ما حدث يوم الأحد الدامي 'تطهير سياسي' وليس تزويرا للانتخابات!
محمد عبد الحكم دياب
2010-12-03
قيل عما جرى يوم الأحد الماضي في مصر بأنه الأقل عنفا مقارنة بما حدث في 2005، وحسب ما رأيت وشاهدت فهذا قول مخادع، فالعنف كان على أشده. وإن كان العدد المعلن للقتلى أقل؛ فإن أعداد الإصابات الخطيرة كانت مضاعفة، والسبب أن أكثر الناخبين قاطعوا، ومن ذهب قاوم وكان أكثر حرصا على حماية نفسه. وهناك من كان على قدر عال من الجرأة مكنته من التصدي لعمليات التزوير داخل اللجان وإن فشل، ومنهم من استولى على صناديق الاقتراع وأحرقها بما فيها من أصوات مزيفة على مرأى وسمع من الناس. كما قللت المقاطعة والحرص على حماية النفس والجرأة في التصدي لتدخلات االأمن وتحدي ترويع البلطجية، وعدم الاكتراث بتجبر وغطرسة أحمد عز وأباطرة الحزب الحاكم، من عدد القتلى بالعدد الذي كان متوقعا. أما ما أعلن عن بلوغ نسبة المشاركة 35' ففضلا عن كونه مبالغة فإنه يكشف التزوير البالغ. وعلى سبيل المثال فإن كل من أدلى بصوته أمام اللجنة المقيد بها اسمي لم يتعد ثمانين ناخبا، وبعد الفرز خرج منها عشرة آلاف وخَمسمئة صوت لصالح مرشحَي الحزب الحاكم، واسم الدائرة ورقم اللجنة لدي لمن يطلبه، وقد لاحظت أن الأحياء والقرى التي لم يكن لها مرشحون قاطعت الانتخابات، وكانت لجانها خاوية تقريبا، والتقديرات في أحسن الأحوال تشير إلى أن العدد الإجمالي لمن أدلوا بأصواتهم لم يزد عن مليوني ناخب على مستوى الجمهورية، وليس 14 مليونا كما أْعلنت اللجنة العامة للانتخابات، أي لا تزيد عن 5' من عدد ناخبين يبلغ أكثر من أربعين مليونا.
وصف ما جرى يوم الأحد الماضي الدامي بالتزوير ليس بالدقة الكافية؛ لأنه كان 'تطهيرا سياسيا' شاملا؛ هدفه إخصاء السلطة التشريعية لتكون عقيمة وهي تسمي مرشح الرئاسة القادم، وإبعاد أي عنصر مؤثر وكل صوت ناقد أو معارض؛ وكنت قد استطلعت رأي واحد من خبراء الأمن الكبار حول خطة وزارة الداخلية، وذلك قبل عشرة أيام من يوم الانتخابات؛ وذكر لي أن التعليمات قضت بحصر المعركة في مواجهة الإخوان المسلمين، ومنعهم بكل السبل من دخول المجلس، مع ترك مرشحي الحزب الحاكم المتنافسين يُصَفّون بعضهم بعضا، ومن ينجح منهم يدخل إلى حظيرة أحمد عز؛ وكيل جمال مبارك. ويبدو أن عدم تضامن حزب الوفد مع الحزب الحاكم في بلاغه ضد الإخوان غيّر من هذه الخطة، ووضع حزب الوفد على قائمة الاستهداف، بجانب أن المستقلين الذين كشفوا مخالفات وانحرافات الوزراء والمسؤولين الكبار؛ تمت معاملتهم معاملة الإخوان المسلمين. ليس هذا فقط فقد طال 'التطهير السياسي' نوابا من الحزب الحاكم مثل محمد العمدة. وكانت خطيئته أنه أثار مخالفات العلاج على نفقة الدولة لكبار المسؤولين وعائلاتهم.
ويكفي لتسمية مرشح الرئاسة القادم شكل برلماني بدائي بلا معارضة؛ أشبه بكائن وحيد الخلية؛ يعرف في علم الأحياء بالأميبا، لا تتوفر لها حياة بالمعنى الحقيقي. و'التطهير السياسي' لا يختلف عن التطهير العرقي، الذي يستهدف إبادة جماعات بشرية وشعوب وأعراق، وإنهاء وجودها المادي والاجتماعي والسياسي، وشهدت البشرية أبشعه في الأندلس، وبدا مقدمة لما تلاه بإبادة أبناء العالم الجديد الأصليين في الأمريكتين، وإحلال الجنس الأوروبي الأبيض محلهم، وامتد ذلك التطهير حتى طال أطراف العالم القديم؛ في استراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا ومناطق أخرى في القارة السمراء، وبدأ هذا المخطط يستهدف الوطن العربي من حملة نابليون، مرورا بزرع المستوطنات اليهودية من نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وزادت بعد الحرب العالمية الأولى، وقبل أن تضع تلك الحرب أوزارها تم التمهيد لها بزرع اليهود ليحلوا محل العرب مسلمين ومسيحيين، إذا كان التطهير العرقي كذلك فإن 'التطهير السياسي' يصفي ويبعد القوى السياسية والأحزاب والجماعات والعناصر النشطة غير المرغوب فيها، ويعتمد استخدام الإرهاب والعنف، ويروع الناخبين بغرور القوة وغشمها، ويمنع المرشحين المعارضين من حقهم المشروع في التمثيل النيابي، ومنح مقاعدهم لمن لا يستحق.
بعد الانتخابات الأخيرة في بريطانيا علت نغمة الحديث عن 'التطهير الاجتماعي' كنتيجة للاستقطاعات الضخمة من الميزانية، بلغت 81 مليار جنيه استرليني؛ يتحمل مسؤوليتها الائتلاف الحاكم المكون من حزبي المحافظين والأحرار؛ في برلمان معلق؛ لم يحصل فيه أي حزب من الأحزاب الرئيسية الثلاثة على أغلبية تمكنه من الحكم منفردا، وكانت الإجراءات التقشفية شديدة الوطأة على محدودي الدخل والفقراء والعاطلين عن العمل والطلاب، فبجانب مضاعفة المصاريف الجامعية؛ من أكثر قليلا من ثلاثة آلاف جنيه استرليني إلى تسعة آلاف جنيه استرليني مرة واحدة، بشكل أثار الطلاب وأدى بهم إلى اقتحام مقر حزب المحافظين وتحطيمه. بجانب ذلك وضعت الحكومة سقفا لمساعدات الإسكان التي تحصل عليها الفئات المذكورة، مما يجعلها عاجزة عن الاستمرار في مساكنها اللندنية الحالية؛ ولندن هي المدينة الأغلى عالميا، وإجبار هذه الفئات على الخروج من العاصمة أو السكن على أطرافها، بكل ما يترتب على ذلك من أعباء على الأسرة، خاصة الأطفال والتلاميذ، ومشاكل الحياة الجديدة لهم ولذويهم. عُد ذلك 'تطهيرا اجتماعيا' لطرد فئات محدودة الدخل وفقيرة لصالح الأثرياء وذوي الدخل العالي. وكان إجراء شبيه هو الذي أسقط أقوى رئيسة وزراء بريطانية في النصف الثاني من القرن الماضي؛ مارغريت ثاتشر، حين فرضت 'ضريبة الرأس'، ودفعت الثمن وخرجت من الحكم.
وقياسا على ذلك يمكن وصف ما حدث يوم الأحد الدامي بـ'التطهير السياسي'، وإذا ما دققنا في المشهد لوجدناه أنه كان ممنهجا بكم من الإجراءات والمحظورات؛ في ظروف غاب فيها الإشراف القضائي، وفُرضت فيها ترسانة المواد الأربع والثلاثين المعدلة في الدستور؛ لإحكام القبضة على مفاصل العملية الانتخابية، نتيجة لكشف القضاة لكثير من صور التزوير في 2005. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان الحصار قد أحكم على الرأي العام في الشهور الأخيرة بإجراءات إدارية اتخذت تباعا، وحالت دون متابعة أجهزة الإعلام والصحافة للانتخابات، ومنع التصوير ورفض وجود المراسلين بالقرب من اللجان الانتخابية، والتضييق على الرقابة المحلية وتحريم الرقابة الدولية، واستبعاد 400 مرشح، ثم رفض إعادتهم بعد صدور أحكام نهائية لصالحهم من المحكمة الإدارية العليا ومنع قيدهم من جديد في جداول المرشحين، ووقع الناخب تحت حصار محكم، وترجم ذلك في إغلاق كثير من اللجان من وقت مبكر، وسودت بطاقات الانتخاب لصالح المرشحين المختارين. وهذا سمح لعناصر من الأمن بإهانة قضاة حاولوا منع التزوير، ومثال ذلك ما جرى للقاضي وليد الشافعي في لجنة البدرشين، وإهانة ضابط من أمن الدولة له، وضَمّن ما حدث له في تقرير إلى اللجنة العليا لم تعره الاهتمام الكافي. والرخصة التي سمحت بهذا هي قانون الطوارئ المطبق لثلاثين عاما متصلة.
وتطهير المجلس القادم من المعارضة لا علاقة له بالقانون رغم عواره، ولم يكن من مهام الحزب الحاكم رغم فساده، وما جرى اعتمد على سطوة الشرطة والأمن، وفاشية أمين تنظيم الحزب المعادي بفطرته ومصالحه للقوى الوطنية، وكانت الانتخابات فرصته للانتقام وتصفية الحسابات مع خصومه.
ومع أنني كنت قد قررت المقاطعة، لكن ما شاهدته وسمعته دفع بي إلى دائرتي الانتخابية في محافظة 6اكتوبر، وفي الطريق أُبلغت أن اللجنة المقيد بها اسمي أغلقت أبوابها من الحادية عشرة صباحا، وقلت لأذهب وأطلع بنفسي على ما يحدث فيها. انتظرت إلى قرب موعد الإغلاق الرسمي، وقبل 25 دقيقة من انتهاء الموعد كنت على باب اللجنة؛ وجدته مغلقا، وكانت تبدو وسط ثكنة عسكرية. متاريس على مدخل الشارع، وحواجز تمنع الناخبين من الدخول، وعلى بعد خمسين مترا تقف ثلاث حافلات كبرى للأمن المركزي زرقاء اللون، وأعداد غفيرة منهم خارجها في حالة تأهب. وعلى باب اللجنة طلب مني شابان عدم الدخول. عرفت فيما بعد أنهما من أمن الدولة؛ تجاهلتهما وبدأت أطرق على الباب، وأثناء الطرق دفعت النصف الآخر من الباب ففُتح، ودخلت يرافقني أحد أشقائي؛ وجدت اللجنة خالية وخاوية، وفيها شخص جالس على مقعد دراسي بالقرب من المدخل، وحضر إلي ثلاثة من ضباط الشرطة بزي الأمن المركزي الأسود؛ أحدهم برتبة مقدم والآخران برتبة نقيب، طلبت الإدلاء بصوتي، فأبلغوني أن التصويت انتهى، ونظرت إلى ساعتي مبتسما وقلت: تحملت مشقة الحضور من مدينة بعيدة، وعدم قيامي بواجبي الانتخابي يعني أنني ضيعت جهدا ووقتا بلا فائدة، وعليكم أن تعوضوني عن ذلك. بادلنى المقدم الابتسام قائلا: 'احنا قمنا بالواجب'؛ أي انهم أدلوا بصوتي نيابة عني وفي غيابي! ويبدو أنهم تصوروا أنني أحد أعضاء الحزب الحاكم؛ لحفاوة قوبلت بها من البعض. فأراد الضابط أن يثلج صدري ويزف إلي بشرى قيامه بالواجب! وبذلك صدقوا على ما قيل عن إغلاق اللجنة منذ وقت مبكر!
مرت مرحلة 'التطهير' الأولى وكان مخططا لها أن تكتمل في الإعادة غدا، ولأول مرة يتخذ الإخوان المسلمون موقفا بمقاطعة انتخابات الإعادة؛ مختلفا عن مواقفهم التقليدية، وقد يكون ذلك بداية إسقاط رهانهم على حكم لا يراهن عليه. فهو لا يبالي بشيء، فقد إنسانيته بالكامل، ويتعامل مع المواطنين بازدراء بالغ، وأعلن البراءة من الانتماء للوطن والولاء للشعب. وقرار انسحاب حزب الوفد من دخول الجولة الثانية أعاد له قدرا من الاعتبار السياسي والتاريخي. وبانسحاب الإخوان المسلمين وحزب الوفد قُطع الطريق ومُنع استكمال 'التطهير السياسي'. وقد يكون درسا أكثر فائدة للوفد، لكونه لم يلب نداء المقاطعة، وأمِن مكر حكم فاقد للأهلية والشرعية. وصدّق وعده بنزاهة الانتخابات، ونسي أن آية الحكم المصري أنه إذا حلف كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، ولهذا فهو لا يستحي، ومن لا يستحي يفعل ما يشاء.