السقوط في الشبكة

جمال بدومة - jamalboudouma@gmail.com
قبل أن نسقط في «الشبكة» التي «نصبها» الأمريكيون للعالم، نهاية القرن الماضي، ونسبوها إلى «العنكبوت»، كان الناس يعانون من ملل شديد، ولا يعرفون ماذا يصنعون بوقتهم. النهارات طويلة جدا، والزمن تختصره دجاجة تنقب الزرع ببطء شديد على جدران البيوت، والثواني تسمع من بعيد: تك تك تك تك، وتزيد من رتابة العالم. كانت التكنولوجيا في المنازل تقتصر على راديو ضخم، يختفي داخله المطربون ومذيعو الأخبار، ثم تلفزيون يبدأ في السادسة والنصف، صار ملونا مع مرور الأيام، لكنه ظل يبث «التشاش» أكثر مما يبث البرامج، ومن «مسك» الله عليه يكمل «الكوليكسيون» بتلفون تدوّر أرقامه كما تدوّر عجلة الحظ في «السويريتي»، وعندما يرن يصنع الحدث بين أفراد العائلة والجيران والحي بأكمله. حين وصل الأورديناتور والبورطابل، انقلبت حياتنا رأسا على عقب. ومع ظهور الأنترنيت، تبدلت عاداتنا وعلاقتنا بالأشياء وبالمسافة وبالآخرين، انتقلنا من عالم واقعي شديد الوحشة إلى عالم افتراضي لا تحتمل خفته. لم يعد للثواني صوت، وصارت السنوات تمر بسرعة البرق، تشعل «الأورديناتور» وأنت مراهق وحين ترفع رأسك تجده مخروطا بالشيب، تكتشف أنك قضيت حياتك تدردش وتلعب وترسل إيميلات سخيفة إلى أناس لا تعرفهم، تقديم دليل على أنهم أشخاص حقيقيون يشبه إثبات وجود الكائنات الفضائية في بعض الأحيان. تتحول إلى كائن رقمي في خدعة «افتراضية»، وتمر قرب الحياة كأنك شبح نفسك. تملك أصدقاء بالآلاف كان يعرفهم قبلك شاعر قديم، لم يتردد في أن يقول عنهم: «ما أكثر الأصحاب حين تعدهم/ لكنهم في النائبات قليل». وكم يضحكني بعض الشباب الذين أنهوا دراستهم على عجل، وخرجت لهم مناصب شغل في الفيسبوك، من كثرة مداومتهم على المواقع الاجتماعية «بقا غير يعطيوهم النيمرو دصوم». عوض البحث عن عمل يشيدون به أسرا في حياة واقعية، يمضون أيامهم في البحث عن أصدقاء مزيفين، يتبادلون معهم الرسائل والصور والكلام الفارغ. قبل الأنترنيت كنا نملك ثورة ثمينة اسمها «الملل»، بات العثور عليها اليوم أشبه بالوقوع على كنز. لم يكن عندنا ما نفعله خلال أيام العطل الطويلة. هدوء قاتل في البيت، والشمس تطيح بالزرزوز من فوق السور بالخارج. كنا نملأ النهار بألعاب نخترعها بأنفسنا، بدل الألعاب الجاهزة التي يبحر فيها أطفال اليوم بنقرة صغيرة. وسنظل مدينين للملل، لأنه علمنا أن نبدع ألعابنا بأنفسنا ودفعنا إلى أن نقرأ. بفضل الملل اطلعنا على عشرات الكتب. كلما تعبنا من الحماقات، نأخذ كتابا ونشرع في القراءة. سرقنا القصص المصورة من محفظات إخوتنا الكبار، وقضينا جزءا من طفولتنا مع «زومبلا» و«كيوي» و«راهان» و«روايات عبير» الرومانسية التي كنا ننتشلها من بين أغراض أخواتنا البنات، بسبب الملل سافرنا في التاريخ مع مغامرات جورجي زيدان، من «غادة كربلاء» إلى «فتاة القيروان»، وقرأنا «في سبيل التاج» و«ماجدولين» و«الأجنحة المتكسرة» و«النبي» و«العبرات والنظرات»... وكتبا كثيرة، صارت تبدو اليوم مثل مستحاثات تؤرخ لأحد العصور البائدة.

• البلاد التي...