قال مؤرخو العرب إن ملوك الفرس كانوا متسلطين على كثير من ممالك العرب، قبل مولد محمد وفي عصره أيضاً. قال أبو الفداء إن »كسرى أنوشروان« أرسل جيوشه إلى مملكة الحيرة وعزل ملكها »الحارث« وولى عوضاً عنه أحد رعاياه اسمه »منذر ماء السماء«. وبعد ذلك أرسل هذا الملك المشهور جيشه تحت إمرة »وهرز« إلى بلاد اليمن. وكان أول ما فعله بعد ذلك أنه طرد الحبَش وولى »أبا السيف« على مملكة أسلافه (انظر تاريخ أبي الفداء باب 2). ولكن بعد قليل تولى »وهرز« نفسه على مملكة اليمن، وسلَّم لذريته السيادة (سيرة الرسول لابن هشام ص 24 و25). وقال أبو الفداء: »كانت المناذرة آل نصر بن ربيعة عمالاً للأكاسرة على عرب العراق« (باب 2). وقال عن اليمن: »ثم ملك اليمن بعدهم (أي أهل الحِمْيَر) من الحبشة أربعة، ومن الفرس ثمانية، ثم صارت للإسلام«.
فيتضح من هذا أنه كان بين أهل الفرس وبين العرب تواصلٌ واختلاط زمن أيام محمد، وقبله. وبما أن الفرس كانوا متقدمين في العلوم والمدنيَّة أكثر من العرب في زمن الجاهلية، كان لابد أن دينهم وعلومهم وعاداتهم وفروضهم أثرت تأثيراً عظيماً في العرب. ويتضح من التواريخ ومن شهادة مفسري القرآن أن قصص العجم وأشعارهم تواترت في ذلك الوقت بين قبائل جزيرة العرب، فتداولوها تداولاً عاماً. وهذا يوافق قول ابن هشام إن العرب لم يسمعوا في عصر محمد قصص رستم وأسفنديار وملوك فارس القدماء فقط، بل إن بعض قريش استحسنوها وفضلوها على قصص القرآن. وهاك نص عبارة ابن هشام: »والنصر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي كان إذا جلس رسول الله مجلساً فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن وحذر قريشاً ما أصاب الأمم الخالية، خلفه في مجلسه إذ قام، فحدَّثهم عن رستم الشديد وعن أسفنديار وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها« فأنزل الله فيه »وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليهم بكرة وأصيلاً. قُل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض أنه كان غفوراً رحيماً« (سورة الفرقان 25: 5 و6). ولاشك أن هذه القصص عن رستم وأسفنديار وملوك فارس هي القصص التي أخذها الفردوسي بعد محمد بأجيال من مجموعة قصص لأحد الفلاحين ونظمها شعراً، ودُوِّنت في »الشاهنامة«. وبما أن العرب طالعوا قصص ملوك الفرس وتواريخهم، فلا نتصور أنهم كانوا يجهلون قصة جمشيد ويجهلون خرافات الفرس عن معراج أرتاويراف وزردشت، ووصف الفردوس، وصراط جينود، وشجرة حوابة، وقصة خروج أهرمن من الظلمات الأولية، فلابد أنهم كانوا يعرفونها حق المعرفة.
فهل أثَّرت هذه القضايا وما شابهها في القرآن وفي الأحاديث المتواترة بين المسلمين أم لم تؤثر فيهما؟ يؤكد منتقدو القرآن أن كل قضية من هذه القضايا أثرت تأثيراً مهماً في القرآن والأحاديث إلى درجة بليغة، حتى أصبحت قصص قدماء الفرس واعتقاداتهم أحد مصادر الإسلام. وقال منتقدو القرآن إن كثيراً من الخرافات التي كانت متداولة في بلاد الفرس في قديم الزمان لم تقتصر على بلاد فارس فقط، بل تناولت قدماء الهنود وانتشرت بينهم أيضاً، لأن أجداد الهنود زحفوا من »هرات« إلى الهند واستوطنوها. فبعض تلك الأوهام والآراء والمذاهب هي الميراث الأدبي والديني لهاتين الأمَّتين، وديانتهم مبنية على هذه الأوهام والآراء التي ورثوها عن السلف. ومع أن مصدر بعضها كان في بلاد فارس بعد توطن أجداد الهنود في الهند، ولكنها بمرور الوقت وصلت إلى الهند وانتشرت بين أهلها فتمسكوا بها. ولكن بما أنه لا يجوز التسليم بصحة قول المنتقدين بدون أن يقيموا برهاناً كافياً، وجب أن نطلب منهم أن يأتوا ببرهانهم إن كانوا صادقين. فأوردوا بعض آيات القرآن والأحاديث. فلننظر فيها بتدقيق ثم لنقارنها بما ورد في كتب الفرس والهند القديمة عن مثل هذه الأمور وما أشبهها.
(1) قصة معراج محمد: النبأ عن المعراج في ليلة الإسراء ورد في القرآن في سورة الإسراء 17: 1 »سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا. إنه هو السميع البصير«. وقد اختلف مفسرو المسلمين اختلافاً عظيماً في تفسير هذه الآية، فقال ابن إسحق إنه ورد في الأحاديث أن عائشة كانت تقول: »ما فُقد جسد رسول الله ص ولكن الله أسرى بروحه«. وورد في الأحاديث أيضاً أن محمداً ذاته قال: »تنام عيني وقلبي يقظان« (سيرة الرسول ص 139). ويُفهم مما قاله محيي الدين في تفسيره هذه الآية أنه فهم المعراج والإسراء بطريقة مجازية واستعارية، لأنه قال: »سبحان الذي أسرى« أي أتْرَهَهُ عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية بلسان حال التجرد والكمال في مقام العبودية الذي لا تصرف فيه أصلاً. »ليلاً« أي في ظلمة الغواشي البدنية والتعليقات الطبيعية، لأن العروج والترقي لا يكون إلا بواسطة البدن. »من المسجد الحرام« أي من مقام القلب المحرم عن أن يطوف به مشرك القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها ويحجه غوى القُوى الحيوانية من البهيمية والسبعية المنكشفة سواء إفراطها وتفريطها لعروسها عن لباس الفضيلة. »إلى المسجد الأقصى« الذي هو مقام الروح الأبعد من العالم الجسماني بشهود تجليات وسبحات الوجه وتذكر ما ذكرنا أن تصحيح كل مقام لا يكون إلا بعد الترقي إلى ما فوقه، لتفهم من قوله »لنريه من آياتنا« مشاهدة الصفات، فإن مطالعة تجليات الصفات وإن كانت في مقام القلب، لكن الذات الموصوفة بتلك الصفات لا تشاهد على الكمال بصفة الجلال إلا عند الترقي إلى مقام الروح، أي لنريه آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا. ونحن المشاهدون بها البارزون بصورها«.
فإذا اعتمدنا على قول محمد ذاته وقول عائشة وتفسير محيي الدين، كان معراج محمد مجازياً واستعارياً وليس حقيقياً. غير أن ما قاله ابن إسحق وغيره ينافي هذا الرأي، لأنه قال إن محمداً قال إن جبريل أيقظه مرتين وأنه نام ثانية، ثم ساق الكلام قائلاً »فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلستُ. فأخذ يعضدني. فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفز بها رجلين. يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته«. قال ابن إسحق: وحدثت عن قتاده أنه قال: حدثت أن رسول الله قال: »لما دنوتُ لأركبه شَمُس، فوضع جبريل يده على مَعْرَفته، ثم قال: ألا تستحي يا بُراق مما تصنع؟ فوالله يا براق ما ركبك عبدٌ لله قبل محمد أكرم على الله منه. قال: فاستحيا حتى ارفضَّ عرقاً، ثم قرَّ حتى ركبته«. قال في حديثه: فمضى رسول الله ومضى جبريل معه حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فألهم رسول الله فصلى بهم، ثم أتى بإناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن. قال: فأخذ رسول الله ص إناء اللبن فشرب منه وترك الخمر. فقال له جبريل: هُديت للفطرة وهُديت أمتك يا محمد، وحرمت عليكم الخمر«. ثم انصرف رسول الله إلى مكة.
فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: »هذا والله الأمر البين. إن العير لتطرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة. أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟« (سيرة الرسول لابن هشام صفحة 138 و139). وورد في مشكاة المصابيح: »عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: أن نبي الله حدَّثهم عن ليلة أُسري به: بينما أنا في الحطيم وبما قال في الحجر، مضطجعاً، أن أتاني آت، فشق ما بين هذه وهذه (يعني من ثغرة نحره إلى شعرته) فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً، فغسل قلبي ثم حشي، ثم أعيد. وفي رواية: غُسل البطن بماء زمزم ثم مُلئ إيماناً وحكمة. ثم أُتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، يُقال له البراق، يضع خطوة عند أقصى طرفه. فحُملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنِعم المجيء. جاء ففتح. فلما خلصت فإذا فيها آدم. فقال: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه. فسلمتُ عليه فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى السماء الخامسة فاستفتح. قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء. جاء ففتح. فلما خلصت فإذا هارون. قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه، فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً، فنعم المجيء. جاء ففتح. فلما خلصت فإذا موسى. قال: هذا موسى فسلِّم عليه. فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. فلما جاوزتُ بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرائيل. قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء. فلما خلصت فإذا إبراهيم. قال: هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رُفعت إلى المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: هذا سدرة المنتهى. فإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران. قلت: ما هذا يا جبرائيل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رُفع لي البيت المعمور، ثم أوتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن. فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمَّتك« (مشكاة المصابيح من صفحة 518 إلى 520). ثم ساق الكلام وذكر أشياء أخرى كثيرة تختص بمعراج محمد، منها بكاء آدم وغيره مما لا لزوم إلى ذكره هنا.
ولننظر فيما إذا كان ما ذُكر عن معراج محمد أُخذ من قصة قديمة مشابهة لها أم لا. وإذا سأل سائل: ما هو مصدر قصة المعراج؟ قلنا: كتاب »أرتاويراف نامك« المكتوب باللغة البهلوية (أي اللغة الفارسية القديمة) منذ 400 سنة قبل الهجرة، في أيام أردشير بابكان ملك الفرس. وبيان ذلك أنه لما أخذت ديانة زردشت في بلاد الفرس في الانحطاط، ورغب المجوس في إحيائها في قلوب الناس، انتخبوا شاباً من أهل زرشت اسمه »أرتاويراف« وأرسلوا روحه إلى السماء. ووقع على جسده سُبات. وكان الهدف من سفره إلى السماء أن يطَّلع على كل شيء فيها ويأتيهم بنبأ. فعرج هذا الشاب إلى السماء بقيادة وإرشاد رئيس من رؤساء الملائكة اسمه »سروش« فجال من طبقة إلى أخرى وترقى بالتدريج إلى أعلى فأعلى. ولما اطلع على كل شيء أمره »أورمزد« الإله الصالح (سند وعضد مذهب زردشت) أن يرجع إلى الأرض ويخبر الزردشتية بما شاهد، ودُوِّنت هذه الأشياء بحذافيرها وكل ما جرى له في أثناء معراجه في كتاب »أرتاويراف نامك«.
ولنترجم عبارتين أو ثلاث عبارات من كتاب »أرتاويراف نامك« (فصل 7 فقرة 1-4) لننظر إن كان هناك تشابه بين معراج محمد ومعراج أرتاويراف الوهمي. قال: »وقدمت القدم الأولى حتى ارتقيت إلى طبقة النجوم في حومت.. ورأيت أرواح أولئك المقدسين الذين ينبعث منهم النور كما من كوكب ساطع. ويوجد عرش ومقعد باه باهر رفيع زاهر جداً. ثم استفهمت من سروش المقدس ومن الملاك آذر ما هذا المكان، ومن هم هؤلاء الأشخاص«.
وقصدهم من قولهم »طبقة الكواكب« فهو الحياط الأول أو الأدنى من فردوس الزردشتية، وأن »آذر« هو الملاك الذي له الرئاسة على النار، و»سروش« هو ملاك الطاعة وهو أحد المقدسين المؤبدين، أي الملائكة المقرَّبين لديانة زردشت، وهو الذي أرشد »أرتاويراف« في جميع أنحاء السماء وأطرافها المتنوعة، كما فعل جبرائيل بمحمد.
وبعد هذا ساق الكلام على كيفية وصول »أرتاويراف« إلى طبقة القمر، وهي الطبقة الثانية، ثم يليها طبقة الشمس وهي الطبقة الثالثة في السموات. وهكذا أرشده إلى باقي السموات. وبعد هذا ورد في فصل 11: »وأخيراً قام رئيس الملائكة »بهمن« من عرشه المرصع بالذهب فأخذني من يدي وأتى بي إلى حومت وحوخت وهورست بين أورمزد ورؤساء الملائكة وباقي المقدسين، وجوهر زردشت السامي العقل والإدراك وسائر الأمناء وأئمة الدين. ولم أرَ أبهى منهم رِواء ولا أبصر منهم هيئة. وقال بهمن: هذا أورمزد. ثم أني أردت أن أسلِّم عليه، فقال لي: السلام عليك يا أرتاويراف. مرحباً أنك أتيت من ذلك العالم الفاني إلى هذا المكان الباهي الزاهر. ثم أمر سروش المقدس والملاك آذر قائلاً: احملا أرتاويراف وأرياه العرش وثواب الصالحين وعقاب الظالمين أيضاً. وأخيراً أمسكني سروش المقدس والملاك آذر من يدي وحملاني من مكان إلى آخر، فرأيت رؤساء الملائكة أولئك، ورأيت باقي الملائكة«.
ثم ذكر أن أرتاويراف شاهد الجنة وجهنم، وورد في فصل 101: »أخيراً أخذني سروش المقدس والملاك آذر من يدي وأخرجاني من ذلك المحل المظلم المخيف المرجف وحملاني إلى محل البهاء ذلك وإلى جمعية أورمزد ورؤساء الملائكة فرغبت في تقديم السلام أمام أورمزد، فأظهر لي التلطف. قال: يا أرتاويراف المقدس العبد الأمين، يا رسول عبدة أورمزد، اذهب إلى العالم المادي وتكلم بالحق للخلائق حسب ما رأيت وعرفت، لأني أنا الذي هو أورمزد موجود هنا. من يتكلم بالاستقامة والحق أنا أسمعه وأعرفه. تكلم أنت الحكماء. ولما قال أورمزد هكذا وقفت باهتاً لأني رأيت نوراً ولم أرَ جسماً، وسمعت صوتاً وعرفت أن هذا هو أورمزد«.
فتتضح من هذا المشابهة العجيبة بين قصة معراج أرتاويراف الكاهن المجوسي وبين معراج محمد. ويوجد عند الزردشتية حكاية أخرى عن زردشت نفسه تقول إنه قبل ذلك الزمان بعدة أجيال عرج زردشت ذاته إلى السماء ثم استأذن لمشاهدة جهنم أيضاً، فرأى فيها »أهرمن« أي إبليس. ووردت هذه القصة بالتفصيل كتاب »زردشتنامه«. ولم تتواتر أمثال هذه الخرافات بين الفرس فقط، بل تواترت بين الهنود عبدة الأصنام أيضاً، لأنه يوجد بلغة »سنسكرت« (لغة الهنود القديمة) كتاب يُدعى »إتَدرلوكاكمتم« (يعني السياحة إلى عالم إندره) قال فيه الهنود إن »إندره« هو إله الجو وذُكر فيه أن شخصاً اسمه »أرجنة« وصل إلى السماء وشاهد كل شيء فيها، وأن أرجنة نظر قصر إندره السماوي واسمه »وَيْونتي« وهو قصر في بستان يسمى »نَفْدَنَم«. وورد في الكتب الهندية أن في ذلك المحل ينابيع أبدية تروي النباتات الخضراء النضرة الزاهية. وفي وسط ذلك البستان السماوي شجرة تسمى »بكشجتي« تثمر أثماراً تسمى »أمرته« (أي البقاء) فمن أكل من ثمرها لا يموت ولن يموت. وهذه الشجرة مزينة بالأزهار الزاهية ذات ألوان متنوعة رائعة. ومن استظل بظلالها الوارفة مُنح كل منية تمناها. ولا شك أن هذه الشجرة هي التي يسميها المسلمون »الطوبى«.
ويعتقد الزردشتية بوجود شجرة عجيبة تُسمى بلغة أفِستا »حوابة« وتُسمى باللغة البهلوية »حوميا« (ومعناها مروية بماء رائق فائق). ووصف في كتاب »ونديداد« (فصل 5) »تأتي المياه في الصفاء من بحر يوئتكة إلى بحر ووؤركشة وإلى شجرة حوابة فتنبت هناك كل النباتات على اختلاف أنواعها«. ومن الواضح أن هذه الشجرة هي ذات »شجرة الطوبى« وهي مثل بكشجتي شجرة الهنود.
ولم ترد هذه الأشياء فقط في كتب الهنود والزردشتية، بل وردت أيضاً في بعض الكتب الكاذبة التي كانت متداولة عند أصحاب البدع والضلالات من المسيحيين في الأزمنة القديمة، ولا سيما كتاب »عهد إبرهيم« الذي تقدم ذكره وفي كتاب آخر يسمى »رؤيا بولس«. فورد في كتاب »عهد إبراهيم« أن إبراهيم عرج بإرشاد أحد رؤساء الملائكة إلى السماء وشاهد كل ما فيها. وورد في كتاب »رؤيا بولس« أن بولس الرسول عرج كذلك، ولم نذكره اكتفاءً بما تقدم. وإنما نورد عبارة من »عهد إبراهيم« وهي »ونزل رئيس الملائكة ميخائيل وأخذ إبراهيم في عربة كروبية ورفعه في أثير السماء وأتى به وبستّين ملاكاً من الملائكة على السحاب، فساح إبراهيم على كل المسكونة في مركب« (»عهد إبراهيم« صورة 1 فصل 10).
فهذا هو أصل فكرة »البراق« الذي ذُكر في الأحاديث الإسلامية. ولعل اشتقاق البراق من كلمة عبرية تسمى »باراق« ومعناها البرق. ويوجد ما يشبه ذلك في الكتاب الكاذب »كتاب أخنوخ« (فصل 14) فقد ورد فيه كلام على تلك الشجرة السماوية والأربعة الأنهر. وقال اليهود عن شجرة الحياة التي كانت في جنة عدن إن مسافة ارتفاعها 500 سنة (ترجوم يوناثان) ورووا أيضاً روايات أخرى عجيبة عنها. وبما أن المسلمين توهموا أن جنة عدن التي خُلق فيها آدم هي في السماء، وجب أن نبحث عن منشأ هذا الخطأ والوهم، فنقول إن مصدره الكتب الموضوعة ولا سيما »رؤيا بولس« (فصل 45). ولا نعرف إذا كان أصحاب البدع الذين اختلقوا هذه الكتب قد اتخذوا هذه الأشياء وغيرها من كتب الزردشتية والهنود أم لا. إلا أنه من المؤكد أن هذه القصص كاذبة ولا يصدقها عاقل، ولم يقبلها أحد من المسيحيين، سواء كان في الأزمنة القديمة أو الحديثة، بل نبذها الجميع، ولم يعتقد أحد منهم بأنها كُتبت بوحي وإلهام، بل أنها كُتبت لفئة صغيرة من الجهلة أصحاب البدع والضلالات، ولا توجد الآن إلا في مكتبات قليلة على سبيل الفكاهات، ولتبرهن على جهل وحماقة الفرق المبتدعة التي قبلت بعضها بدون برهان على صحتها. بل بالعكس، قبلتها رغم توفُّر الأدلة على بطلانها.
وإذا سأل سائل: إذا كانت خرافات معراج أرتاويراف وزردشت وإبراهيم وأرجنة هي بلا أصل ولا أساس في الواقع، وأن الواجب أن نرفضها، ألا يجب أيضاً عدم تصديق أن أخنوخ وإيليا والمسيح صعدوا إلى السموات؟
قلنا: لا يصعب على الذكي الرد على ذلك، فمن البديهي أنه لا يمكن وجود نقود زائفة ما لم توجد نقود صحيحة حقيقية متقدمة في الوجود عليها، فإن النقود الزائفة عُملت على منوال النقود الصحيحة لغش الجاهل. ولا يجوز لعاقل أن يرفض التعامل بجميع النقود لوجود نقود زائفة في بعض الأحيان. بل نقول إن وجود النقود الزائفة تدل دلالة واضحة على وجود نقود صحيحة. فكذلك يصدق القول على المعجزات، لأنه لولا وجود معجزات صحيحة ما ادَّعى أحدٌ بمعجزات كاذبة. ولو لم يوجد دين حقيقي صحيح ما وُجدت الأديان الكاذبة، ولو لم يشتهر صعود رجال بالحقيقة إلى السماء ما رأينا هذه الخرافات المختلفة بلغات شتى بين عقائد عديدة. والحكيم هو الذي يفحص النقود التي تُعرض عليه قبل قبولها، لأن الفحص يُظهر أن بينها فرقاً كبيراً. وهذا هو سبب اعتقاد المسيحيين اعتقاداً جازماً بصحة ما ورد في الكتب المقدسة من القصص عن صعود أخنوخ وإيليا والمسيح، ورفضهم القصص الأخرى التي ذكرناها. والفرق بين الصدق والكذب ظاهر كالصبح إذا طالعنا ما ورد في الكتاب المقدس عن صعود أخنوخ وإيليا والمسيح، وقارنا بين القصص البسيطة التي لها رنة النقود الحقيقية الصحيحة وبين القصص الكذابة التي تقدم ذكرها.
أما من جهة أخنوخ فقد ورد في سفر التكوين 5: 24 »وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه«. وأما عن إيليا فورد في 2ملوك 2: 11 و12 »وفيما هما (أي أليشع وإيليا) يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء. وكان أليشع يرى وهو يصرخ: يا أبي يا أبي، يا مركبة إسرائيل وفرسانها. ولم يره بعد«. أما صعود المسيح فذُكر في أعمال الرسل 1: 9-11 »ولما قال هذا (أي المسيح) ارتفع وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعينهم. وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق إذا رجلان قد وقفا بهم بلباس بيض وقالا: أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء«. فهذه القصص الحقيقية سلمها لنا الذين شاهدوها بأعينهم، وهي منزهة عن الحكايات المطولة الوهمية الخرافية عما في السموات. ولا شك أن القصص الكاذبة تختلف اختلافاً بيناً عن القصص الحقيقية بحيث يسهل التمييز بين تواريخ الحوادث الواقعية الحقيقية وبين الحكايات الملفقة المختلفة التي يخترعها الناس لإرضاء الناس الذين يعجبون بمعرفة المجهولات التي سترها الله عن البشر.
قال الرسول بولس: »أعرف إنساناً في المسيح قبل أربع عشرة سنة، أفي الجسد؟ لست أعلم، أم خارج الجسد؟ لست أعلم. الله يعلم. اختُطف هذا إلى السماء الثالثة.. وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها« (2كورنثوس 12: 2-4). وقد ورد في كتاب »رؤيا بولس« نبأ مطول عما رآه بولس وسمعه هناك. ومن هذا يظهر الفرق بين الحق والكذب. فالفرق بين الأناجيل الموضوعة والأناجيل الصادقة ظاهر للقارئ، كالفرق الموجود بين كتاب »ألف ليلة وليلة« و»كتاب الواقدي«. فأحدهما يشتمل على خرافات فارغة، والآخر يشتمل على حوادث حقيقية حصلت فعلاً. وإذا سأل سائل: ما هو أصل الخرافات الواردة عن شجرة الطوبى أو سدرة المنتهي أو الأربعة الأنهار السماوية؟ قلنا: نشأت هذه الخرافات من القصة البسيطة الصحيحة الواردة في التكوين 2: 8-17، فإنه لما كان الجهلة السذج الميالون إلى تصديق الخرافات لا يعرفون أن جنة عدن كانت بقرب بابل وبغداد، حوَّلوا بأوهامهم الجامحة وتصوراتهم الشاردة حق الله إلى أكاذيب بزياداتهم ومبالغاتهم، وغيَّروا الوقائع التاريخية والجغرافية إلى خرافات لا أصل لها.
(2) في أصل ما ذكر في القرآن والأحاديث بخصوص الجنة والحور والغلمان والجن وملك الموت وذرات الكائنات:
كل مسلم ملمّ بهذه الأمور يعرف ما ورد عنها في القرآن وفي الحديث، فلا لزوم أن نسرد كل تفاصيلها هنا. غير أن منتقدي القرآن قالوا إن مصدر كل هذه التعاليم هو كتب الزردشتية. ولا شك أن كل مطلع على التوارة والإنجيل يرى أنه لا يوجد أثر لها مطلقاً في التوراة أو الإنجيل. غاية الأمر أن الأنبياء والرسل أفادوا بوجود مكان راحة للمؤمنين الحقيقيين، سمّوه »حضن إبراهيم« أو »الجنة« أو »الفردوس«. ولم يرد ذكرٌ للحور أو الغلمان في كتب الرسل أو الأنبياء، غير أنها ذُكرت في كتب الزردشتية والهنود. ومن الغريب أن ما ورد فيها يشابه مشابهة غريبة ما ورد في القرآن والحديث.
قال المسلمون عن الحور في سورة الرحمن 55: 72 »حور مقصورات في الخيام« وفي سورة الواقعة 56: 23 »وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون« وهو مأخوذ مما قاله الزردشتية القدماء عن بعض أرواح غادات اسمهن »بَيْركان« ويسميها الفرس المتأخرون »بَرْيان« لأن الزردشتية زعموا أن أرواح هذه الغادات سكنت في الهواء ولها علاقة تامة بالكواكب والنور. وكان جمال أرواح هاته الغادات رائعاً حتى خلبت قلوب الرجال. وقال بعض الذين لا يعرفون غير العربية إن كلمة »حور« هي في الأصل عربية مشتقة من »حار« ولكن الأرجح أنها مأخوذة من لغة أفِستا ومن البهلوية، وهما لغتان من لغات الفرس القديمة، لأنه ورد في لغة »أفِستا« كلمة حوري (بمعنى الشمس وضوء الشمس). ووردت في اللغة البهلوية »هور« وفي لغة الفرس الحديثة »ضور« (أي الشمس وضوؤها). ولما أدخل العرب كلمة »حور« في لغتهم وكانوا لا يعرفون مصدرها واشتقاقها توهموا أنها مأخوذة من فعل »حار« وظنوا أن سبب تسميتهن بالحور هو سواد أعينهن. ولم يرد ذكر هاته الغانيات السماويات في كتب قدماء الفرس فقط، لأنه يوجد في كتب قدماء الهنود بعض القصص بخصوص الأشخاص الذين يسميهم المسلمون »الحور« و»الغلمان« ويسميهم الهنود »أَبْسَرسس« و»كندهروس«. وقال الهنود إن الذين يعاشرونهم في السماء هم الذين يظهرون البسالة في الحروب ويُقتَلون فيها، فإنهم كانوا يعتقدون في الأزمنة القديمة، كالمسلمين، أن كل من يُقتل في ساحة القتال جدير بالدخول إلى السماء. وقد ورد في كتاب »شرائع منوا« (فصل 5 بيت 89) »الملوك الذين تكافحوا في الحروب باختيارهم قتل بعضهم بعضاً ولا يصرفون وجوههم أخصامهم ذهبوا بعد إلى السماء.. لإقدامهم«.
وكذلك ورد في كتاب »قصة نلة« قول الإله إندره للملك نله: »أما حراس الأرض العدول والمحاربون الذين تركوا أمل الحياة، الذاهبون في الوقت المعين إلى الهلاك بالسلاح بدون أن يصرفوا وجودهم أن لهم هذا العالم الباقي«.
فيتضح من مثل هذه الأقوال أن قدماء عبدة الأصنام من الهنود توهموا، كما توهم المسلمون، أنه إذا قُتل إنسان في كفاح أو حرب استحق الدخول في السماء وفردوس النعيم وعاشر الحور والغلمان المقيمين فيها. وكان الإنكليز القدماء وجميع سكان شمال أوربا، أيام وثنيتهم يعتقدون أن الغادات السماويات (ويسمّونهن الكوريات، أي منتخبات المقتولين) كن يأتين إلى ميدان الحرب ويحملن إلى سماء إله الحرب أرواح الأبطال الذين قُتلوا في الكفاح.
ويعتقد المسلمون بوجود الجن. غير أن اشتقاق كلمة »جن« أو »جني« تدل على أَخْذها من لغة أجنبية، لأنه لو كانت هذه الكلمة عربية، وكانت مشتقة من الفعل »جن« لاقتضى أن يكون مفردها جنين، على قياس أن »قليل« مأخوذة من الفعل »قل«. وقال البعض الآخر إن هذه الكلمة مشتقة من »جنة« ولكن يلزم أن يكون مفردها »جني« مع أن الأمر هو خلافه. ثم أنه لا علاقة للجن بالجنة، لأنه لا يجوز لهم الدخول فيها. والحقيقة هي أن الكلمة مشتقة من لغة الفرس القديمة، لأنها وردت في كتاب »أفِستا« (وهو كتاب الزردشتية المقدس ودستور ديانتهم) بهذه الصورة والصيغة، وهي »جيني« ومعناها روح شرير، فأخذ العرب الاسم والمسمى من الزردشتية.
ويتضح مما ذكرنا أعلاه عن الميزان أنه ورد في الأحاديث أنه لما عرج محمد إلى السماء، رأى أنه إذا نظر آدم إلى الأسودة إلى عن يمينه ضحك، وإذا نظر إلى التي عن يساره ناح وبكى. وقد ظهر لنا قبلاً أنه ورد لنا ذكر هذا الشيء ذاته في كتاب »عهد إبراهيم« أيضاً، وهو مصدر هذه الحكاية ومنشأها. غير أنه يوجد فرق بين القصتين، وهو أن الأرواح المذكورة في كتاب »عهد إبراهيم« هم أرواح الأموات، غير أن الأسودة المذكورة في الأحاديث هم أرواح أشخاص لم يولدوا بعد، ويسميهم المسلمون »الذرات الكائنات«. ولا ينكر أن كلمة »ذرة« هي عربية، غير أن المسلمين اتخذوا الاعتقاد بوجود »الذرات الكائنات« من قدماء الزردشتية، لأن الزردشتية كانوا في قديم الزمان يعتقدون بمثل هذا الاعتقاد. وعبارة الأفِستا هو أن كل ذرة كائنة تسمى »فروشي« وتسمى باللغة البهلوية »فروهر« وقال البعض إنه يمكن أن الزردشتية اتخذوا هذا الاعتقاد من قدماء المصريين، ولكن العرب اقتبسوه من الزردشتية وأدخلوه في ديانتهم.
وقد اقتبس المسلمون من اليهود لقب »ملك الموت« لأن اليهود يطلقون عليه هذا اللقب بالعبري. ويتفق الفريقان على اسم هذا الملاك، ولا يوجد بشأنه سوى اختلاف زهيد بينهم. فاليهود يسمونه »سمائيل« والمسلمون يسمونه »عزازيل«. غير أن كلمة »عزازيل« ليست عربية بل هي عبرية، ومعناها »نصرة الله«. ولم يرد اسم هذا الملاك في التوراة والإنجيل. فيتضح أن اليهود اقتبسوا معلوماتهم عنه من مصدر آخر، والأرجح أن مصدر معلوماتهم هو »الأفِستا« التي ورد فيها أنه إذا وقع إنسان في الماء أو في النار أو في أي شيء من هذا القبيل فغرق أو احترق، فلا يكون سبب موته الماء أو النار، بل ملاك الموت، لأنهم زعموا أن عنصري الماء والنار صالحان ولا يؤذيان الناس. ويسمى ملاك الموت بلغة أفِستا »أستووِيدهوتُش«. (انظر كتاب »ونديداد« (فصل 5 الأسطر 25-35).
(3) قصة خروج عزازيل من جهنم.
اتَّخذ المسلمون اسم عزازيل من اليهود، وتوجد هذه الكلمة في التوراة العبرية ( اللاويين 16: 8 و10 و26). ولكنهم اتخذوا قصة خروجه من جهنم من الزردشتية، من كتاب بهلوي عنوانه: »بوندهشينة« (أي الخليقة). فورد في »قصص الأنبياء« (ص 9) »خلق الله عزازيل، فعبد عزازيل الله تعالى ألف سنة في سجن، ثم طلع إلى الأرض فكان يعبد الله تعالى في كل طبقة ألف سنة، إلى أن طلع على الأرض الدنيا«. وورد في »عرائس المجالس« (ص 43) أن إبليس يعني عزازيل أقام ثلاثة آلاف سنة عند باب الجنة بالأمل أن يضر آدم وحواء لامتلاء قلبه بالحسد. وورد في »بوندهشينه« (فصل 1 و2) »أهرمن يعني إبليس كان ولا يزال في الظلام غير عالم بالأشياء إلا بعد وقوعها، وحريصاً على إيصال الضرر للآخرين وكان في القعر.. وذلك الميل للضرر وتلك الظلمة أيضاً هما محل يسمونه »المنطقة المظلمة«. وكان أورمزد يعرف بعلمه التام بوجود أهرمن لأن أهرمن يهيج نفسه ويتداخل بالميل للحسد حتى الآخر.. وكان أورمزد وأهرمن مدة ثلاثة آلاف سنة بالروح، يعني كانا بدون تغيير ولا حركة.. فالروح الضار لم يعرف بوجود أورمزد لقصور معرفته. وأخيراً طلع من تلك الهاوية وأتى إلى المحل الباهي. ولما شاهد نور أورمزد ذلك اشتغل بالأضرار«.
فالفرق بين الأحاديث وبين هذا القول ظاهر، لأنه ذكر في الأحاديث أن عزازيل كان يعبد الله قبل خروجه من سجن، ولكن الزردشتية قالوا إن أهرمن لم يدرِ بوجود أورمزد أولاً. ولكن توجد مشابهة أيضاً بين هاتين الروايتين، وهي أن عزازيل وأهرمن دخلا الوجود في سجن أو في الهاوية، وصعد كل منهما من هناك، وبذلا جهدهما في الإضرار بخلق الله.
وقبل ختام الكلام على عزازيل أو أهرمن لا بأس من إيراد البرهان على وجود علاقة بين هاتين القصتين، فنقول: يتضح من الأحاديث ومن كتب الزردشتية أن الطاووس وافق من بعض الوجوه عزازيل الذي هو أهرمن، لأنه ورد في »قصص الأنبياء« أنه لما جلس عزازيل أمام باب الجنة ورغب في الدخول فيها رأى الطاووس الذي كان جالساً على الجنة واحداً يتلو أسماء الله العظمى الحسنى. فسأله الطاووس: »من أنت؟« فقال له: »أنا أحد ملائكة الله«. فسأله الطاووس: »لماذا أنت جالس هنا؟«. فقال له عزازيل: »أنظر الجنة وأتمني الدخول فيها«. فقال له الطاووس: »لم أومر بإدخال أحد إلى الجنة ما دام آدم عليه السلام فيها«. فقال له: »إذا كنت تأذن لي بالدخول فيها أعلّمك صلاة من تلاها نال ثلاثة أشياء: أحدها أنه لا يكبر، وثانيها أنه لا يصير عاصياً، وثالثها أنه لا يطرد من الجنة«. فأخبره إبليس بهذه الصلاة فتلاها الطاووس فطار من سور الجنة إلى الجنة ذاتها وأخبر الحية بما سمعه من إبليس. وذكر بعد هذا أنه لما أهبط الله آدم وحواء وإبليس من الجنة إلى الأرض طرد الطاووس معهم أيضاً.
أما قصة الطاووس في كتب الزردشتية فتختلف عن هذا، غير أنهم في قديم الأيام ظنوا أنه مساعد لأهرمن. فقد ورد في كتاب أرمني قديم يسمى »ردُّ البدع« (باب 2) تأليف يزنبق »عن الزردشتية في تلك الأعصر، قالوا إن أهرمن قال إنه ليس أني لا أقدر أن أعمل شيئاً من الخير، ولكني لا أريده. وخلق الطاووس لإثبات هذا الكلام«. فإذا كان أهرمن أو عزازيل هو الذي خلق الطاووس فلا غرابة إذا كان هو الذي علمه وصار معينه وطرد معه من الجنة.
(4) نور محمد
ورد في »قصص الأنبياء« أن محمداً قال »أول ما خلق الله نوري« (ص 2 و282) وجاء في »روضة الأحباب« أن محمداً قال: »لما خُلق آدم وضع الله على جبهته ذلك النور، وقال: يا آدم، إن هذا النور وضعتُه على جبهتك هو نور ابنك الأفضل الأشرف، وهو نور رئيس الأنبياء الذي يُبعَث«. ثم جاء أن ذلك النور انتقل من آدم إلى شيث ومن شيث إلى ذريته، وهكذا بالتعاقب إلى أن وصل إلى عبد الله بن عبد المطلب، ومنه إلى آمنة لما حبلت بمحمد. وورد أيضاً في الأحاديث أن محمداً قال إن الله قسم النور إلى أربعة أقسام، وخلق العرش من قسم من هذه الأقسام، وخلق القلم من قسم وخلق الجنة من قسم وخلق المؤمنين من قسم، ثم قسم هذه إلى أربعة أقسام أخرى، فمن أفضل وأشرف القسم الأول خلقني أنا الرسول، ومن القسم الثاني خلق العقل وجعله في رأس المؤمنين، ومن القسم الثالث خلق الحياء وجعله في أعين المؤمنين، ومن القسم الرابع خلق العشق وجعله في قلوب المؤمنين (قصص الأنبياء ص 2).
فإذا بحثنا عن مصدر هذه القصة وجدناها أيضاً في كتب الزردشتية، لأنه ورد في كتاب فارسي قديم يُدعى »مينوخرد« كُتب باللغة البهلوية أيام الفرس الساسانية أن الخالق »أورمزد« خلق هذه الدنيا وجميع خلائقه ورؤساء الملائكة والعقل السماوي من نوره الخصوصي مع تسبيح الزمان غير المتناهي. وذُكر هذا النور في كتاب أقدم من المينوخرد، هو »يشت 29« بخصوص »يمه خشائته« المسمى الآن »جمشيد«:
»كان البهاء الملكي العظيم ملازماً لجمشيد صاحب القطيع الصالح مدة طويلة، بينما كان متسلطاً على سبعة أقاليم الأرض: على الجن والأنس والسحرة والجنيات والأرواح الشريرة والعرافين والكهنة.. ثم لما خطرت بباله تلك الكلمة الكاذبة الساقطة زال منه البهاء الظاهر بصورة طير.. وهو »جمشيد« صاحب القطيع الصالح، لما لم يرَ بعد ذلك البهاء، تحسر جم، ولما اضطرب عمل على إحداث العداوة على الأرض. وأول ما زال ذلك البهاء زال من جمشيد، وزال ذلك البهاء من جم ابن الشمس بصورة طير وراغ (1).. فأخذ »مثره ذلك البهاء. ولما زال البهاء ثانيةً من جمشيد زال ذلك البهاء من جم ابن الشمس، وفارقه بصورة طير وراغ، فأخذ فريدون ابن القبيلة الآثويانية ابن القبيلة المشهورة بالبسالة ذلك البهاء، لأن فريدون كان أعظم مَن فاز بين الفائزين. ولما زال البهاء من جمشيد ثالثةً زال ذلك البهاء من جم ابن الشمس بصورة طير وراغ، فأخذ البطل كرساسبه ذلك البهاء لأنه كان أقوى من الأقوياء«.
فإذا قارنا بين هاتين القصتين رأينا أن »جمشيد« كان حائزاً على هذا النور العجيب مدة من الزمن. وبحسب تعاليم أفِستا كان جمشيد أول رجل خلقه الله على الأرض، ويقصدون بهذا آدم أبو البشر. ولما سقط جمشيد في الخطية واقترف الزلل، انتقل ذلك النور من واحد إلى آخر من أفضل أولاده بالتتابع، وهذا يوافق ما ذُكر في الأحاديث بخصوص نور محمد. فيتضح أن خرافة الفرس هذه هي مصدر ما رووه عن نور محمد. ولا شك أن المسلمين اتَّخذوا هذه القصة من الزردشتية، فقد ورد في كتاب الزردشتية القديم أن الملك العظيم جمشيد تسلط على الناس والجن والأرواح الشريرة. فلابد أن اليهود اتخذوا من هذه الرواية ما نسبوه إلى الملك سليمان من القوة والسلطة على الناس والجن.. إلخ.
واتخذ المسلمون من اليهود هذا الاعتقاد (كما رأينا في الفصل الثالث من هذا الكتاب). وما قاله المسلمون عن تقسيم نور محمد إلى أقسام ورد بالتفصيل، مع اختلاف بسيط، في كتاب فارسي قديم عنوانه »دساتير آسماني« (أي الأساطير السماوية) في الباب الوارد بخصوص زردشت. فنرى من ذلك أيضاً أن تفاصيل نور محمد مأخوذة من كتب الزردشتية.
(5) الكلام على الصراط:
قال المسلمون إن محمداً قال إنه بعد دينونة يوم الدين الأخيرة يُؤمر جميع الناس بالمرور على الصراط، وهو شيء ممدود على متن جهنم بين الأرض والجنة. وقالوا إن الصراط هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف، فيقع منه الكفار ويهلكون في النار. فمن أراد معرفة منشأ هذا القول وجب عليه أولاً أن ينظر في اشتقاق كلمة »صراط« لأن أصلها ليس من اللغة العربية، فلابد أنها اتُّخذت من لغة أخرى، لأن »صراط« معربة من أصل فارسي. والزردشتيون يسمّون »الصراط« »جينود«. وبما أنه لا يوجد حرف ج في الأبجدية العربية، استُعمل بدلاً عنه حرف ص، فكل كلمة أعجمية تكون تبدأ بحرف ج ويُراد تعريبها، يُبدل حرف ج إلى ص. مثلاً جين تصير صين. وعلى هذا القياس تكون كلمة صراط معربة عن »جينود«. ولم يتخذ المسلمون من قدماء الزردشتية كلمة صراط فقط، بل اتخذوا عنهم هذا الاعتقاد كله، كما يظهر من مجرد التأمل في العبارة الآتية المأخوذة من كتاب بهلوي يسمى »دينكرت« (جزء 2 فصل 81 في قسمي 5 و6) ونصه: »أهرب من الخطايا الكثيرة. أحافظ على نقاوة وطهارة سلوكي بحفظ طهارة قوى الحياة الست، وهي الفعل والقول والفكر والذهن والعقل والفهم حسب إرادتك يا مسبِّب الأعمال الصالحة العظيم. وإني أؤدي عبادتك بعدالة بحسن الفكر والقول والعمل، لأستمر في الطريق الباهية، لكي لا أعاقب بعقاب جهنم الصارم، بل أعبر على جينود، وأصل إلى ذلك المسكن المبارك المملوء من العطريات والمسر بأجمعه والباهر دائماً«.
وتعني كلمة »صراط« في الأصل »الجسر الممدود« فقط، إلا أنهم توسعوا في معنى هذه الكلمة بعد ذلك، فصارت تفيد الطريق، كما وردت بهذا المعنى في سورة الفاتحة. ومعنى الصراط الحقيقي (الذي لا يمكن أن يُستفاد من العربية) واضح إذا اطلعنا على اللغة الفارسية القديمة، لأنها مشتقة من كلمتين فارسيتين قديمتين معنى إحداهما الاتحاد ومعنى الثانية معبر، فيفيد جمع هاتين الكلمتين »القنطرة« التي قال الزردشتية إنها توصِّل الأرض بالجنة (2).
(6) في ذكر قضايا قليلة مهمة:
لما كان ذكر جميع الأشياء التي اتَّخذها المسلمون من الزردشتية بالتفصيل الوافي لا يخلو من التطويل الممل، اكتفينا بذكر ثلاث أو أربع قضايا أخرى من هذا القبيل طلباً للاختصار:
أحدها أن المسلمين قالوا إن كل نبي شهد قبل موته للنبي الذي يأتي بعده فقالوا مثلاً إن إبراهيم شهد لموسى، وشهد موسى لداود، وهلم جراً. ولكن كل من طالع كتب الأنبياء وجد الأمر خلاف ذلك، فجميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم شهدوا للمسيح وحده لا غير. وبما أن المسلمين لم يتَّخذوا ما ذهبوا إليه من التوراة والإنجيل، وجب أن نبحث عن مصدر هذا الرأي، وهو كتاب من الكتب الزردشتية يُسمى »دساتير آسماني« (أي الأساطير السماوية). وهو من الكتب الحديثة، لأن مؤلف »دبستان مذاهب« ومؤلف »البرهان القاطع« ذكرا هذا الكتاب. وقالت الزردشتية كذباً وبهتاناً أنه مكتوب بلغة السماء، وتُرجم إلى اللغة الدارية في عصر خسرويرونز، أحد قدماء ملوك الفرس. ولا يزال هذا الكتاب موجوداً باللغة الأصلية وبالكيفية المترجم إليها، وطبع في بومباي منذ سنين عديدة. وقال ملا فيروز (الذي طبع هذا الكتاب) إنه يشتمل على خمس عشرة رسالة نزلت على خمسة عشر نبياً، أولهم مهاباد وآخرهم ساسان الخامس، ومنهم زردشت الثالث عشر. وفي آخر كل رسالة من هذه الخمس عشرة رسالة ذكر النبي الذي كان ينبغي أن يأتي بعدئذ في الوقت المعين. ولا شك أن هذا الكتاب هو من الكتب الموضوعة الكاذبة، مع أنه كان مؤلفاً في الأصل باللغة البهلوية قبل أن يُترجم إلى اللغة الدارية. وبناء على ذلك فهو كتاب قديم. والظاهر أن قول الفُرس إن كل نبي تنبأ عن مجيء خلَفه وقع موقعاً حسناً عند المسلمين، فاتَّخذوه من كتاب الزردشتية هذا. وثاني فقرة من كل رسالة من هذه الرسائل هي: »باسم المعطي الغافر الرحمن العادل«. فكل إنسان يرى أن هذه الكلمات توافق من بعض الوجوه البسملة التي افتُتحت بها المائة والثلاث عشرة سورة من سور القرآن البالغة 114 وهي »باسم الله الرحمن الرحيم« فالكلمات الأولى البوندهشنية تشبهها أيضاً، ونصها »باسم أورمزد الصانع«. وكان قدماء الزردشتية يؤدون الصلاة خمس مرات كل يوم، فيوجد اتفاق بين الزردشتية وبين الصابئين في هذا الأمر. ورأينا أن الصلوات الخمس المفروضة على المسلمين تطابق خمساً من الصلوات السبع المفروضة على الصابئين.
ختام الكلام
وإذا قال قائل لا يصح أن محمداً استحسن استحساناً تاماً قصص الزردشتية وفروضهم حتى أدرجها في القرآن والأحاديث، لأنه لا يُتصوَّر أن هذا النبي الأمي يعرف كل هذه الأشياء. قلنا إن المعترضين ردوا على هذا بثلاثة أفكار:
أولاً: ورد في »روضة الأحباب« أن محمداً اعتاد محادثة ومسامرة ومحاورة كل من يقصدونه على اختلاف مللهم ونحلهم، وكان يخاطبهم بألفاظ قليلة من لغتهم. وبما أنه كان كثيراً ما يتكلم بالفارسية تداولت بعض الألفاظ الفارسية في اللغة العربية.
ثانياً: إذا ثبت مما تقدم أن محمداً استحسن خرافات اليهود وروايات العرب الوثنيين عبدة الأصنام وفروضهم حتى أدرجها في القرآن، فما الفرق بين هذا وبين استحسانه لقصص الفُرس؟ أما القصص الكثيرة الواردة في القرآن فكانت متواترة بين العرب تواتراً عظيماً حتى قال الكندي عنها: »فإن ذكرتَ قصة عاد وثمود والناقة وأصحاب الفيل ونظائر هذه القصص، قلنا لك: هذه أخبار باردة وخرافات عجائز الحي اللواتي كنَّ يدرسنها ليلهن ونهارهن«.
ثالثاً: جاء في »السيرة« لابن هشام وابن إسحق أنه كان من صحابة محمد شخص فارسي اسمه سلمان، وهو الذي أشار على محمد وقت حصار المدينة بحفر الخندق فتبع نصيحته. وكان سلمان الفارسي أول من أشار على محمد باستعمال المنجنيق في غزوة ثقيف الطائف. وأكد أعداء محمد في عصره أن سلمان هذا ساعد محمداً على تأليف القرآن، فقد قيل: »ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر. لسان الذين يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين« (سورة النحل 16: 103). فإذا قال المعارضون الأولون لمحمد إن هذا العجمي أو الفارسي المسلم كان سبب حُسن تأليف القرآن وفصاحة عباراته، فهذا الجواب يكفي لدحض أقوالهم.
ولكن بما أنه ثبت أن كثيراً مما ورد في القرآن وفي الأحاديث يطابق مطابقة غريبة ما ورد في كتب الزردشتية، فهذه الآية القرآنية لا تكفي لدحض الاعتراض الذي تبرهن الآن ببراهين قوية. بل نقول إن هذه الآية التي أوردناها تدل على أنه كان قد اشتهر في عصر محمد أن سلمان الفارسي ساعد محمداً على التأليف وأفاده بحقائق كثيرة. وعليه فنحن مُلزَمون أن نسلم أن كتب الزردشتية كانت مصدراً من المصادر التي اتَّخذت الديانة الإسلامية بعضها.