شِعرِيّة الصّمت
خيري منصور
(الأردن)
ليس الرسم
مجرّد ضاحية نائية للشعر، يقيم فيها اقاربه الفقراء، تماما كما ان الرواية
مهما اقتربت من الشعر تبقى كالشجرة التي عبثا تسعى الى عناق شجرة بالقرب
منها، وما نسب الى سيموفيدس يبقى الخلاصة او الرّحيق لما تقطّر من شعرية
الرسم، فالشعر رسم صامت كما قال والرسم شعر ناطق، وبينهما من الاواصر ما لا
تقوى العين المجردة على ابصاره، وهذا ما دفع شاعرة مثل اديث سيتويل كي
تكتب عن شاعر أحب شجرة قديمة وظل يرسمها الى ان تحول الى شجرة !
أول مرة
اجتذبتني فيها هذه العلاقة الآسرة بين الرسم والشعر، عندما قرأ الراحل
يوسف الصائع مقاطع من مجموعة بعنوان “سيدة التفاحات الأربع” وكان يرسم
اثناء القراءة فيما يقطر الدمع من اصابعه مثلما كان يرشح من صوته.. خصوصا
عندما قال:
حين رشّوا على القبر ماء الوداع الاخير
فتحت عينها ثم راحت تقارن
ما
بين تابوتها والسّرير !
كانت الأمسية بمناسبة غياب مفاجىء لحبيبة الشاعر، ولعله كان يحدس بهذا
الغياب عندما رثى السيّاب في قصيدة “انتظريني عند تخوم البحر”، فالنذر هو
النذر والحجل المبلل بالندى هو الحجل ايضا :
نذرا لو عاد حبيبي معافى
ارقص ارقص حتى يندى الحجل على قدمي
ويسيل
الكحل على خدّي ..
ومنذ ذلك المساء المفعم بالنّدى وندف الياسمين وأنا أفكر في هذه الآصرة
بين المرسوم والمكتوب شعرا، كلاهما ينهل من النبع ذاته، لكنهما قد يتوازيان
ولا يلتقيان شأن العديد من الجيران الخالدين في هذا الكون، وما حاوله نزار
قباني في أحد دواوينه وهو بعنوان “الرسم بالكلمات” ليس ما أعنيه في هذا
السياق، لأن القصديّة النزارية حالت دون تدفق البراءة الأولى، فبدت الرسوم
كما لو انها بأبجدية مُلوّنة، لكن الجذور بقيت حيث هي، نائية ويحتفظ كل
منها بشكله وبإيقاعه .
ان اول ما يمكن ملاحظته حول ما قاله سيمونيدس او
ما نسب اليه، هو الشاعر الرّسام الذي يزاوج على نحو جدلي وخلاّق بين وسيلتي
التعبير باللون والكلمة، وان كان هناك شعراء رسموا باللغة مثل لوركا الذي
تبدو بعض المشاهد في قصائده البريّة لوحات ناطقة، ومنها ذلك المشهد للفستان
الحريري الذي كلّما خطت به الغجرية سمع صوته وكأن سكين الريح تمزّقه، او
شهد ناسجة الراية، التي كلما غرزت الابرة وقد تخللّها خيط احمر، أصبح
المشهد جرحا في الهواء، ولوركا لا ينفرد بهذا الرسم لكنه الأبرز والأكثر
اجتذابا بسبب سلامة الفطرة لديه، وبكارة الرؤى .
* * * * * * *
يروى عن الرسام زيكسوس انه خدع البشر في مبارزة بالرسم مع زميل له،
فالزميل رسم عناقيد فاكهة، سرعان ما هبطت عليها الطيور، وكانت لجنة التحكيم
قد طلبت من الاثنين أن يغطي كل منهما لوحته بستارة بيضاء، وما ان كشف
الرسام الذي خدع الطيور الستارة عن لوحته حتى حسم الامر لصالحه، لكن اللجنة
من باب المجاملة فقط طلبت من زوكسيس ان يرفع الستارة عن لوحته فأجاب بهدوء
بأنه لم يرسم سوى السّتارة! وقد لا تليق كلمة خداع بالفن الا بقدر تعلّقها
بالبصر ومحدوديته، فالتنافس بين الشاعر والرسام ليس على اصطياد طائر او
انسان، بل على بلوغ ذلك الشغاف القصيّ للروح، فالارواح لها عذريتها ايضا
وأغشية بكاراتها، ومنها من يعيش قرنا ثم يموت بكرا، وبالعودة الى عبارة
سيمونيدس حول الشعر الصامت والرسم الناطق، نجد اننا ازاء نمطين من الصّمت،
أحدهما سكوت مطلق والآخر سكوت ملغوم بأصداء لا آخر لها، فالطّلل والقبر
صامتان لكن من الطراز الثاني، لأنهما يثرثران طيلة الوقت بلغة تشبه الحفيف،
او هما أشبه بتلك اللوحة عن مزهرية فارغة، تذكّرنا طيلة الوقت بالورد
الغائب عنها، لهذا فإن شعرية الصّمت ليست العزوف عن كتابة الشعر، بل
الانتشاء به وعدم تحويله الى لغة، وهذا ما عبّر عنه على نحو دقيق فالاس
فاولي عندما كتب عن السوريالية، فقد رأى ان هناك تجارب عظيمة وبالغة
التعقيد قد لا تقبل التحويل فيتم الانتشاء بها، وهو بهذا التحليل يقارب
الصوّفية والمشترك بينهما هو الحلول، وثمة تجارب في شعرية الصمت مارسها
مبدعون معروفون لكن في نطاق تجريبي وفانتازي، ويروى مثلا عن فرجينيا وولف
انها كانت تحاور صديقها بصمت لساعات، فالاثنان يجلسان متدابرين او ظهرا
لظهر كما تقول احدى قصائد الهايكو اليابانية لكنهما يحدقان الى البحر ذاته
ويصغيان الى الأمواج ذاتها !
* * * * * * *
من النماذج القصدية للشعر الصامت والرسم الناطق ما قدّمه الدادائيون،
ومنهم من رسم شراعا بتكرار كلمة شراع فقط، لكن الشراع يتضاءل كلّما اوغل في
الابحار بحيث تبدو القصيدة ذات المفردة الواحدة المتكررة بنظام ما كما لو
انها تأكل نفسها، ومن النقاد من يرون في هذه الفانتازيا نوعا من الشكلانية
التي لا تزدهر الا في خريف الحضارات، وغياب المعنى، ففي الشعرية العربية
نماذج من هذا الرسم بالكلمات، منها ما هو على شكل قبر او شجرة او ثعبان،
وهناك من يستقرئون اللغة جذريا ولا يقرأونها افقيا فقط ومن يلاحظون ان
الرسم هو في الصميم من بعض مفرداتها. وعلى سبيل المثال فإن كلمات مثل موز
ولوز وجوز وقوس مرسومة بالانحناءة القوسية ذاتها، لكن هذه ليست قاعدة،
تماما كما ان كتابة كلمة عسل بتعاقب معكوس لحروفها تحولها الى لسع، وكلاهما
اللسع والعسل من افراز النحل .
انها مفارقات تصلح جماليا ولأسباب أخرى
ايضا لاستخدامات قد لا تكون شعرية بالضرورة لكنها بطرافتها وقوة التأويل
الهاجعة فيها تغري بالبحث عن مثيلاتها .
* * * * * * *
ان القول بأن فنانا ظلّ يرسم شجرة حتى أصبح شجرة يتجاوز التقمص وحتى
الحلول، لأنه يحذف الفارق بين الراسم والمرسوم والرائي والمرئي، وهذا ما
فعله الشاعر بول جيرالدي عندما كتب ديوان شعر قال أنه مكرس لحذف الواو في
عبارة “انا وحبيبتي”، فالواو مسافة حذفها الصوفي من قبل وتاق الى حذفها
الحالمون بالاندماج في ما يعشقون، وأخشى ان يفهم هذا التصور للعلاقة بين
الرسم والشعر في البعد المتداول نقديا وعلى نحو يقرب من السّذاجة، فاللوحة
لا تقبل الترجمة الى لغة غير لغتها وعناصرها، تماما كالموسيقى، وفي احدى
المناسبات طلب من عازف ان يشرح ما اراد قوله من معزوفته فأجاب بثقة ان
شرحها الممكن الوحيد هو اعادة عزفها، وكذلك اللوحة، التي لا تشرح ولا تؤوّل
شعريا الا بإعادة مشاهدتها !!!
القدس العربي
7/3/2010