- ( قلت له: وايش فيها لما تركب البنات جنب الأولاد؟ في اليمن يركبوا عادي. شي طبيعي، ويدرسوا في صف واحد كمان. قال: "بروح ادرّس في اليمن).
- منو هذا؟
- (أستاذ الجغرافيا. تصور أستاذ جغرافيا، مولود ومتربي في السعودية، ما يدري بعمر المملكة الحقيقي. دخلت معاه في نقاش ساخن. تصور إنه ما يدري حتى إن الحرب العالمية الأولى انتهت عام 1919م. لو فكر شوية كان عرف إن عام 1919م هو التاريخ الحقيقي لتأسيس المملكة العربية السعودية، لأن قبل هذا التاريخ كانت عادها ما اكتملت.)
(أيوب) لا يكف، منذ أربعة أيام، عن الحديث عن إقامته في السعودية والعمل هناك متخفيا، وعن محاولته اكتساب لهجات أغلب مناطق المملكة وإتقانها حتى لا تكتشفه الدوريات وترحله. أعترف أني قسوت عليه بإنصاتي اللامبالي بشكل واضح. و لا شك انه قد شعر بذلك من أسئلتي له عن تفاصيل يذكرها لتوه، ولا تستدعي التكرار سوى لشخص كان شاردا عن المتحدث. لكني لا أستطيع إلا أن اشرد، خاصة أن طريقة كلامه تساعد على الشرود، فهو يتوقف، بشكل متكرر، عند نقاط تبدو مناسبة لإنهاء موضوع حديثه، ثم يستأنف الحديث عن نفس الموضوع بتفاصيل أخرى تكون أقرب إلى المخيلة في حالة ربطها بالزمن الذي تمتد فيه لحظات التوقف. هذه الطريقة مشوقة، على الأقل إلى حد ما، لذلك فالحكم على أنها تساعد على الشرود، ليس عدلاً. بل ربما أن الأمر مرتبط، بدرجة أساسية، بمزاجي المتداعي مع تفاصيل خروجي برفقة امرأة لم أكن أتوقع موافقتها على تكرار الموعد، ناهيك عن حدوث ما لا أطمع بحدوثه في أحلامي .
اصطحاب امرأة أكاديمية والخروج معها إلى اقرب جناح عائلي في كافيتريا أو مطعم، ثم التنزه في شوارع مدينة صغيرة لا تخلو من أصدقاء لكلينا، بعض طلابها أو أشخاص يعرفون عدم ارتباطنا بعلاقة مقبولة اجتماعياً، من المتوقع أن نلتقيهم وجها لوجه أو يرونا دون أن نراهم، أمر كهذا يستحق أن يسمى مغامرة أو على الأقل أن يوصف بالخطر، خاصة في مجتمع محافظ، أفراده لا يغفرون هذه (الخطيئة) حتى الأصدقاء المنفتحين منهم؛ (بيننا ما حرم الله). سيعززونها لدينا كخطيئة لا يمكن غفرانها بأي حال، وفعل لا أخلاقي محرض على الرذيلة، و لا يستبعد أن يشوا بنا إلى اقرب دورية شرطة متلهفة لابتزاز ما بحوزتنا من نقود، مجوهرات وما توفر من أغراض الاستخدام الشخصي؛ هاتف محمول، ساعة أو ما شابه. لن يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الإهانات اللفظية والضرب غالبا ما تكون مصاحبة لعملية ابتزاز أو (تسوية) مماثلة. بالنسبة لرجل متزوج، يكون احتمال رؤيته برفقة امرأة أقرب إلى كونها زوجته، لكن في حالة الاشتباه بكونها ليست كذلك، تتم عملية التسوية الأمنية، والاجتماعية أحياناً، حتى إذا كانت بالفعل زوجته. هذه التفاصيل مرعبة ومجرد ذكرها أمام حبيبتي الناضجة سيمنعها من الخروج مرة أخرى، خاصة إنها في موعدين متتاليين لا تأخذ الحيطة بوضع (دبلة) في يدها اليسرى كي تبدو متزوجة، رغم أن عمرها التقديري يوحي بذلك. لكن حتى إذا حدث وعرفت بكل هذه التفاصيل، فسأقنعها أن اهتزاز شخصية الرجل أو ارتباك المرأة أثناء أي استجواب يتعرضان له هو ما يجعل المتطفلين يتمادون في التشكيك بعدم شرعية رفقتهما. هذا الاهتزاز لن يحدث لي بأية حال، وإذا ارتبكت هي، سأعالج الموقف بحكمة (القبيلي)، وسأدعي بأكبر قدر من الذكاء أني شخصية مهمة و ذو نفوذ، وهذا ما يمكن أن يجعلني استفيد من مهارتي الدرامية التي اكتسبتها من مشاهدة السينما والتلفزيون وانشغالي بحبك القصص والحكايات لتبرير وجود منديل معطر برائحة نسائية غريبة نسيته في جيب بنطالي، أو تبرير الخدوش التي تتركها الفتيات على رقبتي وساعدي. في الحقيقة، هذه المرأة استثنائية للغاية. لم يسبق أن نسيت التفكير بالاتزان والاهتمام بنظرات المتطفلين مع أي من رفيقاتي، ما فكرت به وأنا برفقتها كان يلح على ضرورة أن أعيش معها أجمل اللحظات الممكنة وأطولها، والتمادي بالحركة لتطوير العلاقة إلى أقصى حد ممكن في هذا الموعد. لذلك لم يبد اتزاني مفتعلا. نسيت ضرورة الاتزان وتوحدت بعينيها اللتين تجعلان التعرف عليها ممكناً حتى في حالة ارتدائها النقاب. نسيت اعتبارات كثيرة وهي جالسة في الكرسي المقابل لي في محل الكريمات المثلجة؛ يدانا تلهوان على الطاولة، وأصابع قدمينا تتعارك للفوز بفرصة التسلق. عندما تتغلب أصابع قدمي وتستمر بالتسلق والالتفاف حول ساقها، لا يذكرني بضرورة الاتزان سوى ظهور النادل الذي طردنا في المرة السابقة من على نفس الطاولة. يعود النادل إلى مكانه حيث لا يستطيع أن يرانا، ولا بد انه يستأنف عمله بدون الحاجة لأي جهد نفسي. أما نحن فلا تسمح حالتنا الانفعالية بعدّ عمليات التنفس العميق اللازمة للتظاهر بالوضع الطبيعي لزوجين في شهر العسل كأقرب مبرر لتماهينا غير المحترز. في الحقيقة لا ادري كيف تزول مرارة ظهوره المتلصص الذي لا بد انه يخطط له جيدا ويختار التوقيت الذي يتوقع فيه أننا قد استعدنا أنفاسنا المضطربة. مثل هذا الشخص، اعرف كيف يبني اعتقاده بالخدمة الجليلة التي يقدمها للمجتمع ولنا على وجه التحديد، بهذا الظهور المتلصص؛(سيساعدنا على عدم ارتكاب الخطيئة). اعرف أشخاصاً مثله يعتقدون أنهم سيحصلون على مكاسب كبيرة من الله حتى بعد موتهم. لكن هذا النادل بغيض، باعتقادي، لدرجة تستدعي شتم جميع حريمه وصفعه على عينيه الأكثر شبهاً بعيني خنزير. لا يبدو في وجهه أمل في أن يعترف بحقنا في الاستمتاع بلحظات حميمة، ولأنه كذلك، بالإضافة إلى ما يبدو عليه من غباء، لا أعيره اهتماما عندما يتزايد شعوري بألم المراقبة؛ أسترسل بتمشيط كفيها بأصابعي واختلاس لمسة لنهدها المحاذي للجدار مع تخمين موفق لموقع الحلمة والمرور عليها بقرصة خفيفة. أسترسل بحميميتي في حين أخطط لإحراجه برد فعل متزن في حالة أتى ليمارس دور المراقب الأخلاقي أو الناصح، وباستطاعتي أن افعل أكثر من ذلك، هذا ليس صعباً. أستطيع أن أصارحه برغبته في مغادرتنا للمكان في اللحظات التي تخلو جميع الكبائن إلا من فتاتين في الكابينة المجاورة لنا. ظهوره المتكرر والمرتبك في هذه اللحظات يوحي برغبته بالاختلاء بالفتاتين قبل قدوم زبائن جدد، وعرض شهامته وطيبته لاجتذاب واحدة منهما على الأقل. هذا تخطيط جيد للمساومة. تمتلئ الكبائن مرة أخرى بالزبائن، لكن كلهن نساء. لا اصدق أني الرجل الوحيد في المكان، باستثناء طفل واحد يقاوم بشراسة كي لا تجلسه أمه على الطاولة. لم يعد (سنو كريم) كما كان في بداية افتتاحه. النساء، والفتيات خاصة، يرتدن المحل بدون رجال. ربما لم يعد المتنفس الوحيد للعشاق! هل نضجوا إلى هذه الدرجة، أم أنهم يتواعدون في أماكن أخرى لا يراقبهم نادل فضولي أو امرأة أربعينية تجلس حيث يمكنها رؤيتنا بوضوح؟ هذه الأربعينية إما أرملة أو مطلقة أو أنها متزوجة من رجل لا يناسبها. تنظر إلينا بخبث من يريد المساومة، ومهارتها تبدو أكبر مما أخطط لفعله مع النادل. أخبرت صديقتي بتوجسي من أن أكون مراقباً. لا أتذكر هل قلت (توجس) أم (مجرد احتمال)، لكني لا أظنه توجساً. مجرد امرأة تنظر إلينا بفضول، لماذا أفترض أن تكون مستخدمة لمراقبتي؟
2)
طلبت مني أن أكتب لك عن التفاصيل التي أثارتني في هذا الموعد، ولا أخفيك أني لا أستبعد انطواء طلبك هذا على نية توظيفي في أحد أبحاثك،(أنا آسف يا حبيبتي لسوء ظني، أعرف أنك لن تؤاخذيني، فصدرك واسع وطيب.. إنني أمزح فقط). وعلى أية حال فقد تنبهت الآن إلى أن ما يتداعى في ذهني من مشاهد، متركز على الألم أكثر من المتعة ووصف الشعور بالسعادة التي عشتها وأنت برفقتي. ولكن هل يحتاج المتداعي لتذكر الأحداث الحميمة و تفاصيل شعوره بالسعادة؟ لا ادري إن كان علي أن ابدي رأياً في التحليل النفسي، لكني فكرت لوهلة إن الكبت يستهدف الألم أكثر من المتعة، وعندما يريد المعالج أن يستدل على نجاح التداعي بنسبة معقولة لتصديق (العميل)، فإن التركيز على الألم لدى المتداعي يمثل هذه النسبة. لأن مشاعر وانطباعات السعادة تصبح ادعاءً يهرب من خلاله العميل لإخفاء شيء ما مهم عن المعالج. (هل أنا مريض يا دكتورة؟)
هل يعني هذا أني لم استمتع بتوقف صوتك على منتصف الكلمة، ولم يثرني انسكاب الرغبة من عينيك على ما يظهر من جسمي فوق الطاولة، بمجرد تحرك قدمي على ساقك بشكل مفاجئ؟ كلما استعدت هذا المشهد لا أتمنى أكثر من بقائنا لوقت أطول بعيدا عن عيون المتطفلين. إنني أتذكر تفاصيل سابقة لهذا الموعد وأفترض حدوث أخرى لاحقة.
(أشتيك): أتذكرين هذه الكلمة التي كنت أجيبك بها عندما تسأليني بلهجتك اليمنية الأصيلة:"إيش تشتي مني؟) كنت ارتبك، وكانت علاقتنا لا تؤهلني للإجابة بشكل تفصيلي، وفي الحقيقة، لا أعرف إلى الآن ماذا أريد منك.! لم أكن أجد غير هذه الكلمة الغامضة التي تحتمل التأويل لأكثر من معنى ولا توجد كلمة أكثر منها تعبيرا عن رغبتي بالاندلاق بين نهديك اللذان أصاباني بالدوخة بمجرد أن شاهدت الجزء الظاهر منهما فوق البلوزة المرقطة. لم اشعر، في حياتي، برعشة مثل التي هزتني اليوم وأنا أقاوم رغبتي المتوحشة في العض واللعق والتسلق على إجاصتين لا تحتملان مزيداً من النضج، ولا أستطيع الصمود أمامهما لأكثر من دقيقة. تذكرت وأنا امسح بإصبعي على المنحدر الفاصل بينهما، أنك قلت لي ، لأول مرة، نفس الكلمة أثناء مكالمتي لك بعد ظهر اليوم على الهاتف لتحديد المكان الذي سنخرج إليه؛ قلت أيضاً انك تفكرين بي طوال الوقت وأنت وحيدة في شقتك، ثم صمتّ فجأة. وعندما سمعتُ في صوتك الخافت ما يشبه هذه الكلمة-الرغبة متداخلا مع نهاية(الووووو) التي أردت أن أتأكد بها من انك لا تزالين على الخط، لم أكن متأكداً تماماً من أنك تقولينها: (أشتييييك) كررتِها مرة أخرى وتنهدنا بطريقة غير مرتبة. أدركت في ذلك الوقت أي ثقل يجثم على صدرك وأي إحساس بالوحدة تعانيه. فكرت أن ارتب لقاءنا في مكان مغلق؛ فندق أو منزل خرج ساكنوه في نزهة ليوم واحد فقط أو لنصف يوم حتى. لكني، بعد أن اتهمني (الضمير) بالاستغلال، لم أحاول إقناعه، (كم أكره هذا الضمير)، خاصة انه تحدث باسمك وباسم مشاعرك التي يمكن أن تنزعج أو تسيء فهم رغبتي المتدفقة لعناقك وتقبيل كل مسامات جسدك الأسطوري، أردت أن ادعكِ تعبّرين عن اشتهائك لي بالطريقة التي تروقك، واعبّر عن اشتهائي لك بالطريقة التي تروقك أيضاً. عندما خرجنا من محل الكريمات المثلجة وركبنا التاكسي، شعرت أني أخطأت في تقدير ملامح السائق. كان عليّ أن اختار تاكسي بسائق ذو ملامح منفتحة لا توحي بالتطفل. التصاقي بك داخل التاكسي أشعل اشتهائي، وقاومت يدي بصعوبة كي لا تمتد لتتحسس نهديك وشفتيك المسيجان بنقاب طويل كان من الممكن أن استغله لإخفاء ذراعي عن مرآة السائق، لكني خشيت أن نتداعى كلينا ويطردنا من سيارته أمام أقرب مسجد.
هذا الموعد ذو تفاصيل عصية على التذكر. كلما حاولت أن أتذكر بأي مبرر أقنعتك لاصطحابك إلى إحدى العيادات الخاصة في المدينة، لا أستطيع أن أتذكر كيف خطرت لي الفكرة من أساسها. صدقيني لم أخطط لذلك، ولم أقرأ اسم الطبيب وتخصصه على اللوحات الخارجية والداخلية. لا أتذكر سوى ازدحام غرفة انتظار النساء واحتضاني لك في منتصف الدرج الضيق والقبلات التي وزعتها على برقعك المحكم، وأتذكر أيضاَ ووشوشاتك المتقدة: (أنت مجنووون..!). نعم أنا مجنون وفي طريقي إلى الموت جرّاء هذا الجنون. المجنون ربما يتمنى أن يعود إلى عالمه العاقل، لكن أنا لا أستطيع إلا السعي إلى عالم الجنون هذا كلما ابتعد عني. كيف أتخلص من سيطرة اشتهائك وكيف أتوقف عن عشقك وأنت تحتوين عبثي وجنوني باشتهاء أكثر عبثية وأكثر جنونا؟ بعد أن نزلنا من العيادة كنتُ قد نسيت ما هو المرض الذي ادعيته للطبيب، وفكرت لو أني عرضت عليك فكرة الذهاب إلى فندق، لربما وافقت وسلمنا من نصف المبلغ الذي دفعناه في العيادة. كان من المؤكد حصولك على فرصة الاسترخاء بين أحضاني ونسيان رصانتك الأكاديمية التي تغلف جسدك الطافح بالأنوثة. مشينا ملتصقين وكنت أرى الناس في الشارع و في الميكروباص لا ينظرون إلينا بريبة. هل كنا عقلاء في تحريك كتفينا وفخذينا، أم إن ركاب الميكروباص كانوا، كما بدَوا، ريفيين طيبين؟ نزلنا من الميكروباص ومشينا ملتصقين أيضاً في مدخل حي الروضة. في تلك اللحظة ونحن نمر من تحت صف الأشجار الناجية بعد توسيع الشارع، كنت أتخيلك الطفلة التي تحكين عن شعورها بالمرح وهي تمر تحت صف الأشجار التي قلت أنها كانت تمتد لمسافة أطول قبل عشرين سنة تقريبا. تسأليني عن المبنى الذي يطل من خلف المحلات الثلاثة ذات الطابق الواحد، ثم تجيبين في نفس اللحظة: (هذه مدرستي. لقد تغير لونها وارتفعت قليلا). هل كانت صدفة عندما ذكرت المدرسة في نفس اللحظة التي كنت أتخيل شعورك بالمرح غير منفصل عن شعور طفلة في طريقها من أو إلى المدرسة؟ بعبارة أوضح، عندما كنت تحكين عن شعورك بالمرح أثناء مرورك، وأنت طفلة، من تحت صف الأشجار، كنت أتصورك إما ذاهبة إلى المدرسة أو عائدة منها، تصورت ذلك قبل أن تخبريني أنك درست صفوفك الأولى في تلك المدرسة.
انعطفنا في شارع فرعي آخر بدون اسم، مثل معظم شوارع المدينة، وبدوت أكثر رغبة مني في إطالة الطريق. كم أعبدك وأنت ترغبين أكثر مني. رغبتك غير مبتذلة وغير قابلة للانفصال عن العاطفة. كل ما فيك شاعري ويولد الإحساس المفعم بالشعر، لكني أحاول، عبثاً، ألاّ أجتر ما يقوله الشعراء عن حبيباتهم. لا أريد أن ابقي على مفردة واحدة اشك أن عاشقا آخر يستخدمها أو يمكن أن يستخدمها لوصف معشوقته. ولماذا أصفك؟ أنت امرأة عصية على الوصف، لا أستطيع أن أزيد حرفا واحداً على كونك امرأة لم توجدين قبل تاريخ ميلادك ولن تتكررين أبداً. أنت أنت. لا تشبهين امرأة ولا تشبهك امرأة. في الشارع الفرعي أوشكت على فقدان قدرة احتمالي لاحتكاك ذراعي، الملتوية من تحت ذراعك، ببروز مكتنز لا يكف عن الهياج. فكرت أن تطويق خصرك ومداعبة أرنبة أذنك أمر طبيعي، لكن إنارة الشارع الجيدة كانت أكثر سوءا من تطفل النادل وخبث المرأة الأربعينية. الطريق لا زالت طويلة، وأنت تسأليني بقلق
كم الساعة الآن؟) قدرت أن الوقت قد تجاوز الحد المسموح به لبقائك خارج البيت، فأوقفت أول حافلة في خط السير المؤدي إلى حارتك. افترقنا، ودخلتِ زقاقاً لم أعرف من قبل أنه أحد مداخل الحارة. ارتبكتُ كثيراً، وقطعت الشارع دون حذر من السيارات، ولا ادري ما إذا كان سائقوها قد ثرثروا أو شتمني بعضهم. اعترتني رغبة برية في الركض خلفك وأنت تغيبين في ظلام الزقاق، لكني بدلاً من ذلك دخلت محلاً لبيع مستلزمات الهاتف المحمول، وسألت عن أسعار أدوات لا احتاجها ولن اشتريها. لقد كان ذلك المحل أقرب طريق مفتوحة بجانب الزقاق.
3)
لم أركز أنها لم تودعني إلا عندما اتصلت بي بعد افتراقنا بأقل من 5دقائق. اعتذرت لدرجة الأسف عن عدم توديعي وبررت ذلك بخوفها من أن يتعرف عليها أحد وهي تسلك طريقاً غير طريقها المعتاد إلى البيت، ثم قالت إنها افتقدتني فور دخولها الزقاق، وأضافت بعد لحظة صمت مني أطول من الحاجة للرد: "طيب... باي حبيبي؟ علشان متأخرش زيادة. اتمنّا لي التوفيق باختلاق مبرر مقبول لخروجي متنكرة بجلباب إذا صادفت أحد سكان العمارة قبل ما أدخل شقتي.... بتصل بك بعدين.". "أنا أيضاً افتقدتك بمجرد أن فكرت بضرورة افتراقنا". لم أقل ذلك على الهاتف، وإنما فكرت أنه قد يكون رداً أبلغ من تعيبرها عن افتقادي. "باي حبيبي..."، وأعدت الهاتف إلى خاصرتي مع انتباه مفاجئ لتوقف الحافلة. لوح لي شاب وهو يدس شيئاً ما في جيبه: "محاسب يا أستاذ". وجه الشاب ليس غريباً، لكن تذكره يتطلب مني جهداً لتذكر كل الأماكن التي يناديني الآخرون فيها بـ"الأستاذ"، بما في ذلك المدرسة. قد يكون أحد الطلاب الذين كنت أقسو عليهم في صف الرياضيات. ومع ذلك لن أهتم كثيراً بمن يكون، ولا حتى قليلاً. المهم أني لم أصادفه في الحافلة التي كنت فيها برفقة صديقتي، وحتى إن كنت صادفته، فالأشخاص الذين لا ألتقي بهم باستمرار لا يثيرون لدي القلق من حدوث مواقف، تبدو لي محرجة، أمامهم. المهم أني الآن سعيد لدرجة نسيان كل شيء غير موجود أمامي. سائق الحافلة يدندن بأغنية لأبوبكر سالم
رسينا يا شواطي الشوق، رسينا والأماني فوق)، ومعاونه في المقعد الأمامي يدفع بشريط إلى داخل المسجل؛ أبو بكر يغني هذه المرة بصوته:
(من منّنا معصوم ما قد يوم زَلْ
من مننا واحد بعمره ما عمل زلّة
الآدمي دايم معرض للزللْ
في حين لُه وعليه
ليه يا خلّي تعاملنا برد الفعل ليه)
لحن الأغنية جميل، لكن كلماتها تقلص من سعادتي، ليس لأني أشعر بالزلل، بل لأن العشق دائماً في قائمة الإثم حتى لدى العشاق أنفسهم. رغم ذلك، فالنشوة تطوح بالسائق ومعاونه، وتمتد إلى الركاب في المقاعد الخلفية. أثار فضولي للالتفات إلى الخلف، صوت أحدهم وهو يطلب رفع صوت المسجل
يستر عليك.. صوتك يا خال صوتك). معظم الركاب في المقاعد الخلفية يحملون كرات صغيرة على خدودهم، محشوة من الداخل بحسب اتساع كل خد. يمضغون القات* بطريقة توحي ببدء (التخزينة) في وقت مبكر من فترة ما بعد الظهر، لكن أكثرهم انتشاءً هو ذلك الذي يطلب رفع صوت المسجل. لم تكن كرته قد تشكلت على خده بعد، لكنه يتناول نوعية جيدة من أغصان القات بطريقة مميزة، الأمر الذي نبهني إلى أني تركت القات الذي اشتريته في الظهر مع صديقي. نوعيته جيدة أيضاً، وهذا الراكب يشوقني للإسراع إلى حشو كرة في خدي. سأتصل بصديقي لكي نتعشى معاً، ثم (أخزّن).
4)
لا زلت سعيداً، لكن ليس كما كنت في الحافلة. رائحة العطر عالقة في أنفي وأنا حائر، إلى درجة كبيرة، بين الذهاب إلى البيت أو البقاء لتمضية الليلة مع صديقي. ولأني مأخوذ بزهو المنتصر، لا بد أن يكون قراري سريعا بالسهر خارج البيت. كل شيء متوفر؛ الماء البارد، المشروبات الغازية، القات والسجائر، وأهم شيء أن (أيوب)، صديق صديقي وضيفه أيضاً، لم يغادر يوم أمس كما كان يقول، وهو يلح عليّ بالبقاء على اعتبار هذه الليلة هي الأخيرة له عندنا قبل أن يغادر غداً بكل تأكيد. أيوب هذا قصة حزينة، رغم أنه يحكيها بمرح، وأحياناً بطريقة متكلفة تساعدني على تبرير شرودي عنه.
إيحاءات شرودي تزداد؛ النظر إلى سقف الغرفة، تفحص أغصان القات بطريقة مبالغ فيها قبل تناولها، وهز رأسي مع تحريك جفنيّ إلى الأعلى للتدليل على تفاعلي مع حديثه أو تصفح الأرقام المخزونة في الهاتف والتظاهر بالاتصال بأحدهم. (الناس مش أغبياء)، سيضطر إلى تحويل وجهة كلامه إلى مضيفه أو أي وجه يلتفت إليه، وعندما يفعل، اشعر برغبة الإنصات لكل ما يقول، أو على الأقل، ما أستطيع التقاطه من لهجته السعودية المكسرة ومواضيعه المتشعبة؛ مهارته في الرسم، إطلاعه الواسع مقارنة بطلبة الثانوية العامة في السعودية ومغامراته في التهرب ومغافلة دوريات حرس الحدود. لقد تنبه إلى أني أصغي إليه، ولا بد أنه يدرس جدوى اندهاشي من قصته مع أستاذ الجغرافيا في (أبها)، يحكي ويوزع نظراته بيننا جميعا، لكنه يكف عن النظر إليّ بمجرد أن رفعت الهاتف إلى أذني مرة أخرى. الهاتف هذه المرة ليس تظاهراً، بل إنها صديقتي (الدكتورة) تتصل، وأنا أتحدث معها بصيغة المذكر: