تنعقد بعد بعض الوقت ندوة ذات خصوصية بالغة
الأهمية في "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت
الشهر الجاري تحت عنوان "ثمار العقلانية والتنوير
في الفكر العربي المعاصر". وتأتي أهمية البحث في
العقلانية عربياً من أن عملية التشكيك في "العقل"
العربي والشخصية العربية تتسع، يداً بيد مع بذل
جهود مركزة لإغلاق الآفاق المفتوحة أمام العرب
ومستقبلهم. أضف إلى ذلك أن هنالك صعوبات ومشكلات
جمة تنحدر من عصر النهضة العربية، مع إنتاج
مجموعات أخرى جديدة من الصعوبات والمشكلات تجد
الآن قمتها. وربما كانت في مقدمة تلك مشكلة تتمثل
في أن معضلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي
المعاصر يكاد يكون حضورها فيه مقتصراً على بعدها
النظري، ومن ثم في أن "تجارب" العقلانية والتنوير
ضئيلة وربما قاصرة وهجينة. ونعني بذلك أن تجسّد
تلك المعضلة في الحياة السياسية والاقتصادية
والعسكرية والثقافية العربية، ظل مشروعاً مفتوحاً
ينتظر من يجيب عليه ويشخصه.
وإذ يظهر هذا الواقع عارياً، يقف "أوغاد
التاريخ" مردّدين أن هكذا هي الأمور لدى العرب.
فهم غير قابلين للتقدم، وهم إن شاءوا التقدم
فعليهم الانضواء تحت راية الآخرين. والحق، إن في
المسألة نظراً، فهنالك ضرورة للتمييز بين
العقلانية والعقلية. ذلك أن هذا التمييز يضع يد
الباحث على فكرة طريفة مهمة هي أن "العقلية" تمثل
إحدى تجليات الفكر العربي العمومي، سواء في
الحضارة العربية الوسيطة أو في عصر النهضة بل كذلك
في العصر الراهن. فهي ملكَة لعلها أن تكون موجودة
في حياة العرب في وجودهم الأولي الطبيعي. ومن ثم،
فإن تقريراً كهذا من شأنه إقصاء الآراء العرقية،
التي تسحب "العقلية" من حياة شعب، وتقر وجودها في
حياة شعب آخر.
أما العقلانية فهي - في عمومها- منظومة من
الآراء والإرادات والمبادئ والأهداف والآليات تظهر
في حقول التنظيم الاجتماعي والسياثقافي والاقتصادي
وغيره من عسكري وحقوقي وحرفي... إلخ. وبهذا، فهي
نمط من ترشيد الفعل الإنساني في رؤية استراتيجية
عقلية. وإذا كانت قد برزت جموع من العقلانيين في
الغرب، منهم "ماكس فيبر"، فإن ذلك أتى بفعل
الثورات التي انطلقت هناك على الصعيد الاقتصادي
والسياسي والثقافي خصوصاً، بحيث أتت جملة من
المذاهب الفكرية والسوسيوثقافية لتحقق عملية
الانتقال من "العقلية" إلى "العقلانية"، مثل
العلمانية والليبرالية، ومن ثم، فقد ظهر العقل
التغييري الجديد عبر تحويل الأولى إلى "فعل"
وإرادة ومؤسسة في سياق تاريخي مفتوح وحرّ بقدر
معين.
إن القول بـ"ملكة العقلية" إنما هو إقرار بما
يقترب من البديهيات المعطاة مع الوجود الإنساني
العاقل والفاعل أو العامل "هومو سابين" و"هومو
فابر" ولذلك، لا فضل في ذلك في حياة الناس، إن لم
يحوّلوه إلى ما أشرنا إليه (فعل وإرادة ومؤسسة).
لقد أخفقت التيارات السياسية العربية المعاصرة،
خصوصاً منها تلك التي تبوأ قادتها السلطة
السياسية، في المشروع العربي لأسباب متعددة، ومنها
النكوص عن عملية التحويل المذكورة. فقبل استلامهم
السلطة، كانوا قد قدموا أنفسهم إلى جمهورهم بمثابة
من يحمل همّ الوطن بين حناياه. وبعد استلامهم
السلطة، كانوا أول من أخذ يلتهم الثمار، وآخر من
تنحّى عن الامتيازات. ومع الإقرار بالاختراقات،
التي راحت تتالى باتجاه البلدان العربية مع تحقيق
استقلالاتها السياسية من قوات الاحتلال الأجنبي،
فإن النظم العربية فرّطت باللحظات المضيئة
والمثمرة في السنوات الأولى من الحكم الوطني، يداً
بيد مع تيار من الفساد والإفساد راح يجتاح تلك
البلدان بقيادة من على رؤوسها؛ ناهيك عن النكوص عن
إنجاز المهمات المتصلة بالتنمية الاقتصادية
والسوسيوثقافية، وبتوطيد الجيوش العربية حيث تحولت
إلى جيوش من المستهلكين على حساب التوازن
الاستراتيجي مع الآخر.
إن معضلة العقلانية في الفكر العربي المعاصر
إنما هي معضلة البنية المجتمعية العربية وإشكالية
الفعل والإرادة والمؤسسة المصادر عليها من نظم
بيروقراطية مترهلة. ومن ثم، فإن إعادة بناء
"العقلية- الملكة"، في إطار نظام متقدم للإنتاج
المعرفي وضمن عملية مفتوحة من الفعل والإرادة
والمؤسسة الحرة، تمثل واحدة من بدايات لما هو قائم
على صعيد ما نحن بصدده.