أهم ما في تقرير اللجنة التي رأسها القاضي ريتشارد غولدستون، وفي التصويت عليه في مجلس حقوق الإنسان، هو أنه علَّق الجرس وفتح الباب لإعادة النظر في الصورة المرسومة والمكرسة لإسرائيل، وفي التعامل معها في أوساط اعتادت على تأييدها انسياقاً وراء صورتها المقدمة كضحية: بوصفها دولة الناجين من المحرقة، أو بوصفها واحة التمدن والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تشكل امتداداً للحضارة الغربية وسط عالم يسود فيه التخلف والاستبداد.
فمن الآن فصاعداً سيكون الحديث عن عدوانية إسرائيل، وكذا المطالبة بوضع حد لعربدتها، أمراً مقبولاً بعدما فتح التقرير الأعين وقدَّم الوثائق.
ومما عزَّز من ثقل هذا التقرير، أنه ليس كالبيانات والخطب السياسية أو المؤلفات ـ على أنواعها- المنددة بإسرائيل الصادرة عن شخصيات وجهات ودول عديدة. فهو تقرير قانوني مصاغ وموثق بمهنية، وكاتبه -القاضي غولدستون- يهودي الديانة. مما أسقط من يد إسرائيل وأنصارها السلاح الجاهز الذي اعتادت على استخدامه في وجه منتقديها: أي معاداة السامية. وأسقط كذلك قدرتها على القول أنه 'يهودي كاره لذاته' كما جرت عادتها في نعت من رفضوها من اليهود. فهو يَهودي وعلى صلة طيبة بالجماعات اليهودية في بلده جنوب افريقيا، وله علاقات حسنة وأصدقاء في (إسرائيل).
بالطبع ثمة ملاحظات عديدة -وفي العمق- على التقرير، أهمها غياب النظرة التاريخية في رؤية سياق الأحداث، ومساواته بين دولة استعمارية استيطانية عنصرية محتلة مدججة بالسلاح، وشعب مُهجّر من بلاده، وواقع تحت الاحتلال، ومحاصر.
لكن هذا لا يقلل من قيمة التقرير التي قلنا انها دشنت الطريق أمام إعادة النظر في إسرائيل، ووضعها تحت الضوء كدولة معتدية ينبغي ملاحقتها وإخضاعها للقانون وللمعايير الدولية في السلوك.
وقد يطول هذا المسعى، وقد يتعثر ويتأخر، لكن الطريق تم افتتاحها، وعلى الفلسطينيين والعرب والمسلمين وأصدقائهم من ذوي الضمائر الحية في العالم، أن يمضوا فيها بإصرار وبمهنية كساحة مهمة من ساحات الصراع العديدة مع 'إسرائيل'.
وإذا كانت الحرب الإجرامية على قطاع غزة هي موضوع تقرير غولدستون وفريقه، فإن هذا لا يمنع -بل يشجع- طرح القضايا الأخرى أمام المحافل القانونية الدولية ضد إسرائيل: الاستيطان، تهويد القدس، التمييز العنصري ضد السكان الأصليين ـ العرب-، إرهاب الدولة والمستوطنين، المُهجَّرين (اللاجئين)، مصادرة وضم الممتلكات والأراضي العربية، الجدار، المجازر والاعتداءات التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين وضد العرب، سرقة التراث وسرقة المياه ...الخ.
لكن العمل على الجبهة القانونية يستدعي تشكيل هيئة قانونية مستقلة وطنية ومهنية، تضم شخصيات فلسطينية وعربية وأجنبية صديقة، وشخصيات يهودية مناصرة للحقوق العربية. هيئة تتوفر لها الإمكانات اللازمة: البشرية والمالية والفنية، لتكون قادرة على الوفاء بمتطلبات العمل والتواصل مع الشخصيات والهيئات الداعمة لحقوق الإنسان في العالم، لصياغة القضايا ومتابعتها في الدول المختلفة.
ولتكون هذه الهيئة المرجوَّة حرة في القرار والتحرك بعيداً عن الضغوط، يجب أن تقوم في دولة أوروبية يُتفق عليها، فيما تتواجد فروعها والشخصيات المتعاونة معها في فلسطين وفي الدول العربية والبلدان التي تراها مناسبة.
بهذه العقلية والأسلوب من العمل المنظم، المخطط، المنهجي، المؤسسي، المصمم والدؤوب، تتوفر إمكانية أكبر لتحقيق النتائج. أما عقلية وأسلوب الارتجال، والعفوية، والمياومة، والتفرُّد، ومنطق 'الفزعة' الوقتية، فنحن نعرف من تجاربنا المريرة كم كلَّفت الفلسطينيين والعرب من خسارات في مختلف الميادين والمجالات. بل كم أفقدتهم من مكاسب كانوا قد أحرزوها.
إن تغيير عقلية وأسلوب العمل ليس مسألة تكيّف وظيفي فحسب، إنه تحدٍ حضاري علينا الاستجابة له واجتيازه بنجاح إن أردنا اختصار درب الآلام ونيل حقوقنا. بالطبع، ومع التقدير لأهمية العمل في الساحة القانونية الدولية كغيرها من ساحات النضال ضد العدو، لا يجب نسيان ما هو أكيد: ما قام على العنف وبالعنف، يزول بالعنف. وبين عنف الاستعمار الإجلائي العنصري وعنف التحرر، مسافة شاسعة هي المسافة الفارقة بين العبودية والحرية، وبين الجور والعدل. بشعور عميق بالامتنان، لا بد من تقديم الشكر لكل أولئك الذين علقوا الجرس مدفوعين بدواعٍ أخلاقية ومهنية راقية. فأصغوا لصرخات وأنين الضحايا وقرروا الانتصار لهم. ففتحوا الطريق لرؤية 'إسرائيل' على حقيقتها العارية كدولة إجرامية بامتياز.