لقد انطلق فكر النهضة من طرح سؤال مركزي محوره "لماذا تقدموا وتخلفنا"، نتيجة تقدم الغرب وتخلف الشرق، إلا أن فكر النهضة اتسم في مجمله بالتوفيقية وقصوره عن تشخيص مواطن الداء الحقيقية. فمن جهة أسّس محمد عبده وجمال الدين الأفغاني العروة الوثقى واهتمّا بالرابطة الإسلامية، وقد ذهب محمد عبده إلى أنّ ابتعاد المسلمين عن جوهر الدين وعن الإسلام النقي الخالص هو سبب البلاء الذي عم المسلمين لذلك قال في هذا السياق عندما زار فرنسا بأنه قد وجد إسلاما ولم يجد مسلمين!، إلا أن هذه الرؤية السلفية لم تستطع أن تستوعب لحظتها التاريخية، وعجزت عن تقديم حلول ممكنة لواقع متدهور.
ومن جهة أخرى فقد ذهب شق آخر إلى القول بضرورة تأسيس دولة التنظيمات وذلك بإصلاح الجيش والتعليم ونظام الجباية، فرأى في الدولة الغربية الليبرالية نموذجا جاهزا يمكن سحبه على المجتمعات الإسلامية على غرار فرح انطون وغيره. فكانت مواقف هذا الشق أيضا قاصرة عن فهم التطور التاريخي الذي حققه الغرب وصولا إلى هذا النوع من الدولة. وبقي نتيجة لذلك هذا السؤال حول كيفية تحقيق النهضة معلقا إلى يومنا هذا، وقد ازداد عدد المفكرين الذين اشتغلوا على هذا السؤال فتعددت واختلفت مرجعياتهم ومنطلقاتهم في التعاطي مع هذه الأزمة. لم تحل إشكالية النهضة ولكنها أثارت جدلا مهما للغاية ولعل مساهمة محمد أركون من بين المساهمات الجادة التي حاول من خلالها صاحبها تقديم مشروع مغاير في ظل واقع أصبح اليوم مزدحما بأصوات تنادي بالإسلام هو الحل، أصوات أوغلت في التشدد وفي طرح نفسها على أساس أنها الوصي الشرعي للدين، وهي أصوات ترى في تناول بعض المسائل الدينية تعديا على الدين ومسا من قدسيته، فالدين لديهم قد اكتمل ومن ثمة فهم يعتبرون أنّ أيّ اشتغال جديد عليه إنما هو ممنوع بل هو"محرّم شرعا"
يدعو أركون في جلّ كتبه تقريبا إلى تثوير التراث ورفع القدسيّة عنه من أجل قراءة عقلية علمية وتفكيكية تحليلية، هي قراءة تنأى عن القراءات الإيمانية وتنتهج الشك الديكارتي الذي يقطع مع الحدود المسيّجة والمعرقلة للعقل لسبر أغوار الفكر الإسلامي. فهو ينطلق من أن الفكر الإسلامي قد شهد في مراحل متعددة: "نظرة عقلية مستمرة و متكررة في ظروف تاريخية واصطدامات سياسية واجتماعية متنوعة، وهي النظرة المنطلقة من وجود "إسلام" صحيح أصيل يتطابق مع مفهوم الدين الحق لمكافحة البدع والرد على أهل الأهواء والنحل وإبطال الملل الضالة المضلّة وإبعاد أو إخضاع جميع المنحرفين عن الصراط المستقيم والحقّ المبين والفرقة الناجية."(1) يرى أركون أنّ هذه الفكرة قد خلقت جدلا فكريّا مهمّا وجميلا في الآن نفسه، ذلك أنّ الجدل في تلك الفترات قد تأسست له شروط وكان على الأطراف المنخرطة فيه أن تخضع لها أولا وانه كان محفزا على البحث والتفكير من اجل تقديم الاستدلال ثانيا والبرهان. لكن أركون لا ينكر هنا ما لفكرة الإسلام الصحيح أو الإسلام الحق من انعكاسات سلبية بل وخطيرة أيضا، فهي تكشف مدى الدائرة التي كان ولا يزال الفكر الإسلامي يدور فيها، هذه الدائرة التي تأسست على فكرة الواحد، الوحيد والأوحد، دائرة تتسم بالانغلاق وإفراد من يخرج عنها إفرادا يصل أحيانا إلى حرق الكتب والتكفير والقتل. لا يتردد اركون في طرح حقه أو حق المفكر المعاصر بالمساهمة في الخوض في هذه النظرة التاريخية للفكر الإسلامي، لذا فهو يحاور أصحاب هذه النظرة من داخل الفكر الذي يؤمنون به " الإسلام الحق"، لئن اجتهد القدامى في تقديم تفاسير للقرآن باعتباره نصا "حمّال أوجه" فإنهم قد تناولوه بالتفسير وفق معايير معرفية كانت نتاجا لفتراتهم الموضوعية والتاريخية، ويشير هنا إلى أمر خطير اليوم والمتمثل في غلق هذا الباب على القدامى وإجهاض كل محاولة ترى أن هناك علاقة جدلية بين النص وواقعنا الموضوعي اليوم. يكسر أركون من داخل الفكر الأحادي منطق الأحقية هذا ويفتح المجال للتعدد والاختلاف في التعاطي مع الفكر الديني. في هذا الإطار يطرح اركون سؤالا على غاية الأهمية: " هل هناك من سبيل علمي للتعرف على هذا الإسلام حتى يجمع عليه العلماء أم هل يجب أن نعدل لأوّل مرة عن النظرة التقليدية ونقرّ بضرورة التعددية العقائدية لأن مصدر "الإسلام" هو القرآن"(2).
يتخذ أركون من الغزالي وابن رشد نموذجا للكشف عن طرق ومناهج تناول الفكر الديني لدى القدامى، ولئن كان يثمّن مجهود وقيمة هؤلاء، إلاّ أنه لا يتردد في التصريح بأن تلك المناهج كالقياس والاستدلال والمعارضة والتحقيق والرد والرفض والحد الخ(3)، لا يمكن أن تفي اليوم بالغاية. إن السؤال الذي يطرحه اركون هو كيف يمكن قراءة النص القرآني في عصرنا الراهن ؟ إن مجرّد طرح هذا السؤال يكشف الحاجة الملحة لقراءة النص قراءة حديثة حتى يستجيب إلى متطلبات هذا العصر. لقد أصبح من الضروري الانفتاح على مجالات مختلفة للمعرفة وعدم الاكتفاء بما تقدمه كليات الشريعة التي تعتمد جلها على النقل والاجترار لما أنتجه القدامى. وفي هذا الإطار يتضح مفهوم القطيعة الاركوني، فالقطيعة المعرفية التي يدعو إليها لا تعني الانفصال عن الماضي وعن التراث إنما هي النتيجة الحتمية للتطور التاريخي العام في مجتمع ما، لذلك فهو يدعو إلى وجوب إدراك معناها للتخلص من الميثولوجيا والانتقال إلى مرحلة الربط بين المعاني وتاريخيتها بالاستعانة بكل منجزات العلوم الإنسانية والاجتماعية. تحدث هذه القطيعة المعرفية عندما تتغير نظرة العقل نفسه إلى المعرفة وطرق إدراكه للواقع وتعبيره عن تأويلاته له(4). ويثير اركون مسالة "اللامفكّر فيه أو المستحيل التفكير فيه"(5) في الفكر الإسلامي مبرزا أنّ العقل أنتج اليوم معارف جديدة تجاوزت وتخطت معارف القدامى ولابد من الاستفادة منها، وتجدر الإشارة هنا إلى كل ما تم انجازه في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.
لكن الموقف المتصلب لما يسميه أركون بالأرثوذكسية الإسلامية لا يقرّ بهذه القطيعة، إنما يقف موقفا دفاعيا يجعله لا ينخرط في انجاز فعل الحداثة متعللا بأن هذه الأشياء أنتجها الغرب وهي من ثمة لا تصلح إلا له على الرغم من إقرارهم بأن الغرب قد استفاد مما أنجزه الفكر العربي. ويبرر أصحاب هذا الرأي موقفهم بالقول بخصوصية مجتمعاتنا وبضرورة مراعاة بيئتنا، بل هنالك من يرى بضرورة ما يسمونه بـ "تبيئة المصطلح" -إذا تعلق الأمر بالديمقراطية والمجتمع المدني وغيرها- على غرار بعض من تناولهم اركون بالنقد في هذا الكتاب وفي مجالات أخرى كالجابري وغيره. ويصنف اركون العلمانية ضمن اللاّمفكر فيه في الفكر الإسلامي(6)، فهو يعيب على بعض المفكرين المعاصرين أمثال الجابري وحسن حنفي عدم تفاعلهما مع ظاهرة الدين وظاهرة الدولة والسلطة. فالجابري لا يتردد في رفض العلمانية فهي على حد زعمه: "فصل الكنيسة عن الدولة، والإسلام ليس فيه كنيسة لنفصله عن الدولة"(7). أما حسن حنفي فقد ذهب في هذه المناظرة إلى تخوين أسماء كثيرة من مفكري الإصلاح مثل فرح انطون ونقولا حداد وغيرهم من الذين هم من خلفيات مسيحية ورميهم بالعمالة للغرب. وهنا يسقط حسن حنفي في ثقافة الفكر الواحد المهيمن الذي يقصي الآخر المختلف حتى من التفكير ويؤسس لمفهوم الفرقة الوحيدة الناجية ورمي الاخر بالمروق عنها والضلال المبين. لذلك يرى أركون أن بعض المفكرين قد سجنوا أنفسهم داخل خطابات إيديولوجية شاعت وكانت بمثابة السند القوي لدعم ما يسمى اليوم بالإسلام السلفي والأصولي. فالحركات الإسلامية المعاصرة تدعو إلى استعادة نموذج قديم ترى فيه قمة النقاء والاكتمال، نموذج فترة الرسول محمد وما يسمى بالخلافة الراشدة. هذه النظرة للواقع هي عينها ما يرفضه أركون، لأنها نظرة لا ترى في التاريخ أية ديناميكية وتحرك، بل هي نظرة تتعسف على الواقع لأنها ببساطة لا تأخذ كل إشكالياته وكل منجزاته بعين الاعتبار.
وينتقد أركون هذه القراءة معتبرا إياها انحرافا عما رسمه القدامى كالغزالي وابن رشد من "القواعد السليمة "، فصاحبها قد أوغل في "التقليد الأعمى والتعصب"، فهم تعاملوا مع فضائهم المعرفي وعلى قارئ اليوم أن يكون أيضا مواكبا لعصره ووفيا لفضائه المعرفي. ويردّ اركون سبب هذا التعصّب إلى برامج التعليم في البلدان الإسلامية التي تغيّب فيها الفلسفة وتاريخها المتواصل أو تقدمها بشكل أبتر ومشوه في المدارس والجامعات مما نتج عنه ما يسميه بـتحويل الفسحة العقلية إلى فسحة مخيالية محضة "(8)، الأمر الذي ساعد على انتشار خطاب إسلامي وجعله ينتعش في فضاء مخيالي شعبوي، وهذا ليس إلا نتاجا لسياسية الدول الإسلامية التي تسعى إلى المحافظة على مصالحها بنشر هذا النوع من الثقافة والمعرفة المحدودة والتي لا تعترف لا بالتاريخانية ولا بالعقل الناقد في مؤسساتها أو في برامجها. وهنا تحديدا يمكننا أن نفهم قتل فرج فودة بتهمة العلمانية، فقد سأل القاضي المجرم الإسلاموي عن سبب قيامه بهذه الجريمة، كان ردّه: "لأنه علماني"، بل لقد كانت المصيبة أكبر عندما سأله القاضي عن: " معنى العلمانية"، كانت الإجابة الصدمة: "لا أعرف". إننا في ظل هذا الواقع التكفيري الذي يؤسس للحجر على الفكر والتفكير وينشر وعيا إسمنتيا لا نستغرب انتعاش الحركات الإسلامية وأفكارها السلفية المدعومة من السلط بكل الوسائل لانّ بقاؤها وانتشارها إنما هو بقاء السلطة وهيمنتها ولنا أن نلقي نظرة على المجالات المتاحة لهذا الفكر من إعلام مرئي وسمعي. هنا لا بد أن من لاإشارة إلى قناة الجزيرة نموذجا لما لها من انتشار في جل البلدان الإسلامية. من المعلوم أنّ هذه القناة إنما هي قناة إخبارية لكننا وللمرة الأولى في تاريخ القنوات الإخبارية نصدم بكمّ كبير من بث برامج لدعاة الدين مثل برنامج الشريعة والحياة والذي تعيد القناة بثه في اليوم الموالي ولساعات طويلة. ولقد استدعت الجزيرة سنة 2004 المفكر أركون والشيخ إبراهيم الخولي في برنامج الاتجاه المعاكس وتاه صوت أركون الأستاذ الأكاديمي الهادئ في صراخ داعية وخطيب تمرس على الخطب الدينية والسياسية الرنانة. وقد علّق اركون نفسه عن هذا اللقاء بقوله: "وجدت نفسي أمام إنسان وحشي لا يحترم قواعد المناظرة، ففضلت السكوت لأنه لا مناظرة مع رجل لا يحترم كلمة الفكر. وفي هذا يجب أن تسأل قناة "الجزيرة" عن كيفية ممارستها لتبليغ نصيب من التثقيف والتربية للرأي العام العربي والإسلامي ضمن الظروف التي نعيشها"(9). وقد وجه المفكر السوري جورج طرابيشي نقده على الهواء مباشرة وفي البرنامج نفسه متسائلا عن المعايير التي يختار وفقها المتحاورين: "أما في الحلقة الماضية فقد وضعت رجلاً عالماً (اركون)لا يتقن سوى لغة العلم والمفاهيم الباردة الهادئة العلمية في مواجهة خطيب ومحرض جماهيري يتقن الخطاب الإيديولوجي وفن الردح التهييجي".
لم ينجح هذا البرنامج في تقديم نمط من الحوار العقلاني بل هو يعمّق ثقافة شعبويّة تخل بأبسط قواعد الحوار ولا أدلّ على ذلك ما يتسم به من صخب وصياح. لقد ساهم هذا البرنامج في تهميش الخطاب العقلاني الذي هو بطبعه خطاب النخبة الأمر الذي يجعله عسير المنال لدى الجماهير العريضة وفي بيئة انتشر فيها الاستبداد والاستغلال والفقر والجهل وتخلف البرامج التربوية والاجتماعية، وقد وجد شيوخ الإسلام السياسي في هذه البيئة أرضية خصبة لنشر ثقافة "الفقيه" تلك الثقافة التلقينية التي تلغي العقل وتدعو إلى الطاعة العمياء لأولي الأمر أيا كانوا.
لئن كان صوت أركون خافتا في ذلك البرنامج تحديدا أو على مستوى الإعلام العربي عموما إلا أنّ فكره عميق وضارب في التاريخ الإسلامي والإنساني بشكل عام، إنه جسر ممتد بين الماضي واللحظة التاريخية الراهنة. يقول اركون إنّ "الحق نفسه خاضع للتاريخية"(10)، ينزاح مفهوم الحق في المطلق من مفهوم مغلق ليصبح حقائق عديدة ومفتوحة. يخلع اركون عن الحقيقة كل قداسة ليفتح الباب للعقل والاجتهاد فيؤسس لثقافة الاختلاف في كل المجالات والدين أحد هذه المجالات. إنّ ما يصفه البعض اليوم على أنه شريعة مقدسة ويراه ثابتا وصالحا لكل زمان ومكان إنما هو في حقيقة الأمر اجتهاد بشري خاضع لفضاء معرفي محدد فقد اجتهد الشافعي أو ابن حنبل أو غيره وفق المعايير التي كانت متاحة في عصرهم ولابد من الاجتهاد اليوم وفق المعايير المتاحة في عصرنا من أجل الخروج من حالة الانحطاط والتخلف والمساهمة في انجاز الحضارة الإنسانية. يعتبر مشروع اركون الإصلاحي لحظة قراءة تعقل ذاتها، فهي تؤصل للعقل في الفكر الإسلامي من جهة وتدعو إلى الانفتاح على منجزات الحداثة من جهة أخرى من أجل تجديد الفكر الديني وتنويره وتخليصه من الجمود والاحتكار الأرثوذكسي الإسلامي.