وَعْدُ الصَّدَاقة
إلى الشَّاعر الراحل محمد عفيفي مطر
صلاح بوسريف
(لمغرب)
صديقي الشاعر
محمد عفيفي مطر؛
أعرف أنَّكَ تَرَكْتَ كُلَّ شيءٍ وراءَكَ، و أنَّك
لَمْ تَعُد تفتح كتابَكَ، كما كُنْتَ تفعل من قبل. حتى الأرض التي كُنْتَ
ترعاها، بعنايةٍ، كما كُنْتَ ترعى كِتَابَتَكَ، تركْتَها، و أنت تعرف أنَّ
ما وَضَعْتَهُ فيها من بُذور سَيُثْمِرُ بعد حينٍ، و هو ما كُنْتَ تفعلُهُ
حتى في اختياركِ الشِّعْرِيّ الذي لم تتنازَل عنه، رغم أَنَّ الكثيرين
كانوا يَرَوْنَ، في ما تكتُبُه خُروجاً عن الوضوح الذي كان لِسَانَ
الكثيرين من أفراد جيلك. اخْتَرْتَ أنْ تكون أنتَ، و رَاهَنْتَ على
المستقبل، رغم أنَّكَ، في شِعْرِك، احْتَمَيْتَ بالماضي. الذين قرأُوُكَ،
على عَجَلٍ، لم يَسْتَسِيغوا كثافة الماضي، عبارةً و تركيباً، في شِعْرِكَ،
و اعتبروا، و هذه هي حُجَّة من لا يملكون جُرْأَةَ اختبار المعرفة في
الشِّعر، أنّكَ غامض، و لُغَتُكَ لا تُطاقُ، أو هي، بالأحرى، لا تسمح لهُم،
كنُقَّاد، أن يعرفوا ما تقوله، أو تُشير إليه، رغم أنك خَلَقْتَ لهم
تشويشاً فـي مفهومهم للشِّعـر، لأنَّك، بقـدر ما ابْتَدَعْتَ " الغموض "،
كدالٍّ شعريٍّ، فأنتَ أبْقَيْتَ في شعرك على الوزن، لكنك اسْتَثْمَرْتَهُ
وفق ما كانت تقتضيه لُغَتُكَ، في ما آلتْ إليه من اشتباكات، لم يكن من
السَّهْلِ على القاريء المُتَعَجِّل أن يَسْبر أغوارَها.
في شعرك، صُنْتَ خصُوصِيتَكَ، رغم أنَّك كنتَ ضمن جيل، طبيعة المرحلة
فَرَضَت عليه الصُّرَاخ، و فرضت على كتاباته أن تكون احتاجاً بالوضوح، و
بتلك الإنشادية الشِّفاهية التي ما تزال حاضرةً في كثير من الشعر المعاصر،
الذي هو اليوم يخوض تجربةَ الكتابة. لم تتخلَّ عن الإنشادية الشفاهية، و
هذا ما كان يجعلُكَ، تتألَّق في قراءتك لشعرك، لكنك بـ " الغموض " اللاَّزم
في شعرك، خَفَّفْتَ من ثقل الصُّراخ، و قُلْتَ ما ينبغي أن يُقال، دون أن
تكون، فَظَّاً، أو مباشراً مثلما حدث لآخرين.
أصبحتَ، اليوم، أكثر قَبُولاً من قِبَل الذين رفضوك بالأمس، ربما لأنَّ
مستوى النضج الشِّعريِّ، ارتفع، و لم تَعُد الأمية الشِّعرية واسعة
الانتشار، كما كانت من قبل، كونها كانت تُعْتَبَرُ ذات منحًى بياني؛ كُلُّ
ما يخرج عن سياق المعنى الظاهر، و المباشر، لم يكن يعنيها في شيء، و كانت،
بالتالي، ترى فيه شرطاً لازِماً للشِّعر.
الرِّيفُ المصريُّ، تُرابُ الأرض، و حيواناتُها، و حتى تلك التفاصيل
الصغيرة التي تَحْفَل بها الطبيعةُ؛ بأسمائها، أو بما لها من صفاتٍ، كُنْتَ
تَجِدُ لها في شعرك مكاناً. ألم تَحْتَفِ في طَرْدِيَاتِكَ بتفاصيل
الطَّرائدِ، و هي تصبو لِدَمِها، أو لأحابيل فِخَاخِكَ. في الشِّعر،
فَعَلْتَ نفس الشيء، كانت فخاخ اللغة كثيرةً، و هي كانت بمثابة الطرائد
التي بادَرْتَ لاقتناصها، حتى و هي شاردة، أو مما لم تألفه شباك الشِّعر.
اخْتَرْتَ عُزْلَتَك عن اقتناع، وَوَارَيْتَ الكثيرَ من الصَّداقات خلف
هذا التَّوَحُّد الذي لا يقوى عليه غير الشُّعراء، بالمعنى البعيد للكلمة.
ألم تكن عزلاتُكَ، هي الطريق الملكي الذي أفضى بك إلى الحياة في تجارب
الآخرين. كانت تجربتك، بما فيها من صعوباتٍ، هي الاختيار الذي دَأَبَت
الأجيال الجديدة على قراءته، لأنَّ هؤلاء، كانوا يدركون ببداهة الشُّعراء،
أنَّ الاحتفاء بالشِّعر، لا يحدُثُ بالصُّرَاخ و الصُّوَر البيانية التي
تُخفي عَجْزَ اللغة عن قول الجميل، بأرقى ما يمكن من الكلام، أو بتلك "
اللغة العليا " التي يكون فيها المعنى خاطفاً كالبرق، بقدر ما يكشف
يَحْجُبُ.
شِعْرُكَ، أيها الصديق الراحل، بَرْقٌ، و هذا ما أَعْشَى أبْصارَ
الكثيرين عن رؤية ما زَرَعْتَهُ من حُقولٍ في أراضي الشِّعر الواسعة و
الكثيرة. فأنتَ واحد من الشعراء الذين اختاروا المستقبل، و الماضي في شعرك،
علينا أن نقرأه بِفِطْنَةٍ و ذكاء، حتى لا نَسْتَبْدِلَكَ، في حديثنا عن
تجربة جيلك بشاعرٍ آخر، نعتبره نموذجاً، و نُبْقيك في الظلِّ، نكايةً، ليس
بك، بل بالشِّعر، و هو ما جعل تجارب عميقةً تبقى مُؤَجَّلَةً، تنتظر زمنها،
لأنها ليست بِنْت زمنها، أو أنَّها وُجِدَت لتأتي من المستقبل.
آلَتَان اليوم تقتلان الشِّعر؛ آلةُ النقد، و الإعلام الذي يُضْفي على
هذا النقد شَرْعِيَةً، أو يعمل على إعطائه صفة العَارِف بالشِّعر، و
بخباياه.
الكثير مما يُكْتَبُ، عن الشِّعر، يحتاج إلى المراجعة. المفاهيم، و
منظورات القراءات، ذاتها، و النص موضوع القراءة، أو الشاعر، بالأحرى.. كل
هذه الأمور تحتاج لاختبار معرفة النَّقْدِ بالشِّعرِ. و أنتَ أيها الشاعر
الراحل، و احد من هؤلاء الذين يحتاج النقد أن يعيد قراءتهم، رغم أنَّ
النقد، كما جَنَى عليك، جَنَى على غيرك ممن ما زالوا يكتبون دون اهتمام
بهذا النقد الذي ما زال يقرأ الغابة من خلال الشِّجَرَةِ.
حين كتبتُ لك رسالةً مفتوحةً، نَشَرْتُها بجريدة " القدس العربي "
اللندنية، فأنا كنتُ أنظر إليك، باعتبارك صَوْتاً حُرّاً، و باعتبار شعرك،
بين الاستثناءات الشعرية التي تصلُ إلى قارئها بِجُرُعاتٍ، و ليس بما يفرضه
الإعلام على القاريء من نماذج سيئة، هي التي تملأ، اليوم، سماء الشِّعر.
تأكَّد، صديقي الشاعر، أنَّ اختيارَكَ الشِّعري لم يكن صَوْتاً بلا صدى،
فالشاعر الذي يُراهن على الشِّعر، و ليس على غيره، فهو يشبه الجِمَار
الكامنة في الرَّماد، القليل من الرِّيح، تكفي لإيقاظ شُعَلِه. لم تكن
مَعْنِياً إلاَّ بالشِّعر، و بتلك النار التي كُنْتَ تنفُخُها فيه ليبقى
مُتَوَهِّجاً، حارقاً، و صادماً، في نفس الوقت.
ليس مُهِمّاً ما عِشْتَهُ من مِحَنٍ، و ما تعرَّضْتُ له من مُضايقاتٍ، و
حتى مما طالكَ من حَيْفٍ، فهذا، يا صديقي، لا يحدُثُ إلاَّ لمن كانوا
استثناءً. أليس الاستثناء تشويشاً للقاعدة، و إرباكاً لنظامها؟
ها أنتَ تختفي إلى الأبد، لكن من سيملأُ المساحة التي شَغَلْتَها في
المشهد الشعري الراهن؟ إنَّ موتَ شاعر خسارة لكل الشُّعراء، أعني أولئك
الذين يرون في وُجود الآخرين مَكْسَباً لتجربتهم، لأنَّهُم يعرفون كيف
يجعلون من التجارب العظيمة أُفُقاً لتجربتهم، و لما يجعلُهم جديرين، هُم
أيضاً، بهذا الاستثناء الذي هو من صفات الشُّعراء الجديرين بصفاتهم.
اعذرني أيها الصديق الشاعر، إذا كنتُ تأخرتُ في الكتابة لك، لكن كُنْ
متأكِّداً أنني قرأتُك دائماً، كما أقرأ الشعراء الذين لَهُم في نفسي أثرٌ،
و أنتَ واحد من هؤلاء الذين أقرأهم دون مَلَلٍ، وبمحبَّة، لأنك استطعتَ أن
تكون أنتَ، وَوَاظَبْتَ على اختلافك، و هذا ما جمع بيننا، منذ أوَّل
لقاءٍ، وَوَعْدٍ بِصَدَاقَةٍ لا تخونُ اختلافاتِها.
21-7-2010