عبد الحكيم باقيس*

مفارقة "هي شكل من أشكال القول يساق فيه معنى ما في حين يقصد منه معنى آخر، وغالباً ما يكون مخالفاً للمعنى السطحي الظاهر" ، وللمفارقة وظيفة دلالية بلاغية تؤديها في النص، ويتطلب تلقيها الوعي بها وبشفرتها التي تشتمل على دال واحد ومدلولين اثنين؛ أحدهما أصلي مقصود، والآخر شكلي ظاهر، وتكمن أهمية الاستعانة بالمفارقة التي تضمر أكثر مما تظهر في "أن التعبير المفارقي هو انتقال من الآلية والمباشرة والحرفية إلى الحركية والتعبيرية وشد عرى الخطاب" ، والمفارقة لغة اتصال سري بين الكاتب والقارئ، وقد تكون في جملة أو فقرة معينة في النص، وقد تشمل النص بأكمله ، ومن هذا الاعتبار ستنطلق قراءة العنوان الحالي من كونه يتضمن تعبيراً مشفراً بواسطة المفارقة.

يتكون عنوان رواية (قهوة أميريكية) لأحمد زين من كلمتين، نعت ومنعوت، الأولى كلمة (القهوة) وأصل دلالتها اللغوية هي "الخَمْرُ، وسميت بذلك لأنها تُقْهِي شاربها عن الطعام، أي تذهب بشهوته" ، وفي دلالتها المعاصرة هي الشراب المستخرج من نبات البن، أما الكلمة الثانية فهي نعت القهوة بأنها أميركية، ومن هنا يبدأ العنوان في لعبة المفارقة، ذلك أن القهوة قد ارتبطت مكاناً باليمن، موطن شجرتها التي خرجت منه إلى العالم، ونسبة القهوة إلى أمريكا الدولة التي تشكل القوة القاهرة سيمنح القهوة في فضاء العنوان دلالة جديدة ـ ولايمكن تجاوز دلالة الجناس بين القهوة الأميركية والقوة الأميركية..! ـ وحضورها في العنوان قد يوحي للقارئ بتلقي نص ينطوي على شيء من هذه الدلالات المرتبطة بالقوة والهيمنة وشعارات الديمقراطية وغيرها، مما ارتبطت به أمريكا في واقعنا المعاصر، لكن النص سيحجب الإشارة المباشرة لها، عدا في ارتباطها بعلبة مسحوق القهوة الذي انجذب له عارف عند مرافقته كاثرين في ذهابها إلى السوبر ماركت؛ "وجد نفسه يمد يده إلى واحدة من تلك العلب ويقلبها بين يديه، يتهجى، تستر تشويس أمريكان كوفي، تحضره شركة نستله الأمريكية" ، ثم سيأتي ذكر القهوة الأمريكية في النص أكثر من خمس مرات .

ولكي نفهم مفارقة العنوان وشفرته لابد أولاً من الاتجاه في القراءة من العنوان إلى النص، فرواية أحمد زين أشبه بالمدونة لمجموعة من تفاصيل الواقع اليمني المعاصر، يصوغها على لسان السارد الأصلي الشاب (عارف) الذي يصوب عينيه ووعيه إلى هذا الواقع فيروي بضمير المتكلم تارة، وبضمير المخاطب تارة أخرى حين يتوجه بالحديث إلى ذاته في سيل من تداعيات الذاكرة، يُستبطن فيها وعيه الداخلي، في دلالة على تشظي هذه الذات الساردة، ويتشارك السرد معها راوٍ خارجي أكثر حرية في السرد، وفي السخرية من المشاهد والأحداث التي يرويها. وتتناول الرواية بشعرية بالغة تفاصيل الواقع السياسي اليمني، وترصد آثار التجربة الديمقراطية المعاصرة الحافلة بالتحولات والمفارقات، حيث الأحزاب والحريات العامة ومظاهرات الاحتجاج، وبنفس الوقت حيث المسكوت عنه؛ كالقمع والإرهاب والاختطافات، والفقر، وكل ما يحفل به الشارع من مفارقات وتناقضات، لايمكن النظر إليها ـ كما يرى عارف ـ إلا من خارجها وبعيني سائح أجنبي ، وعندما يعجز عارف أن يكون جزءاً من هذا الواقع يستغرق في أحلام اليقظة الزائفة، ثم يصحو منها على شعور من الإحباط يدفعه في نهاية الرواية عند اكتشاف فشله في تغيير حياته إلى حالة من الجنون والتفكير في الانتحار.

وفي ظل مرارة الشعور بالعجز الذي يعيشه عارف بسبب فشله في أن يكون له "تاريخ شخصي" يحقق فيه ذاته وأحلامه يأتي الحديث عن القهوة الأمريكية في النص مقترناً بلحظات اليأس التي يمر بها وبفشله في إعداد أكوابها، "فكر أن القهوة ستغير طعم الحياة في فمه، وستجعلها بألوان بهيجة في عينيه ... فشل تماماً في صنع قهوة أمريكية بمذاق رائع كما يشاهد في الإعلانات" ، ويتكرر فعل الفشل هذا حتى آخر الرواية، "تذكر علبة القهوة الأمريكية، تذكر فشله في أن يصنع كوباً منها، وسقطت نظراته إلى أسفل حيث الشارع يكتظ بالسيارات وبالمارة والمجانين، يحاولون العبور بمشقة، كأنما يرفض أن يعترف بفشله في تغيير حياته، وبأن القهوة الأمريكية خذلته أيضاً" ، وواضح أن السارد لايتكلم عن القهوة في دلالتها المعروفة، وإنما جرى تشفيرها في النص لتعني شيئاً آخر قد يقرأ بأنه فشل التحولات الديمقراطية في إحداث تغيير جوهري في واقع حياة الشخصية، فالحديث عن القهوة الأمريكية والفشل في إعدادها يتكرر بعد كل مرة يكتشف فيها عارف أن كل ما حوله يلفه الزيف والخداع، وكأن الجميع من حوله قد اشتركوا في لعبة كاذبة، فالمتظاهرون الذين شاركهم مسيراتهم واعتقل في إحداها يبدون ـ كما يصفهم السارد ـ كأنهم يؤدون أدواراً زائفة، يصلون إلى لحظة معينة في التظاهر ثم ينصرفون غير مكترثين عن وقت "اللهو" في التظاهر إلى وقت "الجد" في مضغ القات ، والمحقق لايبالي به ويسخر منه ويطلق سراحه ويحرمه من لذة أن يكون له تاريخ سياسي في المعارضة، وحادثة اختطاف كاثرين التي شغلت الجميع في المركز الثقافي لم تكن غير حادثة مزيفة، أما شخصية عبدالقوي صديق عارف فلم تكن غير نموذج لشخصية المثقف المزيفة، التي عجزت عن القيام بدورها وتحولت إلى كاريكاتور يثير السخرية، يبدو عبدالقوي وهو يؤدي أدواراً زائفة في المناسبات المتعددة، يقول كلمات ليست من تأليفه، ويهتف بشعارات يجهلها، ويتحدث باسم جمعيات ومنظمات لاوجود لها، وفي مشهد حافل بالدلالة الكثيفة، قبل نهاية الرواية، يلقي عارف بالسائل البني الداكن للقهوة الأمريكية التي فشل في إعدادها في فتحة الحمام، حيث وجد الرائحة الكريهة للسائل الرمادي لبراز عبدالقوي نموذج المثقف السياسي المزيف ، وهكذا يمكن أن يقرأ العنوان بأن الكلام عن القهوة الأمريكية والفشل المتكرر في تناولها أو "في صنع قهوة أمريكية بمذاق رائع كما يشاهد في الإعلانات" إنما هو كلام جرى تشفيره عن واقع التحولات الديمقراطية وما يعتريها من مفارقات، وعن عجز النخبة الحداثية عن القيام بدورها في بناء المجتمع المعاصر، ومدى تقبل المجتمع التقليدي للتحولات الديمقراطية.

إن مفارقة العنوان في (قهوة أميركية) هي جزء من المفارقة التي يحفل بها النص على عدة مستويات، المفارقة على مستوى تقاطب الفضاء الروائي الذي تدور فيه الأحداث، حيث حركة الشخصية بين عالمين مختلفين؛ قاعات وكافتيريا المجلس الثقافي البريطاني الذي يتلقى فيه عارف دروساً في اللغة الإنجليزية، والشارع الذي يسوده القلق والتوتر، وخوف السارد من مصير محتوم ينتظره إما برصاصة قاتلة لاتقصده، وإما لحاقه بطوابير المجانين الذين يشاهدهم ويخشى أن يلحق بهم، والمفارقة بين سطح الشارع حيث لوحات الإعلانات للبضائع والسلع الفارهة التي تعلو رؤوس المارة، وقاع الشارع حيث المجانين والفقراء الذين ينظرون إلى اللوحات الاعلانية التي تستفزهم ويحلمون بأن يكونوا جزءاً من عالمها، والمفارقة على مستوى شخصية عارف بين حلمه الشفيف، ووعيه الزائف بواقع لامجال فيه للحالمين، وهنا يكتسب اختيار الاسم (عارف) دلالة خاصة، بل قد احتفي بهذه المفارقة منذ العتبة النصية التي تلي العنوان مباشرة، في الاقتباسات التي ترد لفلاسفة كبار من أمثال نيتشة وإلى جوارها يأتي اقتباس منسوب لراكب باص ساخط على واقعه، أنطقته الحياة التي يعيشها حكمة الفلاسفة الكبار، وفي ظل هذا الاحتفاء بمستويات المفارقة، كان على النص أن يستقبل قارئه بمفارقة يصنعها منذ عتبة العنوان.