا كليا، لكنه حقق نجاحا نسبيا.
ومهما كان الأمر، فإن بأيديينا حلا مؤقتا، أعني لو فرضنا أننا لم نستطع أن نتآلف أو نتوحد.. والحلّ ـ كما صرّح به مجموعة من كـُتاب الفريقين ـ هو أن نتعايش، وهذا أدنى المطلوب، ولا عذر لأحد في تركه. وكيف يكون ذلك ورسولنا حضر حلف الفضول ومدحه، وقال: لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت. وهو حلف من المشركين.
وأقول لأهل السنة: لا ينبغي أن نسقِط السعي إلى التقريب نهائيا، إذ يوجد أمل في نجاحه في المستقبل، ذلك أن التشيع الإمامي يشهد منذ بضعة عقود مراجعات ومناقشات عميقة بين تيارين اثنين: تيار يحاول تهذيب العقيدة وتشذيبها مما علق بها من بعض أفكار الغلو، ويؤمن بضرورة الاقتراب من جمهور الأمة. وتيار يصر على هذه العقائد وعلى التميّز عن أهل السنة، ويتمسك بما يسميه ضروريات المذهب التي لا تـُناقش.. وهذه الضروريات تتسع عند بعضهم حتى يدخل فيها الإيمان الجازم بأن عمر بن الخطاب كسر ضلع فاطمة الزهراء!
ومن المبكر أن نتكلم عن نتيجة هذا التدافع بين التيارين، هل تكون لأحدهما.. أم سيظهر تيار ثالث هجين؟
وكثيرون من أهل السنة لا يدركون أن للطائفة مشكلات حقيقية في مجال التجديد، وهي قضايا ليست بسيطة ولا هيّنة. ومن قرأ كثيرا في مذهب الإمامية، سيقدّر حجم هذه الصعوبات التي تعترض القوم. ولذلك فأنا متمسك بقضية التقريب، لأنني أعتقد أن المذهب الإمامي يعيش منذ عقود على الأقل ـ أعني مادمنا نتكلم عن الفترة المعاصرة ـ بعض التحولات التي تطال المذهب بمجموعه: عقائد وأصولا ومفاهيم وتصورات.. ولا أقول، كما يرى العراقي أحمد الكاتب في بعض كتبه، إن الإمامية القديمة انقرضت، وإن الموجود الآن مذهب آخر غير الإمامية.. فهذه مبالغة في نظري، والله أعلم. صحيح أن الفكر السياسي للطائفة اقترب كثيرا من أهل السنة، فإن عقيدة الإمامة الآن باهتة، وحلـّت مكانها فكرة ولاية الفقيه، وهي في الواقع التفاف ذكي على قضية الإمامة وإلغاء عملي لعقيدة انتظار المهدي.. لذلك عاد الإثنا عشرية المعاصرون إلى أسلوب الانتخاب والاحتكام إلى الأمة.. أي إلى نظرية الشورى السنية. هذا صحيح، لكن كثيرا من عقائد الطائفة وأفكارها القديمة لا تزال حاضرة اليوم، وبقوة أحيانا، لذلك فعلا أستشعر تغيّر الفرقة لأسباب متعددة، وربما كتبت عن هذا مستقبلا إن شاء الله تعالى.. والمقصود أنه يبدو أن المذهب يعيش مخاضا جديدا، لذلك علينا ـ نحن أهل السنة ـ أن نساعد إخواننا الإمامية على تحقيق هذا المخاض بأفضل النتائج الممكنة لنا ولهم.. وللإسلام قبل كل شيء آخر، أما اتخاذ الموقف المتشنج والمتشدد مع القوم.. فربما دفع هذه التحولات الجارية، ببطء لكن بثبات.. في اتجاهات أكثر ابتعادا عن الأمة، وأكثر «تطرفا».
إن وقوع الافتراق في الأمة، وإن كان بما كسبت أيدينا، فإنه أيضا أمر قدري، تكويني لا شرعي. وقد جاء في أحاديث صحيحة أن النبي الكريم سأل ربه ألا يهلك أمته بسنة عامة أو قحط، أو نحو ذلك.. فأجابه سبحانه. وسأله ألا يسلط عليهم عدوا يستأصلهم، فأجابه لذلك. وسأله ألا تختلف أمته، فمنعه ذلك. إن لله تعالى سننا تحكم جميع الأمم والأديان، ولا يمكن للمسلمين وحدهم أن يشذوا عنها. ولو لم تختلف الأمة على قاعدة الإمامة، لاختلفت على غيرها.. بمعنى أنه لو لم يكن في تاريخنا هذا الخلاف، لكان غيره، فلا يمكن أن يخلو أي مجتمع بشري من التنازع. ولا يعني هذا التسليم بالأمر الواقع، ولا عدم بذل الجهد في سبيل جمع كلمة المسلمين.. إن الحديث ـ وما في معناه ـ يتكلم عن وقوع الافتراق، لكنه لا يذكر شيئا عن حدوده ومداه. ومهمتنا ليست إزالة أصل الخلاف، بل الحدّ منه والتخفيف من آثاره السلبية على حياة الأفراد والجماعات في دار الإسلام.. ينبغي أن ننجح في منع تحول التنوع المذهبي إلى طائفية تتغذى على التنازع والتناحر. وهذه الغاية إذا حققناها عظيمة جدا، حتى مع استمرار وجود الفرق. وهي أيضا غاية ممكنة، بل تدل التجربة التاريخية على تحققها في بعض العصور، أو في بعض البلاد.. يكفيك من ذلك أن تنظر إلى القارة الإفريقية مثلا، فهي قارة لا تكاد تعرف هذه المشكلات المذهبية والطائفية، وهو أمر حاصل من قرون.
لماذا يوجد الخلاف في الأمة؟ لحكمة إلهية رفيعة، هي حكمة خلق الدنيا أصلا، إنها: حكمة الابتلاء.. كل شيء موضوع في هذه الحياة لأجل الابتلاء، (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) كل أمر صغير أو كبير فيه اختبار، وفيه امتحان.. والله سبحانه كما يبتلي الأفراد يبتلي الجماعات.. فيمتحن بعضها ببعض، في حالات الوفاق كما في حالات الخلاف. لذلك سنـُسأل يوم القيامة عن مواقفنا من هذا الابتلاء، خاصة إذا حوّلناه إلى بلاء.
إن الكتابة في موضوع الخلاف السني-الشيعي صعبة من نواح متعددة، فهي تقتضي الحد الأدنى من الخبرة والمعرفة بالتراثين الهائلين لكلا الفريقين، وهو ما يتطلب سنوات طويلة من القراءة والاطلاع والبحث الشاق. لذلك ثمة حاجة إلى جهد جماعي في هذا الحقل. كما أن الكتابة في الموضوع بشيء من التوازن تغضب الطرفين معا، ولا يوجد من كتب في هذا المجال بروح التوافق والتصالح ولم يسلم من النقد والهجوم من كثير من السنة والشيعة معا، فهذه قضية يستحيل فيها إرضاء الجميع، ومن أحب السلامة هرب إلى غيرها. ورغم ذلك أرى أن توفـّر مجموعة كافية من الباحثين والمفكرين والعلماء تتخصص في هذا الموضوع وتتفرغ له بالبحث والكتابة: فرض من أهم فروض الكفاية اليوم. وفي ما يتعلق بي، أظن أنني قمت ببعض الواجب، وهذا آخر مقال أكتبه في القضية بالجريدة. وربما سعيت مستقبلا إلى جمع هذه المقالات التي نشرتها في يومية «المساء» في كتاب واحد حتى تكون الفائدة أفضل وأدوم..
إن المغرب الغنيّ بتاريخه، والعظيم بحضارته، والثريّ بشبابه وطاقاته.. يستطيع أن ينجز الكثير في هذا المجال، مما سيعود على الأمة جمعاء بالخير والتقارب. أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعا ممن نزع الله ما في صدورهم من غلّ، وأن نكون عنده إخوانا على سرر متقابلين، وأن يلطف بالأمة، ويهديها إلى الخير، وييسر لها جمع الكلمة ووأد الفتنة.. إنه على ما يشاء قدير. وأصلي وأسلم على النبي الأعظم، والرسول الأكرم، وعلى أصحابه البررة، وعلى أزواجه الطاهرات، وعلى ذريته وآله.. وسلام من السلام على الجميع،