وكان من المفروض نظريا، أن تؤدي الإجراءات المعتمدة في إطار سياسة التقويم الهيكلي إلى إعطاء البورجوازية المحلية دفعة قوية لاستثمار مدخراتها في القطاع الصناعي. وقد أدى ذلك بالفعل إلى إقبال بعض شرائح البورجوازية على استثمار مدخراتها في بعض الصناعات التحويلية البديلة للواردات، وبخاصة في المراحل الأولى للتمهيد لتطبيق هذه البرامج. بيد أنه بنفس القدر الذي تقررت فيه هذه المزايا، سنجد أن برامج التثبيت والتقويم الهيكلي، قد تمخضت عن مجموعة من السياسات النقدية والمالية التي تهدم، بكل قوة، فاعلية عوامل التشجيع التي تقررت لرجال الصناعة المحليين.
ويمكن تقسيم العوامل المعيقة لنمو الصناعة المحلية الناجمة عن هذه البرامج إلى نوعين. النوع الأول، يتمثل في تلك العوامل التي أدت إلى حدوث ارتفاع كبير في تكاليف الإنتاج ، لا قبل للمنتجين المحليين على تحملها، ولا يمكن، مهما بذلوا من جهد ، أن يعوضوا تلك الزيادة عن طريق تحقيق زيادة مناظرة في نمو الإنتاجية، خاصة في الأجل القصير و المتوسط. ومن أمثلة هذه العوامل:
1 -زيادة أسعار الفائدة وما أدى إليه من زيادة واضحة في كلفة رأس المال الجاري ورأس المال الثابت، وتؤكد حوالي 46 % من المقاولات المغربية على أن نسب الفائدة مرتفعة جدا في المغرب؛
2 -زيادة أسعار الطاقة ووصولها إلى مستويات عالية جدا تحت حجة الاقتراب من الأسعار العالمية، وهنا نجد أن حوالي 65 % من المقاولات المغربية تعتبر أن أثمنة الطاقة مكلفة جدا مقابل 13 % تعتبرها مكلفة فقط و 12 % متوسطة؛
3 -زيادة أسعار المواد الخام المحلية، بعد أن تخلت الدولة عن دعمها وتركها لآليات العرض والطلب؛
4 - أدى تخفيض القيمة الخارجية للعملة (سعر الصرف)، إلى ارتفاع فاحش في كلفة الواردات الوسيطة للصناعات المحلية (المواد الخام ونصف المصنعة وقطع الغيار)؛
5 -زيادة رسوم وأسعار خدمات المرافق العامة والنقل والاتصالات ..الخ؛
6 -الضرائب غير المباشرة التي فرضت على المنتجات الصناعية المحلية كالضريبة على القيمة المضافة والضرائب الداخلية على الاستهلاك التي رفعت من أسعار هذه المنتجات وقلصت بالتالي من حجم الطلب عليها. وفي هذا الإطار نجد أن 65 % من المقاولات المغربية تعتبر بأن المساطير الإدارية جد معقدة وجد بطيئة، بينما 28 % منها فقط تعتبر العكس، غير أن 68 % من بينها تضع النظام الجبائي ضمن معيقات تطور النشاط المقاولاتي.
أما النوع الثاني من العوامل، فيتعلق بتعريض الصناعة المحلية لمنافسة غير متكافئة عن طريق تحرير التجارة الخارجية.
وعند حساب الآثار التراكمية لهذه السياسات على إجمالي التكاليف المحلية فسنجد أنها قد أدت إلى زيادات بنسب هائلة تتراوح ما بين 100% وأكثر من 200% . ونظرا للطابع الانكماشي الذي انطوت عليه برامج التثبيت والتقويم الهيكلي لأنها تهدف أساسا إلى كبح نمو الطلب المحلي، فإن المنتجين يفشلون في نقل عبء هذه الزيادة في التكاليف على عاتق المستهلك المحلي نظرا لضعف القدرة الشرائية لهذا الأخير. من هنا تواجه مبيعاتهم بأسواق كاسدة، الأمر الذي يضطرهم إلى تعطيل جانب من طاقاتهم الإنتاجية، مع ما يتبع ذلك من طرد للأيدي العاملة.
وفي الحالات التي تنتج فيها الصناعات المحلية من أجل التصدير، فإنه من الجلي تماما أن القفزة التي حدثت في التكاليف من جراء هذه السياسات قد أضعفت كثيرا من القدرة التنافسية لهذه الصناعات في الأسواق الخارجية وبذلك تدهورت حصيلة الصادرات الصناعية.
كما أن حرية التجارة التي يدعو لها أنصار الصندوق والبنك، تستند على مفهوم ناقص للحرية. فهي حرية تتعلق بانتقال رؤوس الأموال والبضائع دون أن تمتد لحرية عنصر العمل للانتقال إلى البلاد الصناعية، حيث الأجور المرتفعة، وبذلك ينبغي على العمال، أن يظلوا محصورين في بلادهم باعتبارهم جيشا احتياطيا للعمل، تستخدمه الرأسمالية العالمية متى شاءت وطبقا لشروطها.
وعليه فإن تحرير التجارة الخارجية، في الوقت الذي يتحمل فيه رجال الصناعة المحليين أعباء إضافية ضخمة من التكاليف، لن يؤدي إلا إلى تدمير الصناعات المحلية، وكل ذلك يهدد مصالح البورجوازية الصناعية المحلية، التي تضطر، إزاء هذه الظروف، إلى غلق مصانعها والتحول برؤوس أموالها إلى مجالات أخرى أكثر إغراء، مثل تجارة الاستيراد التي يرتفع فيها معدل الربح (بالمقارنة مع معدل الربح في القطاع الصناعي) وتتميز بالدوران السريع لرأس المال. وهنا تتحول أقسام واسعة من البورجوازية الصناعية إلى البورجوازية التجارية، التي تقنع، في مثل هذه الظروف، بتمثيل الوكالات والشركات الكبرى عابرة القارات.
وبناء على ما سبق،سنلاحظ أن الحماس الشديد الذي قابلت به البورجوازية الصناعية المحلية برامج التثبيت والتقويم الهيكلي، حينما كانت مجرد مشروع أو أفكار عامة يجري الترويج لها وقبل أن تأخذ مجالها في التطبيق، سرعان ما خفت حدته، بل وتحول هذا الحماس إلى انتقادات شديدة وشكاوى مرة، نظرا لما جاء في ركاب التطبيق الفعلي لها من أعباء ومشكلات وأخطار تهدد مصالحها.
البرجوازية البيروقراطية والتقنوقراطية،
تحصل هذه الشرائح عادة على دخول مرتفعة وذات طابع متغير، ويتميز نمط استهلاكها بالتنوع والغنى وباشتماله على قدر كبير من رموز الاستهلاك الترفي بسبب الفائض الكبير الذي تنطوي عليه دخولها. وغالبا ما يوجد بين أعضاء هذه الشريحة من يملكون، أو يشتركون في ملكية، وسائل الإنتاج الزراعي أو الصناعي. وتوجد لديهم ثروات مادية ومالية متنوعة. و قد تشتمل أيضا على إيجارات وفوائد وأرباح. وغالبا ما تفرز هذه الشريحة الكثير من الكتاب والفنانين وقادة الرأي والزعماء السياسيين داخل الأحزاب. كما أن أفراد هذه الشريحة تعتبر أكثر قربا للسلطة ولصناع القرار الاقتصادي والسياسي، وتحتل مواقع هامة في أجهزة الدولة.
فالقرب من مواقع صنع القرار الاقتصادي والسياسي، يتجلى من خلال الإشراف على إدارات مختلفة بالوزارات والمؤسسات العمومية. وقد تعزز موقع هذه الشريحة مع مرور الزمن استنادا لما حققته من مكاسب بحكم توسع مهام الدولة وزيادة حجم الاستثمارات العمومية والإنفاق الجاري. كما استطاعت أن تسيطر شيئا فشيئا على الكثير من أجهزة الدولة مما مكنها من توجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولعل جذور الرأسمالية الوطنية الراهنة ، المتعاونة والمتحالفة مع رأس المال الأجنبي والمتحمسة للانفتاح والليبرالية الجديدة، ولبرامج التقويم الهيكلي انبثقت أساسا من هذه الشريحة. وقد تمكنت في بعض الأحيان أن تنشأ من مواقعها الإدارية النافذة أحزابا للدفاع عن مصالحها، وقد اصطلح على تسمية هذه الأحزاب باسم أحزاب الإدارة.
وقد تحسن الوضع النسبي لهذه الشريحة عند تنفيذ السياسات الليبرالية الجديدة. فرغم أن الأعباء المالية الإضافية التي جاءت في ركاب هذه السياسات، مثل زيادة الضرائب على السلع والخدمات، وإلغاء الدعم، وزيادة أسعار الخدمات العامة وارتفاع أسعار الطاقة وأجور النقل.... قد أضرت بهذه الشريحة مثلما أضرت بشرائح أخرى من المجتمع. إلا أنه نظرا للطابع المتغير لمداخيلها فإن بعض أعضاءها قاموا برفع أسعار خدماتهم المهنية كما هو الشأن بالنسبة لخدمات الأطباء والمحامين والمهندسين ، كما استطاعت أن تحصل على كثير من المنح والعلاوات والزيادات في مرتبات أفرادها ممن يعملون في أجهزة الدولة وإدارة المؤسسات العمومية، على نحو يعوضهم عن الخسائر التي لحقت بهم من جراء هذه الأعباء المالية الإضافية.
ومن ناحية أخرى ونظرا لوجود فائض اقتصادي في دخول أعضاء هذه الشريحة، وهو ما كان يوجه نحو الادخار أو لشراء بعض أشكال الثروة المدرة للدخل، فإن ارتفاع سعر الفائدة على الودائع الادخارية الذي قررته السياسة الليبرالية الجديدة، أفاد أعضاء هذه الشريحة، خصوصا عندما أصبح سعر الفائدة الحقيقي موجبا.
أضف إلى ذلك أنه في ضوء تملك بعض أفراد هذه الشريحة لودائع بالنقد الأجنبي، أو نظرا لحصولهم على أجور ومرتبات بالعملة الأجنبية من المشروعات الأجنبية، فإن تخفيض قيمة العملة الذي فرضته سياسات تدبير الأزمة أفادهم جدا، حيث زادت أموالهم مقدرة بالعملة المحلية بنسبة التخفيض الذي حدث في القيمة الخارجية للعملة.
وفي ضوء الحوافز والإعفاءات الضريبية والجمركية التي تقررت للمشروعات الجديدة أقدم عدد لا بأس به من أفراد هذه الشريحة على استثمار جانب من مدخراتهم في بعض المشروعات الاستثمارية، مثل شراء الأراضي والمضاربة عليها، وبناء العمارات والمساكن الفاخرة وYعادة بيعها، وإقامة بعض المشروعات الخدماتية مثل متاجر التجزئة والأسواق الممتازة والمطاعم ومكاتب الاستيراد والتصدير .. إلى آخره.
وفي ضوء سياسة الخوصصة التي فرضتها الليبرالية الجديدة، تمكن عدد من أفراد هذه الشريحة في أن يتملك، أو أن يشارك في ملكية، بعض مشروعات القطاع العام المعروضة للبيع. وهنا لعب قرب هذه الشريحة من السلطة ومن صناع القرار الاقتصادي دورا مهما في تمكين بعض أفرادها من هذه الفرص.
إن وصف البورجوازية المغربية يالهجينة ينطلق من كون هذه البرجوازية لا تعتبر أصيلة كما حدث في المجتمعات الغربية خلال القرن السابع عشر التي شهدت صعود برجوازية خلاقة ومنتجة، فالبرجوازية المغربية نشأت وترعرعت في كنف السلطة وعاشت على الريوع التي تحصل عليها لقاء نهب ميزانية الدولة أو الاستحواذ على الرخص والامتيازات على مستوى الصيد البحري أو الاستيراد والتصدير أو استخراج المعادن أو الشركات التي تقتات على حساب المشاريع العمومية التي تمولها الدولة، وفي أحسن الأحوال تشتغل البرجوازية المغربية في قطاع المناولة Sous traitance لذلك يبقى تعبير البرجوازية الهجينة تعبيرا مواتيا لا يضاهيه سوى تعبير البرجوازية الكومبرادورية الذي يؤكد على ارتباطها العضوي بالرأسمالية العالمية.
أنظر حول هذه الظاهرة:
N.Poulantzas, classes in contemporary capitalism, New Left Books, London, 1975.
راجع ديتر سنجهاز، الامبريالية واعادة الإنتاج التابع، ترجمة ميشيل كيلو، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1986. ص: 72-73. وتجدر الإشارة إلى أن عملية التحالف لا تفيد رأس المال المحلي قدر فائدتها للشركات متعددة الجنسية التي تشتق لنفسها أساليب لامتصاص المدخرات المحلية مثل بيع القروض والأسهم في أسواق رأس المال المحلية، وتأمين الشركات المختلطة، وتحصيل مصارف التطوير والاستثمار المحلية عن طريق الحكومة، وتسريب جزء كبير من المدخرات المحلية إلى البنوك الأجنبية. أنظر المرجع السابق، ص: 69-70.
ظهر هذا التجاهل من خلال مراجعة خطة تمويل المخطط الاقتصادي 1960-1964 وكذا من خلال الإصلاح الجبائي لسنة 1961، وسيكون من عواقب هذا التجاهل الأزمة المالية الخانقة التي تعرض لها المغرب سنة 1964.
راجع هذه الأرقام في:
World Development Indicators 1998.
يعرف بول سويزي النظام الرأسمالي بالنظام القائم على امتصاص الفائض والتراكم من خلال علاقات اقتصادية غير متكافئة أنظر في هذا الصدد موريس دوب، تطور الرأسمالية، ترجمة رؤوف عباس، دار النشر الجامعي، بدون تاريخ. راجع أيضا أحمد زايد، الدولة ونمط التنمية في مجتمعات العالم الثالث، ورقة ألقيت ضمن ندوة عقدت بالكويت سنة 1989 حول الدولة ودورها في النشاط الاقتصادي في الوطن العربي، ص:26 وما بعدها.
Hagen Koo, World System, class and state in third world development, Sociological perceptive, vol.27, N°1, January, 1984, pp: 33-52.
يبدو أن هناك علاقة جدلية بين جهود الدولة في هذا المجال و دور الشركات متعددة الجنسية في خلق إطار عالمي لرأس المال يتعدى حدود الدولة، ويخترق -في بعض الأحيان- سيادتها. انظر عرضا لهذا الجدل في : أحمد زايد، الدولة في العالم الثالث، الرؤية السوسيولوجية. دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986. ص: (216-226)
انظر حول مفهوم التبادل اللامتكافئ: