علي منصور: قصيدة النثر بنت الشعر المترجم...
وما يحدث لدينا من زيف كفيل بتدمير أمة بكاملها
محمود قرني
(مصر)
الشاعر علي منصور احد شعراء قصيدة النثر الذين يشكل حضورهم إضافة نوعية لهذه القصيدة مهما اختلفنا مع تصوراته الشعرية.
وقد اصدر ديوانه ' الشيخ'، وهو الديوان الذي يواصل فيه تعميق ادواته الشعرية التي تعتمد البساطة والاقتصاد في استخدامات اللغة ومحسناتها شأن كثيرين من ابناء الجيل، غير ان ما يميز عوالم هذا الديوان انفتاح التجربة على ابعاد روحية جديدة يقف الدين في خلفيتها المباشرة، وهو ما يراه منصور الحلم الضائع واليوتوبيا التي كانت اقرب اليه من حبل الوريد.
وفي هذا الحوار نستعيد مع علي منصور عالم هذا الديوان الجديد الذي دفعنا إلى الحديث عن تجربته في مجملها منذ دواوينه الاولى عبر العالم الشعري وفضاءاته اللغوية وخلفيته المعرفية ومدى الحضور الذي تحققه قصيدة النثر في لحظتها الراهنة.ومن جانبه تحدث علي منصور في صراحة تستحق التحية، ورغم اختلافي مع الكثير مما قاله لا سيما حول ملاحظاته عن قصيدة النثر في سمتها الجديدة، الا ان هذه الجرأة ضرورية لتحقيق شيء من الوضوح حيال المستقبل، ولتحقيق مواقف واضحة لشعراء تجاوزوا الخمسين، هم شعراء الثمانينيات الذين ينتمي علي منصور الى زمنهم. ورغم ان اختلافنا حول المعيار الذي يحاول علي وقرناؤه سنّه لقصيدة النثر، الا ان الواقع كان اكثر صرامة حيث طرح الكثير من الرؤى خارج سياق هذه الملاحظات المبتسرة والضيقة، بعد ان اصبحت القصيدة مقترحا لعديد من الشعراء ومن مختلف الاجيال، وهو امر ـ في رأيي ـ يشكل نوعا من الثراء الذي يجب ان تدعمه قناعاتنا بأهمية التعدد لا الواحدية.
وعلي منصور في هذا الحوار يخرج من دماثته التي عهدناها ويتحدث عن تجربته وعن الذين خرجوا من اعطافها وعن شعراء السبعينيات وكيف افسدوا الشعر بمقولات الغموض الفني وعن الريادة التي سرقت كل شيء وعن المؤسسة الثقافية التي وصمها بأكثر من الفساد.
ولأننا معنيون فقط في هذا الحوار بتقديم علي منصور بشحمه ولحمه، فسوف نؤجل اختلافنا المستمر والدائم مذكرين بسجالات سابقة وبانتظار سجالات تالية حول قصيدة النثر بطرحها الراهن، الذي يبدو ان مأزق احاديتها الممعن في الاستمرار سيكون مقدمة لأزمات جديدة ربما ساهمت في توسيع رئة مقولاتها وتخطيطاتها الاولية وربما ايضا اخرجت كثيرين من المضمار وهو الشيء الذي حدث بالفعل خلال اكثر من عقد مضى من عمر هذه القصيدة.
وهنا نص الحوار:* الشاعر علي منصور، صاحب العصافير الخضراء، والموسيقى التي تنزل السلالم، واشياء اخرى عديدة: كيف ترى قصيدتك الهامسة التي تنمو في اطار جماليتك القديمة؟ وأين انت من بحيرة قصيدة النثر المتلاطمة؟قد لا استطيع الحديث عن قصيدتي، او بالاحرى انا لا احب ذلك وافضل ان تتحدث هي عن نفسها، ولقد قيض لها من تحدث عنها شفاهة وكتابة، ويكفيني ان ارى الكثيرين وهم يخرجون من معطفها.
ازاء ذلك لا املك سوى ان اعكف على رعايتها والعناية بها فما افدح جراحنا!
اما من انا في بحيرة قصيدة النثر، فأنا الحريص على المعنى والقيمة. انا المعذب بقلقي والحزين على قومي، والقابل للابتهاج لمجرد انك تبتسم في وجهي.
انا الحائر من امة تفرط في ارثها وهي غافلة، وانا عدو الكذب السائد. انا المحبط من شوارع قذرة وسواعد عاطلة في الانحاء!
انا المشفق على الخاسرين انفسهم واهليهم، وانا الذي مد يده لمن يحرس الفضيلة.
مرة توكأ امل ضعيف على قصيدتي قبل ان اسير على قدمين، ومرة عبرت بطريقتي نحو ضفة اخرى فجاء ورائي كثير.
انا صاحب الفقراء ينهزمون في تجربة العشق ووردة الكيمياء الجميلة، وعلى بعد خطوة وثمة موسيقى تنزل السلالم وعصافير خضراء قرب بحيرة صافية وعشر نجمات لمساء وحيد، وانا صاحب خيال مراهق، وقصائد أخرى.
واذا كانت بحيرة قصيدة النثر متلاطمة، كما تقول، فان الزبد سيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فسوف يمكث في الارض.
أزعم انني قد استعدت للشعر ارضا وجمهورا كان قد خسرهما على ايدي آخرين.
* عملاك الاخيران يحملان انتقالات واضحة الى شعر اكثر حيادية، يقف خارج خطاب الذات المباشرة وخارج حكمته القديمة. هل تعتقد انك افدت في ذلك من اجواء قصيدة النثر الجديدة؟لا اظن ان هناك كتابة حيادية. الفن تحديدا لا يمكن ان يكون حياديا، لذا فأنا أرى ان اعمالي كلها منحازة. فالمجموعتان التفعيليتان ' الفقراء ينهزمون في تجربة العشق' و' وردة الكيمياء الجميلة' كانتا مهمومتين بالقضايا الكبرى، قضايا الوطن والايديولوجيا وصراع الطبقات، وذلك في سياق النص التفعيلي الذي كان قد استقر شكلا للابداع الشعري منذ حركة الرواد تحت مسمى ' الشعر الحر'. وكانتا محملتين بجماليات ذلك النص اتساقا مع الظرف التاريخي، وجاءتا افرازا لذائقة تشكلت ببقايا احلام الاشتراكية على خلفية من اصداء انهيار المشروع القومي.
ومع الانعطافة التاريخية الحادة في العقد الأخير من القرن العشرين متمثلة في تفكك الاتحاد السوفييتي واختلال قوى التوازن الدولي من ناحية ثم الغزو العراقي للكويت، وزلزلة العلاقات العربية ـ العربية من ناحية اخرى كان لا بد من التوقف والتأمل ازاء لحظة مأزومة فارقة!! عندها انتبهت الذات لنفسها بقوة، وتجسدت كل قوتها في الاعتراف بضعفها، ومحاولتها التماسك عبر هذا الاعتراف حتى لا تنهار انهيارا كاملا!
حيال ذلك، كان من الطبيعي ان يتشكل نص مغاير، وان تتولد جماليات جديدة، جماليات الاعتراف والبوح ومحاولة الوقوف على الارض من جديد.
وهكذا كتبت ' على بعد خطوة' الصادرة في آذار ( مارس) 1992 عن مطبوعات ' الكتابة الاخرى' و' ثمة موسيقى تنزل السلالم' الصادر في نيسان ( ابريل) 1995 عن دار ' شرقيات'. لم اكن معنيا، في هاتين المجموعتين، بشعرية ما او جماليات ما، بل لم يكن يعنيني بالمرة ان كان ما اكتبه شعرا ام نثرا، جميلا ام رديئا، لم اكن اسعى إلى شيء على الاطلاق سوى محاولات يائسة لتضميد ذات مخدوعة تاريخيا، ذات ٍ وهبت نفسها بصدق لقضايا امتها فاذا بها تصحو لترى انها كانت ( عبيطة) بدرجة فادحة!! عند ذلك، تحيزت، بطريقتي الخاصة، للذات، ورحت اسن شريعة الضعيف عبر شعرية البساطة!! في المجموعتين الاخيرتين ' عصافير خضراء قرب بحيرة صافية' و' عشر نجمات لمساء وحيد' واصلت هذا الانحياز للذات، سوى انه لم يكن من المنطقي ان تظل هذه الذات على حالتها تلك، عارية، وحيدة، تجتر ضعفها وتستند الى ' لا حيلتها' وسط انواء عاصفة!!
كان لا بد من ملاذ، من قناعات اعمق، ومتكآت اقوى، وحصون اشد منعة. من هنا جاءت اختياراتي الخاصة ورؤاي الشخصية التي تحاول النهوض مستندة الى جمالياتها التي اسستها في مجموعتين سابقتين.
* اللغة لدى علي منصور تحمل اثيرا خاصا، انها شديدة التحديد والبساطة والانتقائية، الى اي حد تؤمن بالدور الادائي للغة، وما هو موقفك من الآفاق المجازية والاستعارية في النماذج المحايثة لك؟نعم، هذا صحيح فأنا لدي حساسية عالية نحو المفردات وحرصي الشديد على معنى ما هو الذي يدفعني الى هذه الانتقائية، الى مفردات قريبة من الوعي المباشر، والى تراكيب بسيطة غير انانية، بمعنى انها ترى تألقها وذكاءها في جمال المعنى الذي تحمله. انها شديدة الاحتفاء بوظيفتها، وهي تستمد اناقتها من رعايتها للقيمة لا من زخارف او ايقونات تأتي لذاتها. كذلك أنا لا اميل الى الاسراف في المجاز، الأمر الذي قد يشتت الحالة الشعرية ويقترب بها من فراغات المطلق. ان ذلك من شأنه ان يأخذنا من مأزق ليدخلنا في مأزق آخر!! بل ويفتح بابا واسعا لكثير من الادعياء.
ان قدرا كبيرا من جماليات قصيدة النثر يكمن في البساطة، وان الاغراق في التحليق الاستعاري قد يفقدنا الكثير من ذلك الجمال. هل نسيت التعبير المراوغ الذي برر به السبعينيون قصائدهم الاولى المستغلقة، فأشاعوا تعبير ( الغموض الفني)؟ في المقابل ايضا لا يمكن القبول بسرد غث وتفاصيل مجانية وثرثرات عابرة تحت مسمى ( البساطة). ان الأمر في كل الأحوال لا يخلو ابدا من ذلك الشيء الذي نسميه (الموهبة).
* الحس الديني الذي يتسرب الى نصوصك الأخيرة، هل تعتقد انه نتاج موقف ايديولوجي وان جماليات الشعر الجديد ـ شعريتك على وجه الخصوص ـ يمكنها ان تحتمله؟ والى أي حد يتوازى النظر العقائدي للحياة مع النظر الانساني للشعر؟صعب للغاية، بل من النادر جدا، ان تصادف انسانا لا يشكل الدين جانبا جوهريا من تكوينه الروحي، حتى ولو أهمله أو حاول التخلص منه، ان ذلك من الأمور الفطرية للبشرية كلها، وهي بهذا المعنى موروث انساني دائم، وكل النصوص التي وصلتنا منذ امنوبي وكونفشيوس ولاوتسي وغيرهم يكمن بعض من اسرار صمودها التاريخي في مدى اقترابها من حاجة الروح، الأمر الذي يوفره الدين بشكل كامل. واذا كان الأمر كذلك بالنسبة للانسانية جمعاء، فانه أشد وطأة وأكثر بروزا لنا هنا في الشرق، ومن الضرورة ان يعكس نصك لحظته المكانية والتاريخية وكيف له ذلك دون التماس مع مكنون جوهري لبشر تلك اللحظة؟ وأعمالي الشعرية كلها منذ ' الفقراء ينهزمون في تجربة العشق' فيها هذا التماس مع الدين، وتحديدا النص المقدس ( القرآن الكريم)، وهذا التماس تجده واضحا تارة وخفيا تارة اخرى، ولم يكن ذلك ابدا بالموقف الايديولوجي بقدر ما هو جزء من التشكيل الروحي والتكوين المعرفي. أحيلك مثلا الى قصيدة ' خاصمتني البلاد التي في دمي رقصت' في مجموعتي الاولى.
انها تكشف عن طفولة يتيمة شديدة التأثر بحياة نبي يتيم. ان الحس الديني متسرب في نصوصي الشعرية بدرجات متفاوتة، الا انه في المجموعة الشعرية الأخيرة ' عشر نجمات لمساء وحيد' و' الشيخ جاء طاغيا'. وذلك لأنه كما قلت من قبل، كان لا بد للذات من ان تعثر على ملاذها، وقد كان ذلك الملاذ أقرب مما اتصور، كان كامنا في الروح، قرب حبل الوريد، ولم يعرف المرء كم كان أعمى إذ لم ينتبه له من قبل.
واذا كنت قد ظننت ان جماليات الشعر الجديد سوف تحتمله بكل جدارة فقد رأيت ايضا انه سوف يضيف اليها رافدا جديدا يعد بمثابة تنويع للشعرية بعيدا عن نماذجها النمطية.
ان ذلك يدلل على ان قصيدة النثر يمكنها استيعاب ما لا يحصى من التجارب الشعرية. ان الشعر الذي يبقى هو ذلك الذي ينجح في الاقتراب والتغلغل في ثنايا الروح، وهو في ذلك يلتقي مع الدين، عند روح مورقة.
* تبدو الساحة الشعرية المصرية أكثر هدوءا من ذي قبل، هل تظن ان هذا الهدوء يعني تبلور قصيدة النثر في ملامح محددة؟ وهل تظنها فعلا افرزت شعراءها؟لا شك في ان عددا من ملامح قصيدة النثر قد استقرت. منها، على سبيل المثال، ظاهرة السرد، وخفوت الصوت الخطابي، وتواري البلاغة الى حد كبير، جنبا الى جنب مع اختفاء موسيقى التفعيلة.
ايضا بزغ الاحتفاء بما هو عابر، والتوقف عند التفاصيل والولع بالبوح على حساب الالتفات الى القضايا الكونية واسئلة الوجود والمصير.
لكنني لا اظن ان ما تتحدث عنه من هدوء على الساحة الشعرية المصرية يرجع الى تبلور ملامح قصيدة النثر. الأرجح ان هذا السكون مرجعه حالة من الاحباط العام تحاصر الجميع في تلك اللحظة التاريخية القاتمة. لا شيء يبعث على البهجة، ولا نملك أدنى مدعاة للفخر! الا اذا كان اعترافنا بخيبتنا يمكن ان يكون سببا للفخر على هؤلاء الكذابين الذين اورثونا المهانة والضعف. مع هذا فقد افرزت قصيدة النثر شعراءها الحقيقيين. وها هم شاهدون على انفسهم غير عابئين باعتراف من أحد ولا مدعين لمجد حققوه ولا ساعين لغير قصيدتهم التي ارتضوها. الاسماء كثيرة والتجارب متعددة والملامح موزعة بين هذا وذاك. لكن ماذا تقول ازاء الذين افسدوا علينا المناخ وعكروا الماء من أعلى ولم يحملوا لنا أي قدر من المحبة؟
* هل تعتقد ان الملامح التي روجتها قصيدة النثر واصبحت نمطا يبدو مستقرا، يمكنها فعلا حمل تيار شعري بكامله الى الامام؟ وهل تظن ان ما قدمه منجز هذه القصيدة كاف للحكم عليها؟لقد قدمت قصيدة النثر منجزها عبر ما يزيد عن عقد كامل، الأمر الذي يجعلها جديرة بالتوقف عندها طويلا من قبل المنوطين بذلك للوقوف على هذا المنجز والحكم عليه. لقد حملت قصيدة النثر تلك تجارب شعرية متباينة عبر أكثر من عقد وأظنها ما زالت قادرة على حمل المزيد. انها اكثر رحابة من قصيدة التفعيلة، ومع هذا لا بد من الدخول لها في مزيد من المغامرات. لا نريد لها استقرارا نمطيا، ان ذلك يدفع بها نحو شيخوخة مبكرة. قصيدة النثر قابلة للتجدد، فقط يتوفر لها الشعراء المخلصون ذوو الموهبة العالية.
* ثمة رغبة دائمة في البحث عن آباء لقصيدة النثر من التراث العربي القديم، هل تظن ذلك شيئا ذا بال، وهل يمكن ان يرفد مفهومنا عن هذه القصيدة؟لا اظن ذلك، وحتى لو افترضنا انتهاء جذورها الى التراث العربي القديم، فان قصيدة النثر الآن مفتوحة على كافة الفنون. واذا كان لا بد لها من أب ما، فانني اعتقد انها سليلة النصوص الشعرية المترجمة الى العربية من كافة اللغات الاخرى. انها بذلك تبدو اكثر حظا في استيعاب ما لا يحصى من تجارب شعرية من كل الثقافات، وهذا ما يدفعني للظن بأن قصيدة النثر سوف تصمد لعقود طويلة قبل ان تنتهي الى شكل آخر، بعكس قصيدة التفعيلة التي لم تسد سوى لثلاثة عقود فقط.
* تبدو الساحة الثقافية قصرا على شعراء الريادة، وثمة نضال طويل على الاجيال الجديدة ان تخوضه من اجل وجودها. هل تظن ان النص الريادي جدير بكل هذه الاستحقاقات المتواترة وغير المنتهية؟ هل تراه فاعلا حتى هذه اللحظة؟للأسف الشديد، على كافة الاصعدة، وفي مختلف المجالات، هناك نوع من الاستئثار من جانب ( الرياديين) بالكعكة كلها. انانية مفرطة وجهل فاضح بحركة التاريخ! ان معظم شعراء الثمانينيات مثلا قد شارفوا على الخمسين او جاوزوها، دون ان ينالوا شيئا على الاطلاق، اعمالهم يصدرونها على نفقتهم الخاصة، ثم يقومون بتوزيعها على اصدقائهم وعلى المعنيين، ثم لا شيء! وان تذكرهم احد، فقط يتذكرهم وهو يهاجم قصيدة النثر!
الغريب ان هؤلاء الرياديين جميعا لا يفتأون يتحدثون عن ضرورة حرية التعبير وديمقراطية الفكر لكافة التيارات ولشتى الاجيال سوى ان واقع الحال يكشف عن فداحة الزيف، بل عن النقيض الكامل لما يتشدقون به!
انهم دكتاتوريون حتى النخاع، ونرجسيون حتى الثمالة ولا يرون الا ذواتهم ويحتكرون كل المنافذ ويحتلون كافة الزوايا ولا يروجون الا انفسهم حاصدين المزايا والجوائز رغم ان كل نصوصهم قد اصبحت منتهية الصلاحية.
* المؤسسة الثقافية دائما ما تصر على لعب دور ما لاحتواء او صناعة النجم مثالا. هل تعتقد ان هذا الدور عادل ويسير حسبما يملي المعيار الابداعي والنقدي الذي يستحق التبني فعلا؟آفتنا في الاحادية، في النجم ـ المثال، في الرأي الواحد وفي تسييد وجه نظر وحيدة. والكارثة ان تتبنى المؤسسة الثقافية ذلك الدور وان تكرس لهذا المفهوم. ان الثراء في التعدد والقوة في حجم الحرية المتاحة لافراز النماذج الحقيقية.
ان فساد المعايير وبؤس المناخ وسقوط الهمة الى جانب خيانة الامانة لكفيل بإحداث التدهور الشامل والانهيار التام في المجتمعات دون تدخل خارجي او تآمر من عدو. الذين يبكون على الانحدار الثقافي وغياب النماذج الفاعلة الان على الساحة الثقافية، هم انفسهم اول المسؤولين عن ذلك، ولو كانت لديهم بقية من ضمير لاعترفوا بذنبهم او لصمتوا، ورحم الله احمد بهاء الدين.
لو كان الواحد رسام كاريكاتير، لما تردد في رسم الشعوب العربية هكذا: عاجزة لا حول لها ولا قوة، من تحتها الارض غير مستقرة، تتهددها زلازل اقتصاديات هزيلة وتتربص بها براكين اعتماد شامل على الآخر ( الغرب) في كل اسباب الحالة! ومن فوقها سماوات مفتوحة، لا شيء يحول بينها وبين تساقط القنابل، القنابل التي تزهق الارواح، والقنابل التي تزهق الهوية! اما من الامام، فالجحافل اياها، بهراواتها ومطارقها، جحافل اثر جحافل حتى آخر جندي نظامي! فماذا من الخلف؟
انها جحافل اخرى، بهراوات اخرى ومطارق اخرى. هراوات على هيئة افلام ومطارق على هيئة ميكرفونات وجميعهم بزيهم العصري ونظاراتهم الفكرية لا يقفون على ذات الارض، انما هم واقفون هناك، فوق، فوق الموائد اياها.
انهم جحافل النخبة! ويالها من جحافل! تهوي على العقول من الخلف فيغيب الوعي. ثم تطلق الزوابع في العيون والآذان فيغشى البصر وتزيغ البصيرة.
وتظن هذه الجحافل اننا لا نراها في الدخان! دخان التنوير! وأبخرة السحر وألعاب السيرك.