الماركسية في عصر العولمة لم تفقد قيمتها الثورية[1] العولمة الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي عالمي جديد، اصبحت مثار جدل ونقاش على مستوى العالم ككل. في الصف المعارض للعولمة تقف اغلبية سكان العالم، تمثلها مجموعات مختلفة، القاسم المشترك بينها هو الاعتقاد بان النظام العالمي الجديد لا يجر عليها الا الضرر. في مقدمة هؤلاء واكثرهم تضررا الدول الفقيرة. اذ ان هذه الدول بقيت على هامش السوق الحرة التي احتكرتها الولايات المتحدة وشريكاتها من الدول الاوروبية واليابان، بينما لم تأخذ هي سوى المزيد من الفقر والنسيان والاحتضار جوعا، بعد ان ضربها الجفاف وانهكتها الامراض والبطالة، ولم تعد هناك جدوى حتى في استعمار الكثير منها.
واذا انتقلنا لاوروبا نجد ان الحركة المعارضة للعولمة تضم عددا غير محدود من المجموعات والتنظيمات ذات المبادئ المختلفة. فالخضر قلقون على البيئة، وبعض النقابات على تقليص ميزانيات الرفاه، وبين المثقفين من يعارض احتواء الشركات للثقافة، وهناك من يحتج على البطالة والاجرام الذي يهدد الاستقرار الاجتماعي. ومع ان جميع هذه التنظيمات تشير الى ان مصدر الكوارث الاجتماعية التي نعيش هي النظام الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة، الا ان احدا منها لا يملك البرنامج الجذري لمواجهة هذه السياسة المدمرة، الامر الذي يبقي الحركة المعارضة للعولمة مجرد احتجاج ضمن السياق الرأسمالي العالمي.
اما في العالم العربي فتأخذ المعارضة للعولمة صبغة دينية متطرفة تقودها المنظمات الاسلامية المتطرفة مثل "القاعدة"، "الجهاد" وحتى الاخوان المسلمين. من خلال استغلال كراهية الجماهير العربية لامريكا واسرائيل، تسعى هذه الحركات لتجنيد الجماهير حول خطابها الديني السلفي. وقد تحول الارهاب والانتحار الى وسيلة الاسلام المتطرف للانتصار على الغرب، ذلك انه لا يملك اسلحة اكثر تطورا او بديلا حقيقيا لاقناع العالم باطروحته الفكرية والاجتماعية.
ولا يرى الاسلام المتطرف في الحركة الاحتجاجية ضد العولمة حليفا له في الحرب ضد امريكا. بل هو بعيد جدا عن هذه الحركة التي تسعى لنقل الانسانية نحو مستوى ارقى من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على اسس ديمقراطية، علما ان الاسلام السياسي يتعامل مع الديموقراطية ككفر تجب محاربته، ويسعى لفرض نظام الشريعة كنظام حكم وحيد.
اين يقع البرنامج الماركسي ضمن هذه الحركة المناهضة للعولمة؟ وما علاقته ببرنامج الفوضويين الذين يعملون على تخريب كل ما يرمز للاحتكارات واشهرها ماكدونالدس، وبرنامج الاسلام المتطرف الذي يعلن الجهاد، واجندة سائر الحركات التي تعقد المظاهرات الجماهيرية كرد فعل على انعقاد مؤتمرات مؤسسات المال العالمية، مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية؟
الجواب ليس بالسهل، ففي حين يرى الاسلام في الماركسية كفرا لا نقاش فيه، فان الحركات الاحتجاجية تستعين بالتحليل الماركسي للرأسمالية، الا انها لا تتمسك به كبرنامج ثوري لاسقاط النظام الرأسمالي الجائر.
شبح الشيوعية يعود عندما صدر "البيان الشيوعي" عام 1848، كان الشيوعيون نخبة قليلة من الثوريين. وقد وضع هؤلاء وعلى رأسهم كارل ماركس، الاسس العلمية للاشتراكية، واقاموا الخط الفاصل بينهم وبين الفكر القومي البرجوازي، واكدوا ان العمال ليس لهم وطن. وتميز البرنامج الشيوعي بكونه ثوريا اذ كانت نيته قلب النظام البرجوازي وإحلال النظام الاشتراكي محله.
فترة ماركس لم تشهد حركة عمالية منظمة، بل تميزت باضرابات عمالية احتجاجا على الاستغلال في شتى الدول الاوروبية الصناعية، مثل فرنسا وبلجيكا وبريطانيا. وقد كشفت هذه الاضرابات حجم الطاقة الثورية للطبقة العاملة، مما قاد الشيوعيون للاعتماد على هذه التجارب في صياغة برامجهم. الى جانب ذلك استندوا للتحليل العلمي الذي يدرس تناقضات الاقتصاد الرأسمالي التي تقود حتما لانهياره، واكدوا ان الرأسمالية التي لا تنجح بالشفاء من ازماتها الدورية تقود الى فوضى في الاقتصاد ثم فوضى في المجتمع، الامر الذي يضطرها للجوء للجبروت العسكري لقمع كل من يهدد سلطتها.
بعد ان دعموها في معاركها الدموية للاطاحة بالنظام الاقطاعي، خيّبت البرجوازية آمال ملايين العمال في اوروبا، فلم تمنحهم حق الاقتراع ولا شروط عمل انسانية. وسرعان ما تحولت الاشتراكية العلمية في ظل هذا الوضع الى البديل الوحيد للنظام الليبرالي البرجوازي، وحظيت بدعم الاغلبية الساحقة من الطبقة العاملة. وتحول الشيوعيون من نخبة الى حزب جماهيري بفضل برنامجهم الذي استجاب للواقع السياسي والاقتصادي في النصف الثاني من القرن ال19. وما كنا لنتطرق الى هذا التاريخ لولا الحاجة لاستخلاص العبر بالنسبة لاهمية الماركسية في فهم الواقع العالمي المعاصر من جهة، وتأكيد قيمتها كبرنامج للتغيير الثوري من جهة اخرى.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي جاءت الرأسمالية برسالة جديدة وتحد جديد للنهج الماركسي. مفاد هذه الرسالة ان العالم دخل عهدا جديدا بفضل التحديث التكنولوجي الذي غيّر قوانين اللعبة الاقتصادية، ومكّن السوق الرأسمالية من التغلب على ازماتها الدورية المزمنة التي تأرجحت بين نمو وركود. فالتكنولوجيا المتطورة الابداعية تخلق حاجات جديدة، مما يحرك السوق ويبقي الطلب اكثر من العرض دائما وابدا. وللتأكيد على الانتقال لمرحلة جديدة، تمت تسمية النظام الاقتصادي بالاقتصاد الجديد خلافا للقديم الذي اعتمد على الصناعات التقليدية مثل الصلب والسيارات والسفن والاسلحة. من هنا استنتج زعماء الفكر الرأسمالي الليبرالي، ان الماركسية اصبحت فكرا باليا لان النظام الرأسمالي الجديد بات يعمل حسب قوانين جديدة لم يعرفها ماركس.
ولكن سرعان ما اتضح ان هذه الادعاءات تفتقد اي اساس علمي. فقد تبين ان التكنولوجيا الحديثة عمّقت الفوضى في السوق الرأسمالية، فمع انها خلقت ادوات وتكنولوجيات متطورة جدا، الا انها واصلت الاستناد الى نفس القوانين الرأسمالية التي يزيد عمرها على ثلاثة قرون. وبدل تسوية الازمات الدورية فقد عممت الازمة على نطاق عالمي محدِثة كوارث اقتصادية واجتماعية في شتى انحاء العالم.
واذا كانت الفكرة السائدة في العقد الاخير من القرن العشرين بان العالم تحول الى قرية عالمية شُطبت فيها الحدود القومية مع تبلور السوق العالمية الحرة، فلم يبق اليوم من هذه القرية سوى الخراب. ولا يزال العالم يتجه بخطوات سريعة نحو الانقسامات القومية بسبب فشل القرية الطوباوية في ضمان الحاجات الاساسية للبشرية. وليس هذا مفاجئا اذ ان هذه القرية لم تخضع لحكم كل اعضائها بشكل ديموقراطي، بل كانت احتكارا للدول الرأسمالية الكبيرة التي تستغل سائر سكان القرية دون رحمة. مع بروز علامات الفشل، بدأت هذه القرية بالتفكك وبدأ كلٌّ يعود الى مسقط رأسه القومي الاصلي، مدفوعا إما بالتعصب القومي او الطائفي الديني.
ان القوانين الاقتصادية الاساسية اذن لم تتغير، ولا يزال التحليل الماركسي ساري المفعول في فهم جذور الازمة الاقتصادية التي يمر بها العالم اليوم. واذا كانت الرأسمالية تعتمد على اليد الخفية في ادارة الاقتصاد لصالح النخبة، ولا تعطي الانسان امكانية التحكم في منع الازمات، فان الماركسية تعتمد على التحليل العلمي وتطرح نظاما اقتصاديا بديلا اساسه نقل وسائل الانتاج من ايدي النخبة الى ايدي المجتمع ككل، ومن ثم برمجة الاقتصاد لتلبية حاجات المجتمع وليس لتحقيق الارباح للاقلية.
الحرب والفاشية والتطرف الديني النظام الرأسمالي لم يتمكن من التغلب على ازماته الاقتصادية كما اسلفنا، وهو لا ينجح في تسوية المصالح المتضاربة بين القوى الرأسمالية المختلفة، الا بالحرب. فالحرب كانت وما زالت ميزة اساسية في النظام الرأسمالي، يلجأ اليها اذا لم تكف القوة الاقتصادية لفرض هيمنته على السوق واملاء شروطه على خصومه. اما السلام الذي يقترحه هذا النظام فليس سوى خدعة للشعوب بينما هدفه ضمان مصلحة الاستعمار. اذ كيف يمكن لنظام يعتمد على استغلال الشعوب لضمان وجوده، ان يضمن السلام لهذه الشعوب في ذات الوقت؟
ويتسع نطاق الحرب مع تعمق الازمة الاقتصادية. فاذا كان القرن السابق قد انتهى بحرب الخليج التي اتسعت للبلقان فالقوقاز، فقد بدأ هذا القرن بالحرب العالمية ضد الارهاب التي شكلت افغانستان اولى محطاتها. ولا يمكن إهمال الصراعين العربي الاسرائيلي والهندي الباكستاني، اللذان باتا يهددان سلامة العالم ككل رغم كونهما صراعات اقليمية. كيف يمكن تفسير هذه الحروب؟ هل هي مجرد ظواهر متفرقة لا صلة بينها؟ ام هي مؤامرة صليبية يهودية ضد الاسلام كما تزعم الحركات الاسلامية؟ ام هي جزء لا يتجزأ من صراع الطبقات كما فسرها الماركسيون من ماركس الى لينين؟
بامكاننا ان نحدد: ان الحرب بين اسرائيل والفلسطينيين هي امتداد للصراع بين امريكا المهيمنة على الموارد الطبيعية في المنطقة وبين الجماهير العربية الفقيرة. كما ان الحرب بين الهند وباكستان هي تعبير عن الصراع بين برجوازيتي كلا البلدين الطامحين لاحتلال مكان افضل في السوق الرأسمالية العالمية. فللهند طموحات اقليمية تستند لتحقيقها الى قوتها النووية، اما باكستان فتسعى لضمان نفوذها في افغانستان وحصتها في انابيب النفط المخطط مدها بين بحر قزوين وميناء كراتشي. ويمكننا القول ايضا انه حتى الهجمات الارهابية التي قام بها تنظيم القاعدة ضد برجي التجارة والبنتاغون، ليست سوى تعبير مشوه عن الصراع بين الجماهير في الدول الاسلامية المحبطة وبين المسؤول الاول عن احداث هذه الكارثة الانسانية التي يعيشها ملايين البشر.
لتحديد موقف الاشتراكية من الحروب طرح ماركس، ثم لينين في الحرب العالمية الاولى، السؤال: ما هي مصلحة الطبقة العاملة في هذه الحرب؟ هل تقدمنا هذه الحرب من الاشتراكية، ام انها عبارة عن تصفية حسابات ومصالح بين البرجوازية، على حساب الطبقة العاملة؟ وكما سأل ماركس، نسأل نحن اليوم: هل الحرب ضد الارهاب التي يشنها الرئيس الامريكي، جورج بوش، وتدعمها النقابات الامريكية، تخدم الطبقة العاملة بطريقة ما؟ هل يسعى بوش لمزيد من الديموقراطية والمساواة للامريكيين؟ هل هناك اي نوع من التقاء المصالح بين البرجوازية الامريكية والطبقة العاملة؟ ان من ينظر للمصير الذي آلت اليه الطبقة العاملة الامريكية بسبب سياسة حكومة ريغان وكلينتون وبوش التي ادت لهبوط حاد في مستوى معيشتها وافقاد الملايين منها اماكن عملهم، يمكنه ان يجزم ان الطبقة العاملة الامريكية لا مصلحة لها في هذه الحرب.
هل يعني هذا ان من مصلحة الطبقة العاملة دعم اسامة بن لادن وجماعته، على اعتبار انهم نجحوا في تحديد العدو بدقة؟ كلا، فبن لادن يفتقد البرنامج للقضاء على هذا العدو، ويتمسك ببرنامج سلفي منغلق ينادي للعودة الى الماضي الغابر، بدل إحداث تغيير ثوري يبني المستقبل ويقرب الطبقة العاملة من تحقيق برنامجها التحرري.
ولا تكمن المشكلة في البرنامج بل في الاسلوب النضالي الذي تتبناه الجماعات الجهادية. فاسلوب الطبقة العاملة لقلب النظام البرجوازي هو التنظيم الجماهيري على اساس طبقي، وليس الارهاب. وتلخيصا لهذه النقطة نقول: ان الحركة الاسلامية ترى في الشيوعية عدوها الاول، وبطبيعة الحال لن تساعد الطبقة العاملة في تحقيق هدفها وهو احلال البرنامج الاشتراكي. لذا فرغم دعمنا المطلق للنضال ضد امريكا، لا نجد مصلحة للطبقة العاملة في دعم هذا التيار المعادي لامريكا من منطلق سلفي رجعي.
ولا يمكن الحديث عن الاسلام المتطرف دون لفت النظر لنمو الفاشية السريع في اوروبا. ويعتبر هذا التطور مؤشرا مهما على اقتراب النظام الرأسمالي من الانهيار، مما يزيد اهمية البرنامج الماركسي كاساس للنظام البديل.
ولا بد من التذكير بان النظام الرأسمالي تعهد بعد الحرب العالمية الثانية بان الفاشية ولّت الى غير رجعة، وان الولايات المتحدة ستعمل على حفظ الديموقراطية وتطبيقها على المجتمع الدولي. وجاءت دولة الرفاه في اوروبا على اساس التعاون الوثيق بين الحكومات البرجوازية والنقابات، لكبح جماح الرأسمالية المفرطة التي وصلت الى مرحلة الامبريالية وقادت القارة الى حربين عالميتين دمرتها واودت بحياة 50 مليون نسمة.
ونشهد اليوم اضمحلال النظام البرجوازي الليبرالي، وتعفن المؤسسة السياسية التي فسدت في اوروبا ككل. من هنا اصبحت الطريق سهلة لعودة الفاشية للمشاركة في الحكومة الايطالية ولمنافسة اليمين على رئاسة فرنسا، ولدخول دول اوروبية عديدة منها النمسا، هولندا، اسكندنافيا وسويسرا.
لماذا تلجأ اوروبا من جديد للفاشية؟ الحقيقة ان نمو الفاشية يأتي نتيجة انهيار الاقتصاد الرأسمالي الذي ادى للبطالة وعدم الاستقرار السياسي مما افقد المواطنين ثقتهم بالنظام القائم. ان الرأسمالية التي تسعى لتحقيق النسبة الاعلى من الارباح، لا تستطيع التعايش مع نظام الرفاه الذي يقيّدها، ويأخذ بالحسبان مصلحة المجتمع ككل. ولاجل تحقيق طموحاتها تقوم البرجوازية برشوة السياسيين والصحافيين والرياضيين والمثقفين، وكل من يمكن ان يضمن سلطتها.
ان الفاشية الجديدة تعود الى اوروبا بسبب العولمة الرأسمالية التي ازالت الكوابح عن الاقتصاد. فقد ارخت العولمة العنان للشركات الكبرى لتصول وتجول في العالم كله سعيا وراء الربح، وكانت النتيجة ارتفاع نسبة البطالة في المراكز الصناعية الكبيرة في اوروبا، وتعميق الفقر في دول الاطراف ونزوع الملايين من سكانها للهجرة للدول الغنية بحثا عن الرزق. ان ظاهرة المهاجرين التي اصبحت مصدر ازعاج في الدول الغنية بسبب الاجرام الذي يرافقها، هي اذن من صنع النظام الرأسمالي نفسه الذي يتهم المهاجرين بالمسؤولية عن البطالة لابعاد التهمة عن نفسه.
ان الحرب والفاشية كانتا ولا تزالان ورقة النظام الاخيرة لانقاذ نفسه من الثورة. فالفاشية هي الوسيلة لقمع الطبقة العاملة وكل من يتحدى النظام الموشك على الانهيار. في هذه اللحظة بالذات تصبح الديموقراطية المؤسسة على سيادة الشعب، مجرد كماليات لانها لا تعود بالنفع على رأس المال الكبير ولا تساعده في ضمان ارباحه وسلطته. وليس هناك دواء ضد الحرب والفاشية سوى الاشتراكية التي تسعى للقضاء على الاسباب البنيوية التي تؤدي للحرب والفاشية، وذلك بالقضاء على رأس المال الكبير.
لقد كانت الحركة العمالية، وعلى رأسها الاحزاب الشيوعية، في طليعة النضال ضد الفاشية. وكان الاتحاد السوفييتي هو الذي هزم المانيا النازية، في حين امتنعت الدول الرأسمالية، مثل امريكا وبريطانيا، عن التدخل لوقف الزحف الفاشي على امل ان يضرب عدوها الاتحاد السوفييتي ويدمره. كما ان هتلر نجح باحتلال فرنسا دون مقاومة. لذا فاننا لا نستغرب ان تسكت الانظمة الرأسمالية على نمو الفاشية من جديد وان تضفي عليها الشرعية باشراكها في حكوماتها، فالفاشية هي الوجه الآخر للرأسمالية.
وما يزيد خطر هذه الظاهرة انها تسبب نمو النزعات القومية في العالم، وتزيدها تحديدا في روسيا. فقد بقيت هذه الدولة العظمى ذات القوة الاقتصادية والنووية، دون حصة في النظام الرأسمالي العالمي. لذا فهي تلجأ للخطاب القومي المتعصب كوسيلة لتجنيد شعبها وفرض نفسها على العالم مستخدمة جبروتها العسكري.
مصير النهج الماركسي في مواجهة الازمة الكونية التي يمر بها النظام الرأسمالي، يصبح التحليل الماركسي الاكثر ملاءمة لفهم الواقع من خلال كشف جذوره الطبقية. مع ذلك، يبقى السؤال هل صواب التحليل يعني بالضرورة صواب البرنامج؟ هل يكون مصير النهج الماركسي الانتصار التاريخي على النهج الرأسمالي الليبرالي؟
بمناسبة مرور 30 عاما على وفاة ماركس كتب لينين مقالا بهذا العنوان عام 1913. في مقاله ميّز لينين بين ثلاثة مراحل في تطور الماركسية. الفترة الاولى بين الاعوام 1844 - 1848، وبدأت بطرح الفكر الشيوعي الذي غلبته التيارات الطوباوية، وكان الماركسيون في هذه الفترة اقلية لا وزن لها. عام 1848 بدأ مرحلة جديدة استمرت حتى عام 1871، وذلك بعد ان غلبت الاشتراكية العلمية الاشتراكية الطوباوية، لانها كشفت الطبيعة الطبقية للنظام الرأسمالي. في هذه الفترة الثانية تحول النظام الرأسمالي البرجوازي الى حقيقة ثابتة، وبالمقابل نجحت الماركسية بنشر نفوذها وتأسيس اول حزب عمالي مستقل، هو الحزب الاشتراكي الديموقراطي الالماني. وقد انتهت هذه الفترة بتأسيس عمال باريس اول حكومة عمالية (كومونة باريس)، والتي صمدت 70 يوما.
الفترة بين 1872 - 1904 اتسمت بغياب الثورات، وشهدت انتشارا كبيرا للاحزاب الاشتراكية في شتى انحاء اوروبا وبعض دول الاطراف. ويقول لينين ان هذه الفترة السلمية اثرت سلبا على الاحزاب الاشتراكية التي تعودت على السلام الاجتماعي الذي سمح لها بالنشاط الشرعي وتوسيع نفوذها، فتخلت عن النهج الثوري وعن دورها في اسقاط النظام الرأسمالي وبلوغ السلطة. وجاءت ثورة 1905 في روسيا لتنهي الفترة السلمية، وتفتتح حقبة تاريخية جديدة انتهت بالثورة الاشتراكية الاولى عام 1917 في روسيا، في حين دخلت اوروبا الامبريالية الى حرب عالمية، واعادت طرح الاشتراكية على جدول الاعمال من جديد.
ان تطور الماركسية، كأي تطور، يتم بشكل جدلي اي انه لا يتقدم الى الامام في خط مستقيم، بل يشهد تقدما وتراجعا. ان انتشار الاحزاب الاشتراكية في اوروبا في القرن التاسع عشر اعتبر انتصارا كبيرا، ولكن كما اشرنا فقد كان الثمن تخلي هذه الاحزاب عن النهج الاممي الثوري وتبني افكار قومية ليبرالية هي في الواقع انحراف وتراجع عن النهج الماركسي. كما ان انتصار النهج الثوري في ثورة اكتوبر الكبرى التي تمت في اقل الدول الصناعية تطورا، ادى لكثير من المشاكل منها فرض ستالين للنظام الاستبدادي الذي شكل تراجعا عن النهج الماركسي.
ولكن نظام ستالين نفسه خضع هو ايضا لقانون التطور الجدلي، فكونه استبداديا لا يعني انه لم يطور النظام الاشتراكي. فقد حافظ ستالين على اسس الاقتصاد الاشتراكي، وأبقى على تأميم وسائل الانتاج، واعتمد على الاقتصاد المبرمج وحقق نموا اقتصاديا في فترة قصيرة جدا دون اللجوء الى استعمار واستغلال دول اخرى، فاثبت بذلك تفوقه على النظام الرأسمالي الذي عانى في نفس الفترة من الركود. وسرعان ما تحول الاتحاد السوفييتي الى قوة سياسية واقتصادية وعسكرية، واصبح صديقا استراتيجيا للشعوب المضطهدة في حربها ضد الاستعمار. ولكن التناقض السافر بين النظام السياسي البيروقراطي الاستبدادي، وبين الاقتصاد المبرمج الذي يحتاج في تطوره الى المبادرة والابداع الحر والتعددية كحافز، في ظل غياب حافز الربح، ادى في النهاية الى سقوط النظام السوفييتي.
ما هي طبيعة المرحلة التي نمر بها اليوم، وما هو وضع الطرح الماركسي الثوري فيها؟ لا شك ان العقد الذي تلا سقوط النظام السوفييتي كان من احلك الايام التي عرفتها الحركة الثورية. فقد أعلنت الرأسمالية عن نهاية التاريخ وعن انتصارها الابدي على الاشتراكية. وما كان من الاحزاب اليسارية والشيوعية في اوروبا والعالم التي خشيت على نفسها من الاختفاء، الا ان تراجعت عن المبادئ الاشتراكية، وعدلت اسماءها وبرامجها لتتحول الى احزاب ليبرالية. ولكن هذا التغيير لم يساعدها على البقاء، وكفى مثالا على ذلك ما حدث في الانتخابات الاخيرة في فرنسا، التي قُضي فيها على نفوذ الحزب الشيوعي بحصوله على 3% من الاصوات، هذا بعد ان كان اكبر حزب شيوعي في اوروبا. سقوط هذه الاحزاب يدل على ان تعديلها برامجها كان سابقا لاوانه ولم يستجب للواقع السياسي المتأزم.
لقد كان واجب الاحزاب الشيوعية استخلاص العبر من فشل الحزب الشيوعي السوفييتي، الا انها لم تتمكن من ذلك لانها هي نفسها خضعت للنهج البيروقراطي الذي انحرف نحو الاصلاح والتعاون مع البرجوازية. لا شك ان الحركة العمالية الثورية في العالم تشهد في عهد العولمة تراجعا كبيرا، وقد افسح اختفاؤها عن الساحة السياسية والنضالية المجال للفاشية والاسلام المتطرف لفرض نفسها كبديل وحيد للنظام الرأسمالي في اوروبا ودول الاطراف.
ولكن اذا كانت ثورة اكتوبر عام 1917 قد عوضت عن افلاس الاممية الثانية ابان الحرب العالمية الاولى، فلا يبدو ان هناك حركة عمالية ثورية منظمة يمكنها ان تعوض عن سقوط الحركة الشيوعية في ايامنا. ان هذا الفراغ العظيم امتلأ بكل انواع الحركات والايديولوجيات من الغيبية للقومية للفاشية للدينية، وكلها تتغذى من يأس الناس من امكانية إحداث التغيير الثوري. وقد زادت هذه التيارات الفوضى الراهنة، وعمّقت البلبلة في صفوف العمال وادت لابتعادهم عن النشاط النقابي والسياسي في آن.
ان المهمة الماثلة امام الحركة العمالية العالمية هي عملية طويلة من اعادة البناء. ومنظور ان تستمر هذه العملية فترة تاريخية شاملة، ستكون بطبيعة الحال محكومة بالتطورات الموضوعية التي تحكم الواقع السياسي العالمي. فامريكا وحلفاؤها يبذلون جهدهم للجم الازمة الاقتصادية، اما الحكومات فلا تجد مناصا من العودة للتدخل في قوانين السوق الحرة للحيلولة دون وقوع كارثة. ورغم تضارب المصالح بين اوروبا واليابان وامريكا، وبين امريكا وروسيا، فان الادارة الامريكية حريصة على منع احتداد العلاقات الدولية. المثال على ذلك تراجعها عن شن الحرب على العراق خشية حدوث زلزال سياسي في الشرق الاوسط يمكنه ان يطيح بالانظمة الحليفة لها، وعلى رأسها السعودية.
فرصة لا يمكن اضاعتها وفي هذا الوضع بالذات تصبح الماركسية، مذهبا وبرنامجا، الحل الوحيد الذي يمكنه ان يوحد الانسانية على اساس اممي لانقاذها من الدمار. وعندما نتحدث عن عملية اعادة بناء الحركة العمالية الاشتراكية، لا نقصد الانخراط في الحركة الاحتجاجية ضد العولمة، بل نعني اعادة صياغة برنامج سياسي ثوري قادر على تجنيد الطبقة العاملة واعادة الشباب للعمل السياسي في مواجهة تحديات المرحلة الراهنة.
ان صياغة هذا البرنامج تتطلب مجهودا دوليا تتم فيه دراسة التجارب المختلفة لكل الاحزاب والمجموعات الثورية العمالية في شتى انحاء العالم. ولكنا ندرك ان بناء اممية عمالية جديدة سيتم من خلال بلورة تجربة ثورية جديدة، ولن تكون نتاج مجهود فكري وتحليل نظري فحسب.
ان العبرة الاهم التي نستخلصها ان حركة التغيير لا بد ان تكون مؤسسة على الطبقة العاملة ونقاباتها. فالماركسية ليست برنامجا لبناء حركات الاحتجاج، وهي بعيدة كل البعد عن النهج الفوضوي الذي يسيطر اليوم على الحركات المناهضة للعولمة. ان الماركسية مذهب وعقيدة وبرنامج الطبقة العاملة اولا واخيرا، لانها تسعى لنقل وسائل الانتاج الي ايدي المنتجين، اي الى ايدي الطبقة العاملة. فدون العمال لن تكون هناك ثورة يمكنها ان تتحدى وجود النظام الرأسمالي. من هنا، فنقطة البداية في عملية اعادة البناء، تحتم الانخراط في صفوف الطبقة العاملة وتأطير العمال غير المنظمين والذين يشكلون اليوم الاغلبية الساحقة من العمال، وتسليحهم بالتربية بالوعي الطبقي والسياسة الثورية. ليست هناك حلول سحرية، ولا يمكن القفز عن هذه المهمة. فقط اذا تمكن الماركسيون من تجنيد الاغلبية الساحقة من عمال العالم، سيكون بالامكان تحقيق الهدف الاساسي وهو دحر النظام الرأسمالي وبسط سلطة الطبقة العاملة. لن يكون هذا بعملية انقلابية، ولا بعملية ارهابية، ولا بعملية استفزازية او إعلامية، بل يكون بعملية بناء طويلة المدى تستوجب الصبر والثقة بالنهج الماركسي وبالطبقة العاملة، والايمان بان الثورة الاولى لم تكن الاخيرة بل هي فاتحة لثورات لاحقة وان الاتحاد السوفييتي تجربة غنية يجب دراسة العبر من ايجابياته وسلبياته. ولكن الدرس الاهم الذي علمنا اياه لينين والذي لا يجب نسيانه باي حال، هو ان دور الثوريين ان يصنعوا الثورة، واذا سنحت لهم الفرصة فعليهم الا يضيعوها لانها قد تكون الاخيرة