كتبتها مؤخرا عن أحوال الثقافة في المؤسسات الثقافية الفلسطينية الرّسمية ردود فعل تنوعت بين مؤيّد ومعارض. ذلك أمر منطقي ومألوف، على أن أبرز ما وصلني من ردود كانت رسالة من الأمين العام الجديد والمنتخب مؤخرا لاتحاد»الكتاب والأدباء الفلسطينيين»، الشاعر مراد السوداني، والذي كتب لي رسالة وصلتني عبر البريد الالكتروني يعبّر فيها عن تضامنه مع ما اعتبره هو شكواي الشخصيّة من كلّ ما تعرّضت له خلال العقدين الفائتين من حرمان للحقوق، بل وأكثر من ذلك وعده بأن تكون مسألة إنصافي في رأس جدول أعمال الأمانة العامة الجديدة، وتحفيزه لي على إرسال مخطوط مجموعة شعرية كي يقوموا بطباعتها ضمن منشورات الإتحاد.
شخصيّا، لقد رأيت في رسالة الزميل الأمين العام بادرة طيبة تستحق الثناء، وقد فعلت ذلك عبر رسالة تضمّنت ردّي على رسالته الإيجابية، وما بشّرت به من روح عمل جديدة بعد كل تلك السنوات المريرة من الترهُل التي وسمت الحياة الداخلية لمؤسسة الكتاب النقابية، والتي كان الطابع الأبرز فيها الانقسامات وغياب الدور المستقل، وبالتأكيد غياب الفاعلية. مع ذلك فقد أوضحت في رسالتي موقفي من المؤتمر الأخير للإتحاد الذي عقد في مدينة البيرة الملاصقة لرام الله، وهو موقف لا يرى جديدا في نتائج ذلك المؤتمر، خصوصا وأن هيئته القيادية العليا قد تمّ انتخابها بالتزكية، أي دون أن يترشّح أحد أمام «قائمة الوحدة الوطنيّة» التي شكّلتها الفصائل والتنظيمات والأحزاب، فجدّدت بتشكيلها نظام الكوتا الفصائلية التي رأيت ولا أزال أنها السبب الأبرز في كلّ الإخفاقات التي يعيشها الإتحاد.
هكذا تصوّرت أنني التزمت الموضوعية، وبالذات فكرة أن موقفي ينطلق من حيثيات ووقائع تحيط بالإتحاد وليس من مواقف شخصية تطال هذا الزميل أو ذاك ممّن ضمّتهم لائحة الأمانة العامة الجديدة، فالمهم في رأيي وضع النقاط الصحيحة على حروفها الصحيحة، والسعي بجهود جماعية لتأسيس حالة نقابية جادة تسمح بتمثيل الجميع وتؤدي لحرّية تفاعل الجميع ممّن نفترض أنهم أهل القلم والإبداع والفكر، والمعنيين بالشأن الثقافي، وتنقلهم من حالة التباعد إلى بوتقة اللّقاء.
غير أن ردّا لم يأت على ردّي.
صمت الأمين العام وضعني تماما في صلب ما لم تقله رسالته، أي أن تكون شؤوني الشخصية شبه إعلان عن اهتمام الأمانة العامة الجديدة بقضايا الكتاب وأمورهم المعيشية وحقوقهم، بصورة استعراضية، خصوصا بعد البيان الذي وقّعه ثلاثون من أبرز الشعراء والكتاب المقيمين في الضفة الغربية، والذي أعلنوا من خلاله رفضهم للمؤتمر الأخير، والنتائج التنظيمية له، ودعوتهم لتصحيح ما حدث، ومعها تصحيح معادلات العمل بالإتحاد، وخصوصا التخلُص من هيمنة كوتا الفصائل والأحزاب وتقاسمها «كعكة» المقاعد القيادية.
ذلك لا يتعلّق بشؤون المنظمة النقابية للكتاب وحسب، لكنه يطال الشأن النقابي عموما، وهو حدٌ بين ذهنيتين تسعى المهيمنة منهما لتكريس حالة نقابية شكلية تنتج منظمات نقابية ملحقة بالهيئات القيادية الرسمية للمنظمة والسلطة، فيما تسعى الأخرى لإحداث تغيير حقيقي يتيح إعادة تأسيس المنظمات النقابية على أسس نقابية فعلا، ومغادرة حالتها الراهنة كيافطات سياسية يجري استعمالها لخدمة التكتيكات اليومية بغض النظر عمّا إذا كانت تكتيكات صائبة أو غير صائبة.
هي معادلة على درجة بالغة من الأهمية والحساسية أيضا. ولأنها كذلك أعتقد أنها تحتاج لوقفات كبرى لمراجعة مسيرة العقود الفائتة، وملاحظة الفارق الجوهري بين منظمّات نقابية سياسية تأسست في مراحل مختلفة من التيه الوطني الفلسطيني، وبين ما نفترضه من منظمات مختلفة تعيش اليوم مراحل مهمة من مراحل السعي للاستقلال، وتشهد دخول المشروع الوطنيّ برمته في مواجهات مباشرة وغير مباشرة مع تحدّيات كبرى بات عنوانها الأبرز والأشدُ خطورة الهجمة الاستيطانية المنظّمة للحكومة الإسرائيلية، وما تتضمّنه من سياسات تبديد الوجود الفلسطيني الديمغرافي والسياسي في القدس خصوصا، وفي الضفة الغربية عموما.
نضيف لذلك كلّه مسألة نراها على غاية من الأهمية والخطورة تتعلّق بالثقافة ومبدعيها في مناطق الاحتلال الأول في الجليل والمثلث والنقب.
لقد فرضت حدود التسويات السياسية المأمولة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل الحديث عن الضفة الغربية وقطاع غزة كأرض للدولة الفلسطينية. غير أن هذه المساحة الجغرافية لا يجوز أن تكون فضاء المثقفين والمبدعين كما هي حال السياسيين. فالمنطق أن يحضر في الذهن دائما الحد الفاصل بين الشأنين الثقافي والسياسي، ومن البديهي أن قبول السياسي بحدود جغرافية ناقصة عن فلسطين التاريخية الانتدابية، لا يعني على الإطلاق اعتبار ما يبدعه فلسطينيو «الخط الأخضر» خارج إطار الثقافة الفلسطينية. بل إننا نرى العكس تماما هو الصحيح والحقيقي، ذلك أن حضور فلسطينيي العام 1948 «الحقوقي» في الدولة الإسرائيلية لا يلغي ولا يقلّل من حقيقة كونهم أقلية فلسطينية تنتمي لبقية شعبها ذاته، وتنتج ثقافة هي بالضرورة جزءا حيويا من ثقافته. إن لم نفعل هذا نكون كمن يضع بعضا منه خارج نفسه وخارج شخصيته، بل إننا من الناحية العملية الواقعية نلقي خارج الثقافة الفلسطينية بعضا من أهم نتاجاتها الإبداعية ورموزها المبدعة في الشعر والسينما كما في الموسيقى والفن التشكيلي وغيرها من الآداب والفنون ونهديها للدولة الإسرائيلية.
أن تلتزم الثقافة بحدود جغرافية تقرّرها موازين القوى العسكرية والسياسية الراهنة أو المستقبلية، يعني تماما تخلّيها عن أهم وأبرز صفاتها وأكثرها حيوية، وهي حقيقة كونها إنتاجا إبداعيا يصدر عن الرُوح الفردية المتطلّعة دوما عن البحث الذي لا يكل عن الحقيقة والجمال بما هما قيمتان لا تخضعان لاشتراطات السياسة ومقتضيات أحوالها، وما تحمله عادة من تغيُرات وتبدُلات لا تستقر ولا تثبت.
يحتاج الفلسطينيون بالتأكيد لقراءة أكثر جدّية في شأنهم الثقافي.
الأمر هنا يتجاوز محنة اتحاد الكتاب والأدباء الراهنة، على رغم ما تستحقُه من اهتمام، لنصل جميعا لأهمية الفعل الثقافي ذاته، ومعها أهميّة رؤية الفوارق الحقيقية بين الإبداع الثقافي وبين الإعلام. فالخلط القائم اليوم يستمرُ في النظر للإبداع الثقافي بوصفه لونا ما من ألوان الإعلام، يعزّز من ذلك هيمنة فكرة «التوظيف» التي تنطلق من فكرة أخرى تقول بالرّد على ادعاءات العدو، دون أن تلاحظ الفارق الجوهري بين نوعين من الرّد أحدهما آني يومي، تكتيكي الطابع هو فعل الإعلام ووظيفته، بينما الآخر استراتيجي جوهري ينتمي محقّقوه إلى عالم الإبداع والجمال اللذين هما بالضرورة عالمي الخير والحقيقة.
غير ذلك ليس سوى استمرارنا في إهدار الوقت والجهد والمال في غير الميادين والساحات الحقيقية، أي في إعادة إنتاج أزماتنا كلّها ومنها أزمة المؤسسة النقابية، التي رغم أهميتها تظلُ «وسيلة إيضاح» لمجموعة كبرى من الأزمات المماثلة، الواضحة، بل والجارحة في وضوحها.